طريق الحرية وعبد الناصر/ عمار ديوب
تداولت صفحات “فيسبوك” لوحة مكتوب عليها “طريق عبد الناصر” أعلاه، وأسفلها “طريق الحرية سابقاً”. وجاء ذلك للتشهير بالزعيم الراحل وسياساته “الاشتراكية”، وتمجيداً للحرية التي رفلت بها مصر قبل الرجل، أي بـ “الليبرالية”. وجدت اللوحة غراماً متصلاً لدى ليبراليين سوريين جدد؛ كانوا يساريين صلبين وآخرين ليّنين، والأمر يعود إلى حقبة سقوط الاتحاد السوفييتي، وبروز وهم العالمية والعولمة، وأن العالم سائر ولا شك نحو التجانس والتطور، وأن كل شر آتٍ من الاشتراكية والدولة الكينزية ودولة الرفاه. وبالتالي، الليبرالية والانفتاح والعولمة وتهديم الحدود هي الحل، وبذلك يصبح لكل فرد مشروعه، ويحقق ذاته، ويمتلك حريته المطلقة. في هذا الجو المفعم بالآمال الزرقاء، ساد الوهم الأعظم أن عالم الشموليات، الإسلامية، والاشتراكية، والقومية، انتهى إلى الأبد، وأن المستقبل ولا شك لصالح الليبرالية. الانشغال المستجد بالحرية أصله في هذا التاريخ، وهناك من يؤصل الأمر إلى اعتبارات أخرى، وأيضاً لن يعدم سبباً للتأصيل لما لا.
نقطة ضعف كل هذا النقاش المركزية أنه لا يتطرق للسبب التاريخي الذي أحدث القطع غير الطبيعي للسيرورة الطبيعية، أي لماذا نجح المشروع القومي، وبالتحديد، أن العسكر والبرجوازية الصغيرة تبوأ سدة التاريخ، ومنذ الستينيات، في أكثر من دولة عربية، وأيضاً لماذا لم تستطع الدول التي نجحت في تفادي هذا المشروع أن تصبح كوريا الجنوبية أو حتى ماليزيا، فقد أخفقت كل من السعودية وتونس والمغرب مثلاً، والأخير لديه مسألة زراعية، تتفجر تباعاً.
القضية التي يتم إخفاؤها، ومن دون تفكير، هي لماذا النظام القديم ما قبل المشروع القومي كان هشاً، حتى استطاع ثلة ضباط صغار في الجيش تصفيته؟ ولماذا لم يدافع عنه الشعب المتمتع بالحرية؟ استطاع المشروع القومي النجاح، لأنه طرح قضايا أكثرية الشعب، بينما فشل النظام القديم لأنه نظام الأقلية المدينية بشكل خاص، أي الملاك الكبار والبورجوازيين، والذي تجاهلوا القضية الزراعية، ولم يهتموا بالقضية القومية. وهذه القضايا، أي الإصلاح الزراعي وفلسطين والوحدة العربية، وما يستتبع ذلك من تعليم عام وإلغاء للفوارق الطبقية الراسخة والعائلات “المقدسة”، ومداعبة أحلام العرب في دولةٍ واحدة، واستعادة أمجادهم القديمة، هذه العناصر ليست تافهة أبداً، وأغلبية الشعب المهمش والمُبعد عن السياسة بين الحربين العالميتين، وإلى لحظة الاستقلال، اندفع نحو المشروع القومي، وطبعاً قبل ذلك أيضاً. إذا هناك سياسات معينة جذبته؛ هي قضايا لا تهم المثقفين الليبراليين، ولا الطبقات الكبيرة طبعاً، فهي ليست قضاياها، وبالتالي، تهتم بقضايا الحرية والديمقراطية، وهذه ولا شك مفاتيح لأية حياة سياسية طبيعية، وهي نقطة الضعف في النظام القومي، لكنها كذلك لم تكن قضايا الطبقات المهمشة، بل الأصح أن شكل الحرية قبل الاستقلال لا يفترض وجوداً لهذه الطبقات. إذا كان الطبيعي أن تكون هذه الطبقات جمهور المشروع القومي والعسكر، وبالتالي، لم يكن الأخيران من خارج التاريخ، بل خرجوا من صلبها وعبّروا عنها.
التغني بالحرية أمر صحيح، وأنه لا تستوي حياة سياسية سليمة من دونها، هو كلام سليم، وهي
“أعطت الثورات العربية الإمكانية واسعة للوصول إلى الحرية بالمعنيين السياسي والاقتصادي” بالمحصلة جملة حقوق للأفراد، وللمجتمع بكليته، لكن الحرية لم تكن موجودة لكامل الطبقات قبل الاستقلال، ولم تنلها الطبقات المهمشة قبل الاستقلال وبعده، وقد أخذت بعده حقوقاً اقتصادية وتعليمية وثقافية معينة، بينما حُرمت الطبقات الأخرى من حريتها السياسية بصفة خاصة، وصودرت أملاك قطاع كبير منها، لكن بعضها تحالف مع العسكر والبورجوازية الصغيرة؛ النظام الجديد اقتصادياً، هو نظام ناهب للثروة وللفقراء، وبذلك همش الفقراء مجدداً، وتم تغييب الحرية بشكل كامل عن المجتمع، وليس عن الفقراء فقط، وتحكّمت الشمولية شكلاً سياسياً للبورجوازية الصغيرة؛ فهي وصلت نتيجة أزمة الطبقات القديمة، لكنها لا تمتلك بذاتها مشروعاً لحل المشكلات، وبالتالي، صارت الحرية قضية المثقفين والكارهين للاشتراكية، وظلت القضية هامشية في تونس ومصر ولبنان، ولم يكن لها وجود في سورية وليبيا والعراق.
أعطت الثورات الشعبية العربية، وبدءاً من 2011، الإمكانية واسعة للوصول إلى الحرية بالمعنى السياسي والاقتصادي، أي للوصول إلى الحقوق، وكان هدفها تحقيق نقلة كبيرة نحو مجتمع حداثي، فطالبت بالحرية والعمل، وهذا كان حال تونس ومصر بشكل واضح وجلي. في سورية وليبيا، كان الوضع معقداً، فطغى الكلام عن الحرية كمفهوم أجوف، وإن طرح موضوع العمل في سورية فبشكل خافت (ضد رامي مخلوف)، وبشكل مستتر، ما يؤكد ذلك أن الفقر في سورية في العام 2011 كان أكثر من 30% والسياسات الليبرالية للنظام تفرم المفقرين، وفي كل المحافظات.
الحرية التي كانت مطلباً رئيسياً ردٌّ دقيقٌ على الشمولية، لكن الشمولية كانت تخفي الإفقار والتهميش، وهي وظيفتها الأساسية، والحرية كانت، بهذا المعنى، مطلباً اقتصادياً كذلك. لم يفهم المثقفون الليبراليون ذلك، ومن فهم ذلك بقي دماغه مركزاً على التجارب الاشتراكية أو القومية. وبالتالي، يساوي صورياً بين كل مطلب للعدالة الاجتماعية وتلك التجارب، والنتيجة نفسها: تجدد القمع والشمولية؛ هذه العقلية ضيقة ومحدودة، وقد استغلت نيران الثورات لتتبوأ سُدة المعارضة، وتقذف بالثورة نحو خياراتٍ كارثيةٍ وانتقاميةٍ من السلطة الحاكمة، والتي عمّمت الليبرالية في سورية، وبشكل موسع منذ عام 2000، وفي مصر قبل ذلك، وكذلك في تونس؛ أي أن مشروعها “المعارضة” استبدالي، وليس لصالح مطالب الشعب.
الحرية التي ثار من أجلها الشعب، وبسبب المعارضة الليبرالية الضيقة الأفق، ورداءة سياساتها وتكتيكاتها، ساهمت في إيصال الثورة إلى الأسلمة، ولتصبح مجالاً للصراعات الإقليمية والدولية. رؤية الإسلاميين واضحة، وعلى الرغم من بساطتها وهشاشتها، فهي دولة إسلامية، وتصون كل حقوق الأقليات، وفق أصول الشرع مثلاً، أي عودة إلى الدولة القروسطية في أسوأ أشكالها. مشكلة الإسلاميين أن الشعب لا يمكنه دعم مشروعهم، فمطالبه العمل والتعليم والمسكن والأجر الجيد والطبابة المجانية، ويجب أن تكون في صلب أي مشروع سياسي يتبنوه؛ هذه النقاط تحديداً هي ما يتجاهلها الليبراليون الذين يتبنون السياسات الليبرالية والعولمية، وبسبب ضعفهم، تقدم الإسلام السياسي بكل أشكاله، ليستولي على قيادة الثورات، وليُفشل مرحلتها الحالية.
الحرية التي كانت هامشية قبل عبد الناصر، وتخص الفئات الثرية فقط، واجتُثَّت في زمن المشروع القومي، أصبحت مطلباً عاماً، لكنها ببعدين، سياسي واقتصادي؛ ومن دون هذين الجناحين سيفشل أي مشروع.
العربي الجديد