طفل أعدم رجلاً: طريق «داعش» غير المقفلة/ حازم الامين
ثمة وجهتا نظر تتعلقان بالأشرطة المصورة التي يبثها «داعش»، حيث يكشف عن مستويات من العنف لم يبلغها غيره من تنظيمات الإرهاب. الأولى تقول إن التنظيم «نجح» في إيصال رسائله المتمثلة في بث الرعب في خصومه، وفي مخاطبته أمزجة جانحة لطالما بحثت عن وجهة لتصريف عنفها، فجاءت الأشرطة مستجيبة لشروط أمراض كثيرة ومتنوعة، وجذبت أصحابها إلى «داعش» من مختلف أصقاع الأرض.
أما وجهة النظر الثانية، فتقول إن «داعش» وبفعل هذه الأشرطة خسر شرط وجوده في المستقبل، فهذا المستوى من التوحش لا مستقبل له مهما حقق أصحابه من انتصارات. العالم لن يقبله بأي شكل، وهو سيتحول حكماً إلى توحش يستهدف نفسه وأقرب الناس إليه. وما جرى بين «داعش» و»النصرة» خير دليل.
يملك أصحاب وجهتي النظر قدراً كبيراً من المنطق، وحظاً وافراً من الصواب! لكنهما يقيسان الصواب والمنطق بوسائل تجاوزتها «داعش». فالقول أن التنظيم تمكن من جذب شذاذٍ مرضى من كل العالم عبر هذه الأشرطة صحيح مع تعديل طفيف، وهو أن الشذاذ صاروا شذاذاً لأنهم خرجوا (شذّوا) عن نسق في العيش والممارسة والتعايش مع مجتمعات ولدوا فيها أو نزحوا إليها. لكنهم اليوم في «مجتمع داعش» رجال طبيعيون يُمارسون ما يتيح النظام لهم ممارسته. الطفل الذي أقدم على إعدام «العملاء الروس» بالمسدس، أذهلنا نحن الذين نعتقد أن أطفالنا يجب أن لا يُقدموا على ما أقدم عليه هذا الطفل. ولكن في مجتمع «داعش» هو الطفل النموذج، الذي سيسير الأطفال على هديه.
أما الذهاب بالشذوذ إلى حدود المرض، وهو أمر صحيح، فيخضع بدوره أيضاً لنفس المنطق. فالمرض النفسي في حدوده السلوكية يبقى خطأ اجتماعياً، وقابلية تتيح طعن نظام العيش والخروج منه، أما إذا كان التوحش مضمون هذا النظام فيصبح المرض حاجة للنظام إياه.
«داعش» نظام توحش قبل كل شيء. وليس صدفة أنها تقول بـ»فقه التوحش». إخضاعها لوسائل تفسير لا تقيم وزناً لهذه الحقيقة لن يكون ناجعاً في تفسيرها. هي تماماً الطفل الذي يُطلق رصاصة على رأس رجل مستغيث، وهي أيضاً مشهد إعدام امرأة عجوز بتهمة «الدعارة». ومن الصعب أن ننتصر على «داعش» عبر تجميع حجج تُثبت استحالة قيامها. لا يُمكننا أن نُضعف جاذبيتها إذا قلنا أنها بلا أفق ولا مستقبل. فهي تشق طريقها في وجهة أخرى تماماً غير هذه التي نعتقدها مقفلة في وجهها.
و»داعش»، على رغم كل ما ندعيه ونعتقده لجهة استحالتها، تتقدم مشيحة بوجهها عن ذهولنا. أكثر من سبعة آلاف أوروبي في صفوفها، وأكثر من عشرين ألف عربي، وعشرات الآلاف من العراقيين والسوريين. نحن محقون طبعاً في أنها خطأ كبير لا يمكن له أن يستمر. لكن، ثم ماذا؟ هي تتقدم وتتحول إلى حقيقة وإلى سلطة وإلى جارة! شريط الطفل الذي يُطلق رصاصة على رأس «العميل الروسي» لم يجد ما يُنافسه يوم بثه على «يو تيوب» إلا شريط إعدام امرأة مستغيثة في ريف إدلب بتهمة الدعارة. هذه أشرطة أقوى من تلك الأخبار التي تتضمنها بيانات قوات التحالف عن إلحاق خسائر كبيرة بالتنظيم خلال الغارات التي تنفذها على مواقعه. فقبل نحو شهرين قُتل نائب البغدادي وقائد «جيشه» في العراق في غارة أميركية، وفي هذه الفترة قتل أكثر من ألف مقاتل من التنظيم في العراق وسورية. لا قيمة لكل هذا في ميزان حضور التنظيم. لم ينتقص هذا من جاذبيته ولم يُهدد هيبته. لا بل إن قيادة التحالف نفسها لا تشعر أن لـ»الإنجاز» الميداني وظيفة في هذه الحرب. قتلى «داعش» يُذكرون في أسفل البيانات، فيما تسجيل عدد الغارات يتقدم في أهميته ما سجلته من إنجازات. قُتل «عبد الباسط» وهو نائب «الخليفة» في العراق، لكن قتله ترافق مع مزيد من الحيرة في أوساط قاتليه الأميركيين، بينما كان مجرد تواري أسامة بن لادن نصراً أثناء حربهم في أفغانستان.
«داعش» هي الأقوى في حرب الأرقام. ها هي تأسر طياراً أردنياً واحداً، لكنها تمكنت عبره من ربط نزاعٍ مع الأردن كله. فالمملكة تتحرك اليوم على وقع مصير طيارها. صحافتها وبرلمانها وعشائرها منجذبة جميعها إلى مصير الطيار الأردني، فيما أكثر من 1500 أردني يُقاتلون في صفوفها ويموتون يومياً، ويترافق موتهم مع سعادة ونصر في «زفّهم». لا بل قد يُنسى أحياناً أن «يُزف» قتيل إلى أهله، ذاك أن موته أمر بديهي قد يفوت إعلانه. مقاتلو «داعش» موتى قبل أن يموتوا. ملثمون وبلا وجوه ولا هويات، وحتى أسماؤهم ألقوا بها في المطارات التي قدموا منها.
وتكمن قوة «داعش» أيضاً في أن العالم يعتقد أن من يُقتلون في صفوفه ليسوا هم أنفسهم من يُمثلون قوة التنظيم. فقوة «داعش» ليست حصيلة جمع طاقات قادتها وعناصرها. لا قيمة لأن تقتل «الخليفة» حتى تنتصر عليه. هو أشبه بروح وبإرادة، ومن تجمع حوله من ضباط وعشائر وشذاذ، لم ينجذبوا إلى كاريزماه، بل إن جاذبية سابقة على وجوده جعلتهم ينقادون إليه. لكن المأساة تكمن في أن العالم الذي أسعف البغدادي في انكفائه، تواطأ معه في إنشاء الخرافة. الطائرات التي تغير برتابة على مواقع «داعش» يعرف أصحابها أنها مجرد غارات روتينية. العراق لم يخطُ خطوة واحدة نحو التسوية السياسية، وسورية لن تنجو من «داعش» طالما أن بشار الأسد في قصر المهاجرين، والعالم الذي بدأ يشعر بوطأة التوحش بعد أن عادت شظاياه تطاوله، لم يحسم خياره بعد.
وفي هذا الوقت الضائع يتولى التنظيم تثبيت قيم التوحش في دولة خلافته عبر مناهج التدريس وأشرطة الفيديو وشرطة الشريعة، وسيكون تجاوز «داعش» أصعب في ظل حقائق جديدة من نوع وجود أجيال نشأت على قيم التنظيم وعلى مشاهده وفيديواته. وعندها لن يكون مهماً أن يرتد على التنظيم وعلى مستقبله فيديو الطفل الذي أعدم بالرصاص رجلاً أو امرأة، بل سيكون الأهم أن طفلاً فعل ذلك، وأن أطفالاً غيره صار من الممكن أن يفعلوا مثله.
الحياة