طلال المَيْهَني :كيف يمكن كسر الحلقة الـمُفْرَغَة في سوريا؟
يرى الكاتب السوري طلال المَيْهَني أنه لا يمكن كسر الحلقة الـمُفْرَغَة في سوريا إلا من خلال صوتٍ سوريّ جديد وقويّ وواسع وقادر على إيصال صوت الغالبية الساحقة من السوريين، في صورةٍ تشكل إحراجاً حقيقياً للمجتمع الدولي. يمكن لمثل هذا الصوت السوري المساهمة في صناعة حلٍّ يوقف الهراء وسفك الدم العَبَثي، ويضع الجميع عند استحقاقاتهم.
من يملك الحل في سوريا؟ الجواب: لا أحد. فأوراق المشهد السوري ليست في يد طرفٍ واحد. ويبدو أن معظم الأطراف الفاعلة في الشأن السوري، بما فيها الدول الإقليمية والعظمى، قد باتتْ أقل قدرةً على ضبط مآلات الأوضاع التي ما فَتِئَتْ تنزلق نحو مزيدٍ من الدم والخراب والتطرُّف. ولعلّه من المؤلم أن نرى السوريين على مختلف انتماءاتهم واصطفافاتهم، وفي وضعهم الحالي، أضعف هذه الأطراف.
حتى الآن فالغالبية العظمى من القوى العنفية المتصارعة في الساحة السورية، هي قوىً مستقطبةٌ لا يهمّها سوريا بقدر ما يهمها النيل من “الآخر” السوري والانتقام منه، بل والقضاء عليه. الأمر ذاته ينطبق على الأصوات السورية العالية التي تهلل لهذه القوى العنفية، بعد أن تختبئ وراء عبارات التباكي على الضحايا، وتتسلّح بالخطابيات الجوفاء.
خرجت الكرة من ملعبنا نحن السوريين، وأصبح مصير الوطن محكوماً، في ظل الظروف الراهنة، بتوافقٍ دوليٍّ ما. لكن يبدو أن مسار الأحداث لن يكون بهذا اليُسْر. فالقوى الإقليمية ما تزال فاعلةً في سفك الدم السوري، أما القوى العظمى فلا تبالي بما يجري في سوريا طالما أنه محصورٌ ضمن الحدود. ويُخشى أن يخيّم هذا التوازن الحذر على المشهد السوري، مؤدياً إلى تأجيلٍ مستمرٍّ وتأخيرٍ لأيِّ انفراجٍ مأمول.
معظم قوى المعارضة المشاركة في جنيف 2 منزوعة الإرادة
يكثر في هذا السياق الحديث عن جنيف 2. لكن سواء خرج هذا المؤتمر بقراراتٍ معقولةٍ أم لا، فإنه سيكون في حاجةٍ إلى قوىً قادرةٍ على تنفيذه وتحويله إلى مصلحةٍ سورية. إلا أنه يبدو، وبكلِّ أسفٍ، أن القوى السورية المشاركة في جنيف 2 قد شاركتْ من باب الانصياع و”فض العتب”، وتسجيل النقاط الكلامية على السوري “الآخر”، بعد أن ارتضتْ لنفسها دور الدُّمى في يد المعسكرين الروسي والأمريكي.
فالسلطة القائمة في البلاد فاقدةٌ للأهلية، وغير جادّةٍ في إيجاد حلٍّ جذري بعيداً عن عنفها الممارس على المدنيين (وإلا لما أوْصلت الأمور إلى هذا الوضع الكارثي أصلاً)، كما أن معظم قوى المعارضة المشاركة في جنيف 2 منزوعة الإرادة، وغير قادرةٍ على فهم التحولات السريعة التي تطرأ على المشهد الدولي وعلى المشهد العنفي داخل البلاد.
يمكن القول إذن إن هناك فراغاً في المشهد السياسي السوري، وأن هذا الفراغ يسمح للقوى الدولية بالـمُماطلة والتسويف. فالروس والأمريكان لا ينوون حسم الأمور معتمدين على الدُّمى التي تتكفّل تلقائياً بتدمير سوريا، ومستغلّين فرصة غياب الساحة السورية من أصواتٍ بديلة.
الصوت السوري الغانب
يحذر الكاتب طلال المَيْهَني من أن الكارثة السورية مستمرةٌ تحت رحمة توافقٍ دوليٍّ قد يتم أو لا يتم، وإن تم فقد لا يكون –على الأرجح- في مصلحة سوريا والسوريين، بل سيُنَفَّذُ بيد دمىً، في النظام والمعارضة، صُنِعَتْ كي تكون ربيبةً وممثّلةً لمصالح قوىً إقليميةٍ ودولية.
لا يمكن لمثل هذه الحلقة الـمُفْرَغَة أن تنكسر إلا من خلال صوتٍ سوريّ جديد وقويّ وواسع وقادر على إيصال صوت الغالبية الساحقة من السوريين، في صورةٍ تشكل إحراجاً حقيقياً للمجتمع الدولي. يمكن لمثل هذا الصوت السوري المساهمة في صناعة حلٍّ يوقف الهراء وسفك الدم العَبَثي، ويضع الجميع عند استحقاقاتهم.
هذا الصوت ليس تياراً ثالثاً بالمعنى الاصطفافي، وليس طرفاً يقف على مسافةٍ متساويةٍ مما درج الإعلام السطحي على تسميتهم بالموالاة والمعارضة. فالمشهد السوري قد تجاوز هذا التقسيم المبسط الذي قد يصلح في بلادٍ ذات حياةٍ سياسيةٍ صحية. بل هو صوتٌ سوريٌّ خالصٌ يقف ضد القتل بغضِّ النظر عن هوية القاتل ودوافعه وشعاراته، وبغضِّ النظر عن أداة القتل وتفاصيل الجريمة، ويقف ضد استباحة حقوق السوريين، ويملك من الوعي والتماسك والخطاب المسؤول ما يؤهله للمبادرة وطرح حلولٍ تقنع القوى الدولية على المضي بها.
المعضلة المركزية هي أن مثل هذا الصوت مشلولٌ بسبب تصحرٍّ مزمنٍ جَفَّفَ الشأن العام قبل الانتفاضة، وبسبب عنجهية النظام والعنف المنفلت بعد الانتفاضة، وما تلا ذلك من تسارعٍ في الأحداث الأليمة التي كانت أكبر من قدرة مثل هذا الصوت على ترتيب صفوفه. يضاف إلى ذلك أن مثل هذا الصوت لن يواجه فقط البلايا التي يحفل بها المشهد السوري، ولن يكسب فقط عداء المستفيدين والانتهازيين وأمراء الحرب، بل سيواجه مشهداً سورياً مُوغلاً في الاستقطاب البائس، ومشبعاً بـ “لاثقافة” باب الحارة، وما يرتبط بها من التقاليد البالية كتكسير الرؤوس، والكيْدية الاصطفافية، وغيرها مما ترسخ في المجتمع السوري عبر عقود، وتفاقم خلال سنوات الصراع الحالي.
وإلى أن يتم ذلك فالكارثة السورية مستمرةٌ تحت رحمة توافقٍ دوليٍّ قد يتم أو لا يتم، وإن تم فقد لا يكون –على الأرجح- في مصلحة سوريا والسوريين، بل سيُنَفَّذُ بيد دمىً، في النظام والمعارضة، صُنِعَتْ كي تكون ربيبةً وممثّلةً لمصالح قوىً إقليميةٍ ودولية.
موقع قنطرة 2014