ظاهرة الشعار في الثورة السورية
اسطنبول ـ عمر كوش
شكلت الشعارات التي رفعتها أيادي الثائرين السوريين ظاهرة غنية ومبدعة، تدعو إلى التأمل والبحث عن مكنونات هذا المخزون ومصادره، التي تنهل من ذاكرة الإنسان السوري، ومما أنتجه عقله رداً على سنوات الرعب والصمت والقهر والإذلال والكبت، والحرمان من مختلف أشكال التعبير، وبخاصة التعبير السياسي، في ظل عهود الاستبداد الثقيلة. ولعل تعبيراتها الرمزية واللغوية والثورية تكشف مكونات وتعبيرات حرم منها لعقود طويلة، وتلقي الضوء على حصيلة وعي، استخدم الموروث التاريخي والتراث الشعبي، وكيّفه في خدمة الحراك الثوري ومطالب وتطلعات عامة الناس في سوريا.
ولا تغادر مصادر ومراجع، شعارات الثورة ولغتها، تأثيرات ثورات الحرية والكرامة العربية، أو ما عرف بثورات الربيع العربي، إضافة إلى عمق ارتباطها بجذور عميقة، تمتد إلى الثقافة الشعبية، والحديثة، وتنهل من المعرفي والحسي، السياسي والاجتماعي، ومن التراث الشعبي، وترتبط بالزمن السوري الضارب عميقاً في التاريخ، وفي الوجدان، حيث الأشواق والأمنيات والأحلام تكمن دافئة في ثنايا الذاكرة الجمعية.
يمكن القول إن الثورة السورية تميّزت بشعاراتها السياسية والمطلبية والاجتماعية، واختلفت لغتها باختلاف مراحل أو أطوار الثورة، التي بدأ حراكها الشعبي سلمياً، ثم بات لها مركبات ومكونات وأطر تنظيمية وسياسية وإعلامية وعسكرية.
وصدحت حناجر المحتجين في التظاهرات السلمية بشعارات عفوية أحياناً، ومفكّر فيها في غالب الأحيان، لكنها اكتسبت حمولات عديدة مع تحول التظاهرات اليومية إلى مشهديات بصرية وجسدية، وتشكيلات فنية، تمازجت فيها شعارات وأغاني الثورة الجديدة مع ما يختزنه الموروث الشعبي، من أغاني وأهازيج وعراضات، محلية شعبية، مع ابتكارات فنية جديدة، لم تشهد سائر ثورات العالم الحديث مثيلا لها.
وركزت الشعارات المرفوعة على الكرامة والحرية، حيث انطلق شعار “الشعب السوري ما بينذل” بوصفه أول شعار في الثورة السورية، هتفت به جموع من السوريين في منطقة الحريقة بدمشق، وتأقلم الشعار نفسه في درعا في صيغة “الموت ولا المذلة”، بعد سقوط عدد من الشهداء، ثم تحولت لغة الشعارات، من رفض المذلة وإعلاء قيمة الكرامة، وتفضيل الموت على الخضوع، إلى المطالبة بالحرية، وجعلها مقام تشييد للغة الثوار، وذلك بالتلازم مع رفض الاستمرار في العيش في ظل الوضع القائم. وبات شعار “الله سوريا حرية وبس”، يكمل ثنائية الكرامة والحرية، بوصفهما مركبي التأسيس للثورة السورية.
ومع تزايد سقوط الشهداء وسيلان الدم في الشوارع والساحات تغايرت الشعارات، لتطالب بإسقاط النظام ورحيل رمزه، ولإظهار التضامن والتعاضد مع مختلف المدن والبلدات التي تعرضت للقمع الشديد. وعند بروز المكون العسكري من منشقين عن الجيش النظامي ومتطوعين، راحت الشعارات تطالب بحماية المدنيين، وتحيي الجيش الحرّ، وتطالب بالتسليح، وسوى ذلك.
وتشير لغة الشعار السياسي في الثورة السورية إلى رمزية خاصة، وإلى تحولها وتجسدها في ثنايا خطاب يتوجه إلى عموم السوريين، حتى باتت مكوناً أساسياً للتواصل بين المحتجين والجمهور العام، وإطاراً للمفاهيم الثقافية والسياسية والاجتماعية، الأمر الذي شكّل ظاهرة لمأسسة مفاهيم الثورة، ومخاطبة جموع الداخل والخارج، وراحت تنهل من معين حياة الناس وذاكرتهم، وتعكس طموحاتهم ومطالبهم وآمالهم وتطلعاتهم، ولها تفاعلاتها الداخلية والخارجية.
وقد نظر الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر إلى اللغة كأحد المكوِّنات الأساسية التي لا تشكل وسيلة للتواصل بين الناس فحسب، بل إطارًا يحدد المفاهيم الثقافية والسياسية والاجتماعية التي تشكل المنظومة الفلسفية لمجتمع ما. من ضمن هذه المفاهيم ما يرتبط إلى حد ما بمسألة “رمزية” اللغة، وهي مسألة يغوص فيها الناس من دون إدراك أو بشكل لاواعٍ.
وفي شعارات التأسيس للثورة، اُختصر الشعار السياسي في أبسط صوره، في كلمة واحدة، هي “حرية”، يؤطرها الترداد وحركات الأيادي والأجساد، وتصدح بها حناجر المحتجين، صغاراً وكبارا، نساء ورجالاً. ويستمد اقتضاب الشكل روحيته من تركيب المعنى، بالنظر إلى أن هذا اللفظ البسيط يحيل في البداية إلى معرفة ثقافية خاصة في اللغة العربية، لكن هذه المعرفة تتجاوز حدود ما تمثله الدائرة اللسانية، لأنه اكتسب بعداً عربياً ثم بعداً عالمياً. والفضل يعود إلى الثورات العربية في تحول الشعار إلى مفهوم له أبعاد إجرائية متنوعة على مستوى القراءة، حتى باتت كلمات مثل “حرية” و”إرحل” مقروءة عالمياً، وغدت كل منها علامة من غير تركيب، تقترح خطابات عالمية، وتدرك ضمن المقولات المشكلة.
ولا يغيب عن لغة شعارات الثورة عنصريّ الذات والذاكرة، فـ “أنا” المحتج ليست حاضرة في صرخاته فقط، بل حاضرة في أكثر من خطاطة وشعار. وتحول العديد منها إلى كوجيتو فلسفي جديد، ولعل عبارة “أنا إنسان ماني حيوان”، التي نطق به أحمد عبد الوهاب، دشنت كوجيتو كينونة جديد، بل وتحولت إلى مقولة مفهومية في الثورة، وحولت صاحبها إلى أيقونة.
وقد جرت الإحالة في أكثر من شعار إلى الذاكرة السورية والتاريخ السوري، حيث راح المحتجون في درعا، مثلاً، يرددون شعاراتهم على وقع الأهازيج، التي تزخ بها منطقة حواران، من “الميحة”، و”السحجة”، و”الدرازية”، و”الجوفية”، و”الشعرافية، و”الحورانية”، و”الشمالية” و”النسورانية”. ولعبت الأهازيج والعراضات ومختلف أنواع الدبكات والرقص دورها الخاص في التأثير المباشر في الناس، وفق طبيعة تعبيرية خاصة. وباتت تتحكم في الانفعالات ولا تكترث للمفاهيم، بوصفها شعلة تضيء ظلاماً. وفي حالات الانفعال لا يفكر الإنسان، لذلك ارتبطت الموسيقى والأهازيج بالجسد الفاعل، والجسد المتحرك. وهذا ما يميز طبيعة الهوى، بوصفه تجاوز الحدود العادية المحرر للانفعال والدافع به في كل الاتجاهات. وقد تتحقق ذلك في التظاهرات التي عمّت مختلف المدن والبلدات والقرى السورية، من خلال تلاطم أمواج أجساد المتظاهرين في مشهديات، لم تعرفها سوريا من قبل.
ولعل الجديد الذي قدمته الثورة السورية في حركات الجسد هو تسونامي الأجساد، والكرنفالات المرافقة لها، حيث، وبتنظيم متناغم ومدروس، تصطف أجساد المتظاهرين بشكل خطوط وصفوف أو دوائر في ساحة أو شارع، ثم مع ترداد الشعارات يجلسون دفعة واحدة، وحين تشتد الحماسة في مقطع معين من الشعارات أو الأغاني، تنهض الأجساد دفعة واحدة، يليها الارتفاع ثم الانخفاض في حركات تشبه الأمواج المتتالية بتسارع متناغم، مشكلة تسونامي أجساد بشرية.
ولا شك في أنه لا يمكن للمحتجين أن يتظاهروا لساعات وأيام وشهور من دون أن يغنوا، وينتجوا أغانيهم الخاصة بهم في كل منطقة أو حي أو بلدة، ويرددوا شعارات لها وقع وتأثير في الأذن قبل العقل. وباعتبار أن الدبكة المرافقة للأهازيج والعراضات تطاول الجانب الحسي من الإنسان، فإن هذا الجانب عندما يتجسد في الجسد الثائر، فإنه يحتاج إلى طاقة روحية، لكي يستمر، ويفرز كل طاقاته ومكنوناته، فكثير من المتظاهرين اكتشفوا أجسادهم وأصواتهم لأول مرة في حياتهم في ميادين التظاهر وفسحات الحرية.
وإن كان الانفعال طاقة تعبيرية تسعى الكلمات إلى تنظيمها وترويضها، فإن اللغة الثورية التي وظفها حراك الشباب السوري في التظاهرات وميادين العمل الميداني المختلفة، أنتجت فكراً ثورياً جديداً، مختلفاً كل الاختلاف عن لغة ثورييّ الأمس، ثوريي أفكار وأحزاب ومخلفات الحرب البادرة وما بعدها. وهو أمر يفسر وجود هوة كبيرة بين خطاب الثائرين السوريين وخطاب مختلف مجالس وتنظيمات وهيئات المعارضة السورية، بل ويبدو أحياناً أن خطاب بعض شخصيات المعارضة المتقادمة، يفترق تماماً عن خطاب جيل الثورة الجديد، بل، ويقترب ويلتقي في أجزاء منه مع خطاب السلطة الاستبدادية. ومردّ ذلك إلى أنهم كانوا بعيدين عن الحراك ومفاعيله، ولم يشاركوا فيه، ويحاولون تسجيل مواقف، تدخل في باب فقه النكاية، مع بحثهم الحثيث عن دور تغزوه الشخصنة، وحافظوا على ذات الأفكار القومية واليسارية والإسلامية المتقادمة، وتملكتهم فوبيا التدخل الخارجي، ومازالوا يتمسكون بتلابيب المقولات الطنانة، الزائفة في جوهرها، فضلاً عن إصابتهم بأمراض تضخم الذات، المنخورة والجوفاء، وعدم تعودهم على العمل الجماعي والمؤسسي، وسوى ذلك كثير.
وفي المقابل، فإن السلطة الاستبدادية انتجت على مدار أربعة عقوة لغة استبدادية، بحيث باتت اللغة العربية التي يتكلم بها أهل الحكم لغة تسلطية قمعية، نتيجة الاستبداد المتعدد المركبات والحوامل. ويمكن تتبع الدور الذي مارسته لغة السلطة، عبر الشعارات الفارغة التي رفعتها، وأسهمت في تثبيت سطوتها وهيمنتها، ونشر ثقافة الخوف، وفي صناعة أسطورة الزعيم الأوحد، وتعزيز ديكتاتوريته، وفي شل قدرة الآخرين على المقاومة والرفض.
غير أن زمن الثورة حطم جميع دوائر الخوف، وكسر كل الحواجز، وأنتج لغة للشعار السياسي، ساهمت في كشف طبيعة لغة السلطة، التي تُعد نموذجاً للخداع والتضليل، وفي الوقت ذاته، أداة القهر الأساسية. وفقدت السلطة القامعة قدرتها في السيطرة على أفعال الناس، وبات أصحابها يدركون أن لا مكان لهم في العالم الجديد الذي خلقته الثورة.
المستقبل