صفحات العالم

عاجل عاجل للمعارضة السورية


أمجد ناصر

‘اسمحوا لنا أن نتحدَّث، نحن الذين نشاطر السوريين شوقهم إلى الحرّية والكرامة والغد الأفضل، بلا مجاملة، لأن المجاملة، في وضع كالذي عليه ‘الحالة السورية’، هدرٌ لدم الذين يسقطون صرعى، كلَّ يومٍ، برصاص النظام، ونوعٌ من ‘خيانة الوصايا’. هناك معضلة مُركَّبة تواجه الانتفاضة السورية تتمثّل في النظام والمعارضة على السواء. أمرُ النظام الممعن في الحلول الأمنية الصرف والكذب الإعلامي المكشوف مفهومٌ ولكن من غير المفهوم أن تشكِّل المعارضة السورية عبئاً على انتفاضة شعبها، إن لم أقل أنَّها ترتكب جنايةً، في رابعة النهار، بحق واقعها وآفاقها’.

هذا، بالحرف، ما خطَّه كاتب هذه السطور، وفي هذا المنبر بالذات، في 20 تموز (يوليو) من العام الماضي.. ولم يكن نبوءة، ولا ضرباً في الرمل. إنَّه مجرَّد مراقبة لواقع المعارضة السورية لا أكثر، مجرد قراءة في خارطة تنظيماتها وقواها التي تتناسل على شكل متاهة. مجرد مشاهدة لوجوه طلعت من الغفلة و’التقاعد’ النضالي والتصحّر السياسي وانتهاز الفرص وراحت تتصارع على النطق باسم الذين يموتون في مدن وبلدات ودساكر تمتدُّ من ‘تل شهاب’، جنوباً، إلى ‘كفر تخاريم’ شمالاً.

وهذه الجناية، كاملة الأركان، التي تحدثت عنها قبل نحو سبعة أشهر لا تزال تتوالى فصولها أمامنا، وليس آخرها، على ما يبدو، انشقاقات ‘المجلس الوطني’ الذي رُكِّبت ساقاه الخشبيتان، في دوائر قرار غامضة، على عجل فيما تتجول دبابات الأسد في طول سورية وعرضها لسحق الثورة واعادة الشبان الثائرين الى حظائر الطاعة، وفيما تتحول سورية، بلداً وشعباً ومصيراً، الى لعبة أمم قذرة بكل ما تعني الكلمة من معنى.

فهل هناك انعدام مسؤولية وطنية أكثر من ذلك؟ هل هناك أنانيات فردية وتنظيمية وعمى سياسي ومساهمة في سفك المزيد من الدم أكثر مما رأينا، حتى الآن، في سلوك ‘المعارضات’ السورية المتنابذة؟

لا أظن.

‘ ‘ ‘

كلُّ كلام المعارضين السوريين في الخارج عن التصحّر السياسي والتجريف الفكري اللذين مارسهما النظام على مدار أربعين عاماً، وعن اكتشاف السوريين للسياسة، واعتبار تعدد القوى والتنظيمات واحتدام خلافاتها أمراً صحّياً ودليلاً على الحيوية، لم يعد يقنع أحداً، بل لعله صار جريمة في حق الثورة والثائرين في سورية.

فحتى لو سلمنا جدلاَ بكل ما سبق فإنَّ أحد عشر شهراً من الثورة تكفي كي تنهي المعارضة السورية ‘دورتها التدريبية’ على السياسة، وتكفي كي تتعلم من أخطائها، وتكفي كي ترتفع الى مستوى الدم الذي يُسفك بغزارة، وتكفي كي لا تكون لعبة سهلة في أيدي قوى تسعى، كلٌّ لسببٍ وغاية، إلى تصفية حساباتها مع نظام الأسد، أو لتسجيل نقاط على رقعة شطرنج الصراعات الاقليمية والدولية.

لكن كلا، فيبدو أن ذلك ليس كافياً كي يرى المعارضون لنظام بشار أنَّ السيل قد بلغ الزُبى وأن تضحيات مئات آلاف السوريين بأرواحهم وممتلكاتهم لم تكن من أجل أن تتنقل قيادات المعارضة من بلد الى بلد ومن مؤتمر الى آخر ومن شاشة فضائية الى أخرى.. ولم تكن، قطعاً، من أجل اختبار قوة ‘التوازن الدولي’ في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، ولا امتحان صدقية ‘عقيدة’ حقوق الانسان التي تُرسل من أجلها صواريخ كروز في مكان وتُغمض عنها العين في مكان آخر.

كلا، ليس من أجل ذلك ثار السوريون.

ليس من أجل ذلك ضحوا بدمائهم.

على المعارضة التي انتقلت من حالة الجناية على الثورة الى حالة الجريمة بحقها، واقعاً ومستقبلاً، أن تدرك، قبل فوات الأوان، أن الثورة السورية تقف، اليوم، أمام أكثر من طريق (ليس من بينها، كي نطمئن الأبواق العلنية والخفيِّة للنظام السوري، نجاة النظام أو هزيمة الثورة).. فالسلّمية التي طبعت الثورة السورية، غالباً، بطابعها تتحوّل تدريجاً إلى عسكرة.. والأسوأ أنها قد تكون عسكرة غير منضبطة.. شيء يشبه النموذج الليبي الذي تعالى فيه السلاح على صوت السياسة.

وحيال هذا المنعطف الذي يبذل فيه نظام الاسد آخر ما بقي لديه من عزم شرير في سبيل البقاء، تشتد الحاجة الى خارطة طريق واضحة لمستقبل سورية، وقبل ذلك، الى اقناع العالم أن هناك محاوراً سورياً جديراً بالثقة، وأن سورية لن تكون عراقاً ثانياً بعد سقوط نظام الأسد.. الحتمي.. الذي لا مناص منه.

ولكي تفعل المعارضة هذا عليها أن تتجاوز ‘تناقضاتها الفرعية’ في مواجهة ‘التناقض الرئيسي’، وأن تسدَّ الثغرات الكبيرة في تعاملها مع واقع ثورة شعبها التي قد تنفذ منها قوى التطرف الديني، فـ’الحالة السورية’ اليوم، تغري ‘القاعدة’ وأخواتها بالتسلل الى صفوف الثورة واختطاف شعاراتها.. هذا إن لم يكن ذلك قد حدث فعلاً في بعض بؤر الانتفاضة السورية.

ليس أمام المعارضة السورية سوى التوحد.

هذا ليس خياراً.

إنه استحقاق أخلاقي وسياسي عاجل لوضع خارطة طريق واضحة المعالم للثورة التي ستدخل عامها الثاني عما قريب.

إن سياسة تعليق الجرائم المرتكبة بحق الشعب السوري والتدهور الذي وصلت إليه البلاد على مشجب النظام ليس عملاً سياسياً. إنه، بالأحرى، انعدام للسياسة، مثلما تنعدم السياسة، تماماً، لدى نظام يخاطب شعبه بالمدافع.

التاريخ ليس غداً.

إنه يصنع اليوم. ومن لا يشارك اليوم في صنعه لا مستقبل له فيه غداً.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى