عاصمة الثورة
أندلس الشيخ
من عاش يوماً جنوب جبال طوروس يدرك، ربما أكثر من غيره، أن ما يشهده الشارع السوري في هذه الآونة من تظاهرات واحتجاجات ومطالبات بالحرية والتغيير الديموقراطي هو حدث فريد واستثنائي، إن لم نبالغ في القول إنه ضرب من ضروب المستحيل.
كيف لا يكون الأمر كذلك، والبلد يرزح منذ خمسين عاماً تحت وطأة نظام توتاليتاري وقمعي قد لا تجاريه في التعسف والطغيان سوى الستالينية، التي قامت أسسها على مركزية السلطة واحتكارها، وعلى تشريع استخدام العنف من أجل تصفية كل خصوم محتملين يهددون سلطة الحاكم – الرب والطغمة المحيطة به، الأمر الذي جعل من الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي حكم سوريا على مدار أربعة عقود بالرصاص والبسطار، أحد التلامذة المخلصين لهذه المدرسة والإيديولوجيا السياسية، ومن وارثه بشار أحد الأوفياء لوصية الأب في السير قدماً في النهج الذي يتم تفعيله والعمل به على الفور إذا ما ارتفع يوماً ما صوتٌ ينادي بالخلاص من قوانين الخوف والرعب التي خيّمت على وطنٍ أصبح يبدو فيه غلق النوافذ عند الحديث بين الناس أمراً اعتيادياً تسرب إلى طبائعهم، فللهواء في “سوريا الأسد” آذان.
في الوقت الذي استطاعت فيه الثورة السورية المندلعة في مختلف أرجاء البلاد، من درعا إلى جسر الشغور ومن البوكمال إلى اللاذقية وبانياس، أن تكشف للعالم أجمع عن الوجه المافيوي والإجرامي للنظام، يظهر الشعب السوري في مطلع هذه الألفية الثالثة، التي أُعلن فيها موت القضايا والإيديولوجيات المثلى، نموذجاً خلاّقاً في تجربته النضالية، على نحو ما أقرّ به كاتب بقامة خوان غويتيسولو، أحد ألدّ أعداء الأنظمة الشمولية في العالم، عندما قال في حديث له الى جريدة “إل باييس” الاسبانية إن “الثورة السورية هي الأكثر شجاعة ومثالية” من بين ثورات الربيع العربي نظراً الى تصديها المذهل والعبقري لآلة القتل والإبادة، التي لم يتوان النظام السوري عن استخدامها في حق المتظاهرين العزّل من رجال ونساء وشيوخ وأطفال.
فبعد ثمانية شهور حمراء من عمر الثورة، هناك من جهة، النظام المتهاوي الذي هو في طوره لأن يصبح أمثولة تاريخية في الدموية، وهناك، من جهة ثانية، الشعب المتعالي الذي أصبح أمثولة كونية في الشجاعة والثبات. أي أن كلا طرفي المواجهة اليوم في سوريا هو في طريقه إلى تجسيد رمزية خاصة به تحدد طبيعته وماهيته. فمن جهة، لدينا النظام بممارساته البربرية من قتل للمتظاهرين وتعذيب للمعتقلين وتنكيل بالناشطين وقصف للمدنيين، ماضٍ للتحول أسطورة جديدة في ارتكاب الفظائع والبشاعات، تُضاف إلى باقي أساطير اليأس الإنساني من ستالينية وفاشية ونازية. من جهة أخرى، لدينا الشعب بخروجه السلمي إلى الشوارع وبتظاهراته العفوية وبلافتاته الصادقة وبأهازيجه الثورية، ماضٍ للتحول أيقونة في البسالة والإقدام، تنضم إلى غيرها من أيقونات الشعوب الحرة التي دفعت الكثير من دم أبنائها لنيل حقها في الحرية والعيش الكريم.
في هذا الـ”وجهاً لوجه” ما بين النظام الفاشي الذي اختار سلوك العصابات، والشعب الملحمي الذي اختار سلوك الأحرار، تبرز جدلية ذات وجه متناقض ومتباين، ترسم الفارق جلياً ما بين دوي المدفعية وصرخات الحرية، ما بين ثقافة الدم وثقافـة الحلم، وما بين جنزير الدبابة وغصن الزيتون. وإذا كانت شرارة الثورة الأولى قد انبعثت من مدينة درعا حيث كان أهلها الشرفاء أول من شقّ عصا الطاعة على ربّ البيت الدمشقي المتمترس في قلعته الحصين في أعالي قاسيون، فإن مدينتي حماة وحمص، في غمرة هذا الربيع الذي لطالما انتظرته وحلمت به أرض كنعان، لا تكفّان كل يوم عن ضخ النسغ اللازم لحيوية الحراك الشعبي الذي عجزت سلطات القمع، وستعجز، عن إخماد شعلته المتقدة والناشبة في هشيم دولة البعث الإستبدادية. في هذه المشهدية التاريخية التي تعيشها أرض الشام، تبدو هاتان المدينتان الطاهرتان من أجمل أغصان شجرة الزيتون السورية.
الجرح الارتوازي
فلما كانت مختلف المحافظات السورية قد أخذت تتعرف منذ الخامس عشر من آذار من العام الجاري إلى ظلامية النظام السوري ووحشيته، فإن مدينة حماة، كانت، قبل الجميع، عرضة لسياط الموت التي ضربت بها في ثمانينات القرن المنصرم فصائل “سرايا الدفاع” بقيادة جنرال الحقد الطائفي، رفعت الأسد، وذلك في واحدة من أكثر مجازر الشرق الأوسط ترويعاً على الإطلاق. ففي الثاني من شباط من العام 1982 تم امتهان النفس البشرية في مدينة النواعير، كما تم امتهانها يوماً، لا بل الحكم عليها بالفناء، في بنوم بنه في كمبوديا، سريبرينيتشا في البوسنة، سطيف في الجزائر، الريف في المغرب، شاتيلا في لبنان، حلبجة في العراق وفي غيرها من المدن التي كانت مسرحاً لتراجيديات إنسانية في منتهى السادية، أعدّها وأخرجها ملوك وقادة وعسكر احترفوا فنون القتل والبطش والتعذيب.
نعم، يمكن المرء أن يصف حماة بجرح سوريا الإرتوازي، وهي المدينة التي لا يزال يحمل جسدها وجسد أبنائها ومهجريها جرحاً عميقاً أحدثته تراجيديا المجزرة الحاضرة أبداً في مخيلة الحمويين على وجه الخصوص والسوريين على وجه العموم. وبالرغم من عدم التئام هذا الجرح الغائر، فإن مدينة النواعير كانت من أولى المدن التي تصدرت واجهة الحراك الشعبي ضد حكم آل الأسد، لا بل قدمت الى الثورة السورية مشهداً تاريخياً لا ينسى في “جمعة إرحل”، حيث صدح في ساحة العاصي أكثر من نصف مليون سوري حر منادين برحيل الوارث بشار وبإسقاط نظامه الديكتاتوري.
الأخت الجليلة
أما مدينة حمص، جارة حماة وأختها في النضال، فقدمت حتى ساعة كتابة هذا المقال أكثر من ألف شهيد سقوا بأرواحهم ودمائهم “البلور” شجرة الأمل التي غرسها في التراب السوري أطفال درعا الأبية. وحده هذا الرقم الذي يشكل إلى الآن نحو ثلث عدد شهداء الحرية يدل على حجم التضحية التي بذلها أهل حمص الأخيار في سبيل تحرير الوطن، وهذا ما يجعل، من دون أدنى شك، من هذه المدينة الجليلة عاصمةً للثورة السورية. وقد لا يكون محض مصادفة وقوع حمص على العاصي، حيث لإسم هذا النهر دلالته الواضحة التي على ما يبدو قد تجسدت في أرواح أهلها الأشاوس ومعنوياتهم، هؤلاء الذين أذهلوا، ولا يزالون يذهلون العالم، بعزيمتهم التي لا تقهر وبإرادتهم التي لا تلين ولا تنكسر. وقد لا يكون محض مصادفة أيضاً أن تكون حمص بلد مار إليان، ذلك القديس الشهيد الذي آثر الموت على الحياة، عندما رفض التخلي عن مسيحيته والتبشير بها، حين حاول الرومان إرغامه على ذلك، فدقّوا المسامير في كفيّه وأخمصيه ثم تركوه ينزف حتى أسلم الروح، من دون أن يرضخ لأوامرهم أو أن ينصاع لكفرهم وجحودهم.
شيمة هذه المدينة إذاً، هي العصيان في زمن الطغيان، وإيثار الموت على الهوان. وهذا في الحقيقة ما تريد أن تقوله لنا في كل يوم من أيام الثورة أحياء المدينة وشوارعها، حيث اقسم المتظاهرون فيها ألا يعودوا إلى ديارهم قبل أن يطووا من تاريخ بلدهم صفحة البعث السوداء، فأقاموا في الساحات العامة ليل نهار من أجل إلهام باقي المدن بالصمود والصبر ومن أجل حراسة شعلة الثورة والمضي بها إلى الأمام. فكانت كل تظاهرة في حمص عبارة عن حشود بشرية، وأعراس حرية وتعاليات. في حي الخالدية، كان هنالك تظاهرة وتعاليات، وفي حي بابا عمرو أيضاً، تظاهرة وتعاليات، وفي حي البياضة، تظاهرة وتعاليات، وفي حي باب هود، تظاهرة وتعاليات، وفي حي باب السباع، تظاهرة وتعاليات، وفي حي دير بعلبة، تظاهرة وتعاليات، وفي حي جورة الشياح، تظاهرة وتعاليات. تعاليات تحرر أهلنا في “الداخل السوري” من واقع القتل والدم والرصاص الذي تدخره لهم صبيحة كل يوم ذئاب النظام، لتأخذ بهم إلى جغرافيا من حرية ووعود، ها هي قد أصبحت قريبة المسافة ودانية الحدود.
النهار