صفحات الرأي

عالمنا العربي يدخل عصر الاضطراب الاعظم

 

مطاع صفدي

إذا كانت حقبة (الأنوار) الأوروبية قادت عقل الحضارة الموصوفة بالغربية، ومن ثم العالمية، فإن كل ثورة أخرى باسم الحرية والعدالة، لن تستكمل أهدافها إن لم تدخل تنويعاً جديداً على فلسفة المواطنة، لتكون فرعاً من أصل أعم. ولكي تؤسس من لحظتها أصلاً آخر لمستقبلها الخاص المعبر عن شخصيتها المفهومية. صفة التنوير هي خاصية الثورة الحقيقية التي لا تكتفي بتحطيم سدود سياسية وإجتماعية قائمة في وجهها فحسب، بل تبشر بمولد عصر نهضوي شامل، يصبح فيه الإنسان أكثر حرية مع ذاته وعدلاً في علاقته مع الآخرين. لكن يتبقّى في هذه المعادلة كمّ هائل من الالتباسات الفكرية والعقبات المادية الواقعية، وأصعبها ـ ولا شك ـ هو كون العقل الثوري هو محدث التغيير، لكنه ليس صانعاً لمضمون التغيير ولا ضامناً مقدماً لمحصوله ونتائجه الواقعية. لذلك ارتبطت الثورات التاريخية الناجحة بما يسمى عادة بالمشروع الفكري الذي يشكل عقلها الواعي المولّد للإرادة الجماعية الفاعلة حسب تصورات تتعلق بالمجتمع الأفضل الساعية إلى تحقيقه.

ثورات الربيع العربي انطلقت بأفعالها السلبية المحركة لركود المستنقع السياسي القديم، لكنها في الوقت ذاته أهملت صناعة عقلها المدبر حتى الآن. مع التنبيه إلى أن هذه الصناعة للعقل لا تنفي بالضرورة اختلاق الأيديولوجيا، بل كانت خاصية ‘الربيع’ أنه ليس مؤدلجاً سلفاً بقدر ما هو متمرد على كل اعتقال له بغير مبدأ المبادئ كلها، وهي الحرية وحدها. إنه الطامح لأن يكون قوة على الخلق، وليس مخلوقاً، صانعاً وليس مصنوعاً، مفجّراً للينابيع، وليس نهراً لينبوع معين.

افتقار ربيعنا من الأدلجة، ليس نقصاً في التكوين، بل إنصافاً يخفي كينونته بالاستقلال والجدة إلى حد الطرافة والفرادة. تلك هي طبيعة التنوير ما قبل أن توقد الشموعُ النائمة. هو الواعد أن يأتي بأنواره وشموسها معها. لذلك لا تزال ثورات الربيع العربي ممتنعة على الأدلجة. كل مصطلحات التغيير السابقة والمتراكمة في دروب شعوبنا المظلمة، لم تعد ذات جدوى في فهم مشروعه، أو تحليل قواه، أو التنبؤ عن مقاصده. ما أن نهب على أزهاره رياح أيديولوجية معينة، حتى يبدد اجنحتها السوداء. وإذا كانت أداليج المذهبيات الغيبية هي الموحية اليوم بإمكانيات السيطرة على البعض من حكومات ومؤسسات عامة وشوارع وأقبية وصحارى، إلخ.. فليست تلك المشهديات البائسة إلا لتعرية أصحابها وممثليها من الأقنعة والملاءات والأعلام الزائفة. فالتحدي الربيعي كاشف لعورات الصحارى الموات العقيمة، ناشر لمواسم الأرض المعطاء، وقد تتحول الأيام التالية على الثورات مسارحَ لتجارب شعبوية وسلطوية متساقطة على ركام بعضها بعضاً. إنها المراحل التجريبية التي تتدخل في أنسجتها مختلف عوامل النموّ والإجهاض معاً. ولن يصمد منها إلا النخبة المؤهلة حقاً لإعادة قراءة التاريخ، ليس وفق نصوصه الأصلية، فحسب ـ المكتوبة وحدها، بل وغير المكتوبة بعد. فالتنوير النابع من جسد التاريخ، من لحمه ودمه، هو الواعد بإمكانيات مستقبله كأنها مفاجآت لماضيه عينه.

نجاعةُ تنويرٍ حضاري، إنما تُقاس بقدرة أضوائه على الانتشار والتصويب إلى الآفاق الأبعد عن مراكز إشعاعه، وبهذا المعنى سجّل الربيع العربي مولده كأنه لحظة كونية تنتظرها الشعوب المظلومة في كل مكان، مع ذلك فلكل شعب مظلوم طريقته في الرد على أسباب اضطهاده.

والردود المعروفة في سيرة الكفاح الإنساني لا تنحدر كلها من أرومة الثورة، فالاستكانة على العسف قد يحولها الزمن إلى نمط عيش لكتل لا تعرف سواه. طائفة المستكينين هي الغالبة على سكان المعمورة، هنالك أمم كثيرة لا يعنيها حاضرها، ولا مصيرها. والأمم القليلة، بل النادرة هي التي تشكل الاستثناء في هذه القاعدة، تلسعها نيران الغضب المتأججة في صدورها. رجالها يضحون بحياة البؤس والشقاء المفروضة عليهم، من أجل حياة أخرى قد لا تتحقق بالفعل، وإن كانت مجرد حلم إرادي لكنها قد تجعل أصحابها أسياداً على ذواتهم، ولو للحظاتٍ من حَقَبة عابرة في الزمن الجماعي شبه الميت. هكذا تصوغ الثورات الصادقة نماذجَ أبطالها من عداد أفرادها المجهولين حتى من قبل بعضهم، بل بالنسبة لذواتهم عينها.

ثوراتنا الربيعية ترمي يومياً بالآلاف من أجيالها الشابة في ميادين الصراع الدموي، أو في شوارع السياسة الغاضبة هؤلاء لم تعد لديهم أسماء أو عناوين أو هويات خاصة، سوى أنهم رجال ثوار فحسب. سوى أنهم أمسوا مرشحين للتصنيف في عداد المفقودين، من قتلى أو قاتلين، من سجناء أو سجانين، من منفيين أو منسيين. والقلة النادة منهم سوف يصيرون حكاماً بعد أن كانوا محكومين.. أو أدوات ومساعدين للسلطات الجديدة القديمة. بعضهم يصير محترفاً للثورة، يختارها، أو يجد نفسه أسيراً لها، أو أنه لا يرى لذاته مستقبلاً آخر سواها. عالمنا العربي يدخل عصر الاضطراب الأعظم، كل ما فيه مرتجّ وموشك على حراك مجهول. ليس فيه ضمانة لأي تغيير، فقد يجيء بالإيجابيات من أموره وآماله، وبعكسها في وقت واحد. ما يعنيه عصر الاضطراب الأعظم هو فقدان السيطرة المطلقة لأي عامل من عوامل التغيير على المشهديات القادمة، قبل الممارسة وخلالها وما بعدها. لذلك ليس ثمة برنامج ثوري ظل هو عينه كما تفكّره روّاده الأوائل.

الثورة الناجحة التي قد تكون مجدية بنظر القطاع الأكبر أو الأهم من المجتمع، هي التي يمكنها أن تضع حداً للاضطراب في اللحظة الفاصلة المناسبة، أن توقف ظواهر الاحتدامات الشعبوية قبل أن تصبح هذه أشبه بقانون طبيعي يسيّر حياة الجماعة. فما يميز الثورة عن الاضطراب الذي يلازم أفعالها منذ البداية، كالتوأم المضاد، هو التواصل مع الرأي العام حولها، والاحتكام لرقابته المباشرة على مجمل تصرفاتها. هذا الرأي العام هو إشارة الوجود الدائم للأكثرية الصامتة، الفاقدة لحماية مؤسساتها التقليدية، لكنها تعوض عن هذا الفقدان بالوظيفة الجديدة، وهي كونها أمست الحاضنة المعنوية والعضوية للثورة، وفي الوقت عينه ليست هذه الأكثرية صامتة حقاً إلا مجازياً ـ أي أنها غير فاعلة، فهي العائلة الأشمل لأبنائها من رجال الثورة، هؤلاء هم الأحرص على تأكيد آنسابهم الاجتماعية والثقافية إلى شجرتها الوارفة، وإلى كونهم المنحدرين من صلبها، الحافظين لاستمرار سلالتها الحضارية وإن كانوا هم قد انتدبوا أنفسهم ممثلين عن تطلعاتها التاريخية، لعلهم يفوزون بشرعية اختيارها لهم، ما بعد (وقائع) التجريب الثوري وليس سابقاً عليه.

قد يطلق على كامل هذه العملية الوجودية الأخلاقية، مصطلح في صيغة الشرطية هكذا: متى يستحق الشعب ثورته؟ والجواب: عندما تغدو الثورة مستحقة الانتماء إلى شعبها. إنها صيغة الانتماء المتبادل بينهما، بحيث يغدو استحقاق أي من الطرفين شرطاً لاستحقاق الآخر، لذاته ولآخره معاً.

ترى كيف يمكن، بعد ذلك، أن تُحدد هذه العلاقاتُ الملتبسة بين بعض الشعوب العربية وثوراتها. فلم يعد الوقت يسمح بإطلاق الأحكام الكلية الجزافية، كالقول مثلاً أن العرب جمعاء أصبحوا في حال الثورة، أو أن البعض من شعوب التجارب الثورية قد شرعت في الانفكاك النفسي، أو الذهني عن أفعال الميادين والشوارع، فإن نقائض الثورة، معانيها وقيمها، تكاد تصبح من اللاعبين المسيطرين، وأن الربيع غدا يحصد في حداثته مواسم أزهار قليلة تحف بها أدغال كثيفة من الأشواك والعناكب.. لكن هذه الأزهار القليلة ستظل تمارس مهمة الفضيحة الكاشفة لبدائلها الزائفة تلك.. إن لها حضورها الحقيقي في الوقت الذي لا تمتلك أضادُها سوى أقنعة الألوان الزاهية، التي لن تخفي الوجوه الحالكة تحتها ما أن تتحوّل نسائم الربيع إلى عواصف جامحة.. متى وكيف..؟

‘ مفكر عربي مقيم في باريس

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى