صفحات الرأي

عالم اليوم خطِر… وأوروبا أمام تحديات كبيرة أمنية ودفاعية/ آن أبلباوم

 

 

لطالما كان العالم خطِراً. ولكن اليوم هو خطِر على نحو غير مألوف. فالنظام العالمي الموروث منذ نهاية الحرب الباردة تغير. وصارت المؤسسات التي ترعى السلام وتروج للتجارة الدولية أكثر هشاشة- بدءاً من الناتو مروراً بالاتحاد الأوروبي وصولاً الى «نافتا»- وعلاقات أميركا بدول العالم تتغير. وأخشى احتلال روسيا شطراً من أوروبا الشرقية، وحملة روسية جديدة للتأثير في ألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية وتقويض ديموقراطية السياسة في القارة الأوروبية. وأخاف كذلك من اندلاع حرب تجارية أميركية وحرب ساخنة مع الصين. وهذه المسائل هي رهن من يحسم النقاش في الإدارة الأميركية. فوزير الدفاع الجديد، جايمس ماتيس، قال أنه يدعم الناتو مئة في المئة، ولو صدر مثل هذا الكلام قبل ستة أشهر في إدارة اوباما لاعتبر سائراً ومملاً. ولكن الأمور تغيرت.

وترامب اكتسب أصول العمل في عالم يعيش فيه الناس في عوالم منفصلة، حيث يستقون أخبارهم من توصيات «فايسبوك» ويؤمنون بمجموعة وقائع. وغيرهم يعيش في عالم وقائع متباينة، ويعرف وقائع مختلفة. ولم يتوجه ترامب يوماً الى الأميركيين كلهم، ولم يتوسل بخطاب موحد، ولا يحاول استمالة أحد أو إقناعه. فهو يشكر من منحه صوته، ويقول أن من لم يقترع له فاشل. وتظهر حادثة صغيرة ضعف المشترك بين المصوتين لترامب ومعارضيه. فدونالد ترامب سخر من مراسل من ذوي الحاجات الخاصة في حملته الانتخابية. ولكنه لا ينفك يقول «لا لم أفعل ذلك»، وثمة من يصدقه القول، على رغم أن شريطاً مصوراً سجل الحادثة. وكثر لا يرغبون في مشاهدة الشريط.

وأفقر الأميركيين اقترعوا لكلينتون، وكثر من الميسورين الى حد ما صوتوا لترامب. والتحليل الاقتصادي فحسب عاجز عن تفسير بلوغ ترامب الرئاسة. فالاقتصاد الأميركي تعافى منذ 2008، ومعدلات البطالة منخفضة. وأرى أن دعوة ترامب الى الطبقة العاملة كانت دعوة ثقافية لسان حالها: «سأعيد لكم وظائف آبائكم» وعالم ما بعد الحرب الثانية «الأبيض» حين لم يكن ثمة منافس اقتصادي للولايات المتحدة. ولا أرى أن أميركا ستنزلق الى الاستبداد. فعلى خلاف شطر راجح من الدول الأوروبية، الشرطة في أميركا غير مركزية، شأن الـ «أف بي آي». وتعديل الدستور عملية طويلة. ولكن ترامب قد يقوض بعض مؤسسات الرقابة على الرئاسة: الصحافة على وجه التحديد، وأجسام الحكومة ومبادئ الكونغرس، وقطاع الخدمة المدنية العامة.

ولا أعتقد بأن لبوتين أو ترامب أصدقاء، ولكن ترامب لم يخفِ إعجابه ببوتين طوال سنوات. ويبدو أنه قدوة له. ولكنّ وزراء ترامب وموظفي البنتاغون ووزارة الخارجية لا يكنون الإعجاب للرئيس الروسي. لذا، لا نعرف الى أين ستفضي مشاعر الرئيس الأميركي. وطوال سنوات طويلة، رأى الأميركيون أن الناتو لا ينجز المطلوب منه وأن مساهمة الأوروبيين فيه قليلة. وسرّع ترامب وتيرة أفول التضامن الأطلسي حين ازدرى الناتو والحلفاء على حد سواء. ومستقبل الناتو هو في أيدي الأوروبيين. وأمامهم تحديات مثل تحديد مصادر الأخطار وإعداد عدة الحرب من دون أميركا. ولكنني أخشى ألا تجبه أوروبا، وألمانيا على وجه التحديد، التحديات هذه. فبرلين لا تريد اللجوء الى الجيش ولا الإنفاق على مؤسسة عسكرية ولا تأتمن القيادة العسكرية على شيء. ولكن الأمن الأوروبي هو رهن ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وبلديْن آخرين. ولذا، تمسّ الحاجة الى الإعداد من اليوم لدفاع أوروبي سيبرنيطيقي ومكافحة الإرهاب والدفاع التقليدي. وبروز شعبية اليمين الشعبوي وظاهرة ترامب وجهان لمشكلة واحدة. ولغة الشعبويين متشابهة. وتعود جاذبية ترامب الى دغدغته مشاعر الحنين: «لنسترجع عظمة أميركا». وشأن الأوروبيين القوميين، يحمل الرئيس الأميركي رؤية الى أميركا «الحقة» ما قبل العولمة والهجرة والحركات النسائية وحركات الحقوق المدنية والتغيرات التكنولوجية، أي عقداً متخيلاً من الخمسينات في أميركا. ولا عودة الى الزمن القديم. والخطاب هذا يشبه خطاب مارين لوبين ونظيره في حركة «بريكزيت».

والسبيل الى تذليل الحنين ومعالجته هو التوجه الى الشباب وتسليط الضوء على حسنات الزمن الحالي واقتراح رؤية جذابة الى المستقبل. وبعض السياسيين الأوروبيين يسعون الى ذلك، ومنهم المرشح الى الرئاسة الفرنسية إيمانويل ماكرون وحركة سيودادانوس (مواطنون) في إسبانيا وناوشيزنا في بولندا. وهذه مساع طرية العود لتخيل ليبرالية غير يمينية ولا يسارية على الوجه التقليدي. ولم تنتفِ الحاجة الى الأحزاب. ولكن الأحزاب الأوروبية لم تعد في محلها. ولا تقوم قائمة اليوم للنزاعات القديمة بين المسيحيين الديموقراطيين والاشتراكيين الديموقراطيين، ولا معنى للنزاعات هذه. فالبنى الاجتماعية التي تستند اليها هذه الأحزاب، أي الكنيسة والنقابات، تبددت. وهذا ما أدركه القوميون والشعبويون. وحريّ بعالم السياسة اليوم إدراك أن الخطوط السياسية رسمت من جديد وأن أوان التغيير آن.

وشاغل ترامب هو «بريكزيت» وفق مقربين منه. فهو يحسب أن الاستفتاء البريطاني عبّد الطريق أمامه، ويأمل بأن تنسحب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وأن يقوض الاتحاد هذا من طريق اقتراح اتفاق تجارة عليها. ويقلقني أن تيريزا ماي، وحاجتها ماسة الى حلفاء و «نجاحات»، قد تقع في فخ ترامب، فتخسر المملكة المتحدة حصتها الكبرى من التجارة مع أوروبا لتبرم اتفاق تجارة مع الولايات المتحدة لن يرجح مصلحة بريطانيا. والاتحاد أو التحالف بين الحكومات القومية الجديدة محتمل. ويبدو أن ستيف بانون، كبير المحللين الاستراتيجيين في البيت الأبيض، يعد لتحالف بين ترامب ولوبين وجيرت وايلدرز ونيجيل فاراج. وتجمع حركة الشعبويين الدولية، أو أخوية اليمين القومي، من يريد حدوداً عابرة للحدود. وما يجمع بين الشعبويين هو كراهية الاتحاد الأوروبي والناتو والتجارة، والإعجاب بروسيا. وشطر كبير من الحركات الشعبوية يموله بوتين. وكان الاتحاد السوفياتي في السبعينات والثمانينات مستقراً الى حد بعيد، وكان توقع سياسته وخطواته ممكناً. ولكن روسيا البوتينية متقلبة الأحوال والمواقف. والسياسة النووية الروسية اليوم هي في يد شخص واحد أو مجموعة صغيرة من الناس، بعد أن كانت في يد جهاز حزب الدولة. واليوم، تعاظم خطر ارتكاب خطأ نووي.

وترامب ليس علة ما يُجرى، بل هو عَرَض من أعراض التغيير. فالعولمة امتصت مصادر السلطة من السياسيين المحليين، والناس لم يخفَ عليهم ذلك. وفي عصرنا الرقمي الأول، الناس محبطون من بطء العملية الديموقراطية. وشطر كبير من الشباب- وبعض المتقدمين في السن- يريد أن يعرف أسباب بطء دوران عجلة الأمور.

* مؤرخة خبيرة في الشؤون الروسية، حازت جائزة بوليتزر عن كتابها «غولاغ»، عن «شبيغل اونلاين» الألماني، 20/1/2017، إعداد منال نحاس

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى