عالم بلا أخلاق
علي كنعان
تبدو كلماتنا باهتة خجلى أمام جلال التضحيات والدماء المهدورة في ساحات المدن العربية وشوارعها. ومع أن الحرية تظل غالية وهي تستحق منا جميعا كل تضحية، إلا أن السادرين في أنظمة الفساد والطغيان لا يفهمون ذلك ولا يريدون أن يفهموا. وحين تتسع دائرة النظر إلى ما وراء البحار، نرى أن دماء ملايين العرب لا تساوي برميلا من النفط الخام.
ماذا جرى لهذا العالم، على المستوى الداخلي والخارجي، وحتى في المجال الروحي والخلقي؟ لم تعد المسألة تدور حول خلافات سياسية وتضارب مصالح بين سلطة مهيمنة ومعارضة تصرخ في صحراء، ولا بين استعمار وحركات تحرر وطني، بل إنها أفظع وأدهى من ذلك بكثير. إنها عطب جوهري وفساد بنيوي في طبيعة القيم والأخلاق والمبادئ السائدة عبر العالم، بدءا من بيت العنكبوت في قبو بوليسي وليس انتهاء بالبيت الأبيض، إنما نرتاب حتى بمشاريع ‘ناسا’ لاستعمار المجرات المحيطة بكوكب البشر.
شريعة الغاب محكومة ومبررة بالجوع وضرورة إشباعه، لكن القاعدة التي تحكم الأرض وأبناءها أفظع وأدهى. الحق والحرية والصوت المسموع هنا للقوي فالأقوى. إن ميزان العدالة لا يشكو من علة الاختلال وحسب، لكنما لم يعد له من وجود إطلاقا إلا في الكتب وأحلام المفكرين والشعراء. كيف يمكن للحياة أن تستمر وتتطور وتزدهر في غمار هذا الإجرام الدموي المتنامي الذي تمارسه السلطة في أكثر من بلد؟ أين يكمن الحل وكيف نلتمس الدواء الناجع في غياب العقل والحكمة والتراحم؟ هل بمزيد من البطش والتمادي بانتهاج العنف التعسفي وإراقة الدماء بحقد وحشي مسعور؟ أم بانتهاج الحوار الوطني المتكافئ حول مائدة مستديرة؟ ولماذا وكيف انتفى الحوار الإنساني من حياتنا؟!
مستنقع الفساد الذي أغرق الجهاز الإداري من قاعدته حتى قمته، ولم يلبث أن اتسع واستفحل حتى أصاب النسيج الاجتماعي بجراثيم وبائه، هذا المستنقع الوبيل كيف يمكن تحديه وتجفيفه والخلاص منه؟ إن حساسية الشباب وعفوية الناس البسطاء هي التي تستنبط الحل الأكيد، وإن عظمت التضحيات. الجماهير العزلاء تنزل إلى الشارع للتظاهر معبرة عن أوجاعها المزمنة.. فلا تلقى من جواب أو استجابة غير هراوات البوليس ورصاص قوات الأمن المتربصة في الزوايا وعلى السطوح.
في سورية كنا نقول: إن جماهير حزب البعث الحاكم تشكل أكبر معارضة منظمة. كان ذلك قبل صعود طبقة من الرأسمالية الطفيلية المتوحشة وانفجار الغرائز المسعورة لامتلاك كل شيء.. وبأي ثمن، بينما تهاوت نسبة كبرى من الشعب إلى حافة الفقر أو دون الحافة. الأحزاب الحاكمة لم تعد تنظيمات سياسية تعبر عن تطلعات شعبية وتسعى لتحقيق أهداف وطنية عادلة، إنما تحولت إلى قلاع رسمية رديفة للمؤسسة الأمنية الطاغية، صاحبة الأمر والنهي وحاملة مفاتيح النعيم والجحيم. كيف انحدرنا إلى هذا الحضيض الجهنمي لولا موت ضمائر المتحكمين برقاب العباد وأرزاقهم وغياب أدنى المعايير الخلقية، بدءا من الدائرة الصغيرة.. وحتى ذروة أبراج السلطة الخرافية؟
ثم ماذا عن اللغة ومفردات القاموس المطروح في الأسواق؟ حتى اللغة طالها الفساد وحاق بها الهوان. الضحايا لم يعودوا قتلى أو مصابين أو شهداء، صارت السلطة تطلق عليهم عبارة ‘مندسين’! الطالب أو العامل أو الموظف المنتوف الذي ينزل إلى الشارع ليطالب بقوت أطفاله ويضحي بدمه وحياته صار اسمه ‘مندسّاً، مأجوراً.. وحتى عميلا ً صهيونيّاً’ في قاموس الطبقة المتسلطة وأزلامها! الخبز والحرية والدواء والكرامة، هذه كلها متساوية وفي طبق واحد.. ولا مجال لتفضيل عنصر على آخر. لكن العلة السرطانية المستعصية تكمن في هذا السؤال البسيط: كيف يمكن للسلطة المهيمنة بالحديد والنار أن تشعر بذلك أو تدركه أو تفهمه؟
الغريب أن سخاء الحاكم العربي ظهر فجأة، وكالأمواج التي تعقب الزلازل انهمرت مليارات الدولارات لتسد الأفواه الفاغرة والعيون الشاخصة وتسكت الصرخات الغاضبة، وكأن هذه الإجراءات المسرحية قادرة على تخدير الأوجاع وتضميد الجراح. من أين نبعت هذه الأرقام الفلكية؟ وأين كانت القيادات السياسية والبرلمانات والمجالس البلدية.. وحتى زعماء العشائر ودوائر الأمن قبل اليوم؟ هل كانت كلها غارقة في مستنقع الفساد والإفساد، ولا مجال لأي التفاتة إنسانية أو حلم بالعدالة والإنصاف؟.
وفي مدينة درعا السورية، لماذا تم استهداف قيادة فرع الحزب والقصر العدلي، دون غيرهما؟ هل في الأمر معادلة كيمياوية تستعصي على الفهم والتحليل؟ أليس لأنهما بؤرتان كبيرتان متعفنتان من بؤر الفساد؟ الحزب الذي كانوا يعدونه، بديلا للمعارضة، وقد كلفوه بالرقابة والإشراف والمحاسبة، ثم صار فصيلا تابعا للمؤسسة الأمنية وخادما مطيعا لها. والجسم القضائي كذلك صار – كما قال عنه صدقي إسماعيل في جريدة ‘الكلب’ الساخرة: ‘نهنئكم بقصر العدل إنا / لنحلم أن نرى للعدل كوخا’!.. إن أبسط قضية في المحاكم السورية تبقى عشر سنين وهي تدور من دهليز إلى دهليز، وينتقل أصحابها إلى الدار الآخرة قبل أن تنتهي. لكن ينبغي التذكير بأن هذه الأبنية أملاك وطنية عامة، وليست ملكا للقضاء الفاسد أو أعضاء الحزب. ولا بد من أن تكون ثورة مصر، بكل وهجها الحضاري ونقائها الإنساني، هي القدوة المثلى لنا جميعا.
في مستهل هذا القرن، كان هناك بصيص من أمل بأن تتجه الأمور نحو الإصلاح وتنطلق بلادنا في مسيرة سلمية آمنة نحو التغيير، وهذا ما طرحه إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي وساندته لجان المجتمع المدني وكثير من المستقلين الأحرار، إضافة إلى عدد من الأحزاب البعيدة يسارا ويمينا عن مآدب السلطة ومستنقعاتها. وحتى نسبة من جماهير البعث المغلوبة على أمرها لم تكن مشاعرها معارضة لذلك الطرح. لقد ضج النداء وطال، ولكن لا حياة لمن تنادي. وكان ‘ربيع دمشق’ مجرد حلم شاعري عابر. وكان على المناضلين من أصحاب الإعلان أن ينتهوا في السجون ويدفعوا الثمن، ولا ذنب لهم إلا أنهم طالبوا بالإصلاح وتقليم مخالب الفساد. وهذا ما دفع بالجماهير أخيرا إلى الساحات وأوصلنا إلى هدر الدم البريء.
شيء آخر، رأينا أهواله في العراق ونراه اليوم في ليبيا.. وغدا في اليمن، وكل ما أرجوه أن تظل سورية بعيدة عنه.. وأعني به التدخل العسكري الغربي، وخاصة أن سكان هذا الكوكب المقهور صاروا أسرة واحدة، وليسوا قرية وحسب. هذا التدخل الاستعماري الجديد مرفوض بأي شكل كان وتحت أي قناع، إنما لا يجوز أن ننسى أو نتغاضى أن السبب هو استمرار النظام العربي بقمع جماهير شعبه وارتكاب المجازر في صفوفه، وليس ‘المندسون والموتورون والعملاء المأجورون’ هم السبب. لكن المكسب الوحيد النافع في هذا التدخل، رغم مرارته الخانقة، هو أن الدول الاستعمارية سوف تتقاضى الثمن من الأموال المنهوبة والمهربة إلى بنوك الغرب ذاته.
أعرف بكل ما في الروح من قهر ومرارة أن كلماتنا عاجزة وسرعان ما تتبخر في الهواء وتتلاشى، ولا يبقى في ساحات المدن إلا تلك المنارات المتوهجة الطالعة من دماء الضحايا والشهداء.
‘ كاتب من سورية
القدس العربي