صفحات العالم

عالم عربي من دون سياسة/ لينا الخطيب

 

 

قبيل الذكرى الرابعة لاندلاع الربيع العربي، يواجه العالم العربي عموماً أخطار التوجه نحو مستقبل خالٍ من السياسة. قد يبدو هذا التعبير متناقضاً نظراً إلى صعود الزعماء، وإجراء انتخابات في بلدان عربية عدّة، إضافةً إلى شنّ معارك تبدو لامتناهية على السلطة من قِبل جهات فاعلة حكومية وغير حكومية في أرجاء المنطقة. لكن الأمر الذي يبدو غائباً وسط كل هذه التطورات هو تعريف السياسة نفسها.

يمضي المحلّلون وقتاً طويلاً لمحاولة فهم ما يجري في العالم العربي اليوم وتأثيراته على المستقبل السياسي للمنطقة. لكن، إضافةً إلى التحليلات الميدانية، من المفيد أيضاً الالتفات إلى الفلسفة السياسية للتذكير بما هو على المحك على مستوى المفاهيم. إذ عند إمعان النظر، يظهر أن المعارك في العالم العربي لا تهدّد مستقبله السياسي، بل تهدّد وجود السياسة بمعناها الجوهري في المنطقة.

أودّ هنا أن أشير إلى عمل فيلسوفين سياسيَّين يطرحان تصوّرات مختلفة عن العلاقة بين الحكّام والمحكومين في دراساتهما التي تُعتبَر مفيدةً في سياق العالم العربي المعاصر. الأول هو جيورجيو أغامبن الذي يتناول كتابُه الفذ «Homo Sacer: Sovereign Power and Bare Life» (الكائن المُستباح: السلطة السيادية والحياة العزلاء) العلاقةَ بين الحاكم والمواطن. يعرض أغامبن في كتابه أن السيادة تحمل في طياتها القدرة على وضع الحاكم خارج إطار حكم القانون. ينشئ هذا الأمر ما يدعوه أغامبن «حالة الاستثناء» التي يصبح فيها المواطن تجسيداً لـ «الحياة العزلاء»، أي أن حياة المواطن وموته يصبحان كليّاً رهن سلطة الحاكم. وثمة جزء حاسم في هذا العرض هو أن «حالة الاستثناء» هذه ليست تدبيراً موقّتاً يُتّخَذ عند وقوع الأزمات، بل هي القاعدة التي ترتكز عليها العلاقة بين الحاكم والمواطن.

يشهد العديد من البلدان العربية هذه العملية، وإن بأشكال مختلفة. لعلّ الشكل الأكثر تطرّفاً هو ما تشهده سورية اليوم، حيث يحكم الرئيس بشار الأسد البلاد من خلال حالة استثناء منذ ما قبل اندلاع الانتفاضة السورية عام 2011 بكثير. وهو فاقم ديناميكيات التباعد بينه وبين شعبه لتبرير تصعيد الإجراءات المتخذة ضدّ الشعب. إذ حين يصبح المواطن السوري عبارة عن «حياة عزلاء» بالنسبة إلى الحاكم، تصبح الإجراءات من قبيل البراميل المتفجرة أمراً طبيعيّاً باعتبارها تعبيراً عن السيادة. لكن حتى في البلدان التي لا تشهد حرباً نشطة، تسود عملية تحجيم المواطن وتحويله إلى «حياة عزلاء».

جاك رانسيير هو الفيلسوف الثاني الذي يُعتبَر عملُه مفيداً في هذا السياق، إذ يقدّم نقداً لمفهوم السياسة من خلال تعريف ممارسة السياسة بكونِها تتمحور حول الاختلاف. فالسياسة تعني تجاوز مسألة وجود المؤسسات الحكومية، أو حتى مسألة التوصّل إلى إجماع في أي سياق كان. بالنسبة إلى رانسيير، لا وجود للسياسة من دون مساحة للاختلاف. ينبغي أن يكون المواطنون قادرين دوماً على اعتراض مسار الجسم السياسي والنظام الاجتماعي. وبالتالي السياسة هي تطبيع الدفع الدائم الذي يقوده المواطن. وإذا وضعنا هذه الحجة على المستوى العملي، تصبح تعبيراً عن السياسة بصفتها قبولاً للتواجد المتواصل للحركية ولقدرتها على «عرقلة» الوضع الراهن.

والواقع أن الحركية لطالما وُجِدت في العالم العربي، حتى في ظلّ أقسى الظروف. فحتى في ليبيا في عهد معمر القذافي، جرت محاولات لعرقلة حالة الاستثناء مثلاً من خلال التظاهرات ضدّ مجرزة سجن أبو سليم عام 1996 التي نظّمتها أُسَر السجناء المقتولين والتي استمرت حتى انتفاضة عام 2011. بيد أن وجود الحركية في مثل هذا الإطار لا يُعَدّ سياسةً، لأن النشاط في ليبيا في عهد القذافي كان مقبولاً فقط طالما أنه لم يعرقل الجسم السياسي للنظام. كما أنه كان يُنظَر إلى المنخرطين في النشاط على أنهم تابعون لـ «حياة عزلاء» يمكن للحاكم إلغاؤها في أي وقت. وبعد مضيّ أربعة أعوام على اندلاع الثورات، تتواصل الحركية في أرجاء المنطقة من البحرين إلى مصر والأردن، إلا أنها حركية من دون سياسة.

ما يشهده العالم العربي اليوم هو مزيج خطر من مفهوم «الحياة العزلاء» الذي وضعه أغامبن، ومن تصوّر رانسيير لغياب السياسة. إذ يتولى قادة جدد وراسخون السلطة واضعين أنفسهم فوق حكم القانون، ويطلبون من مواطنيهم أن يعبّروا عن امتنانهم عندما يُعفى عن أرواحهم. وتُجرى انتخابات غير حرة تقدّمها الحكومة على أنها تمثّل إرادة الشعب. كما يطلق المسؤولون الحكوميون بيانات مدوّية حول عملهم من أجل التوصّل إلى إجماع، فيما يُستخدَم هذا المصطلح في الواقع للدلالة على قمع الاختلاف. أضِف إلى ذلك أن أجيالاً بكاملها من المواطنين تكبر وهي لا تعرف أنّ ما تعتقد أنه سياسة لا علاقة له البتة بالسياسة بالمعنى الجوهري للكلمة.

تمثّل تونس، حتى الآن، بصيص أمل، إذ إن سياسييها أظهروا تجاوباً تجاه «عراقيل» المواطنين (لنستخدم مصطلح رانسيير)، ويبدو أنهم يقبلون مفهوم الاختلاف باعتباره ميزةً أساسيةً للعملية السياسية، في حين لا تُقدَّم الانتخابات على أنها قائمة على إلغاء الخصوم، بل على احترام التنوّع. لكن باقي المنطقة يبدو أنه يسير في الاتجاه المعاكس. فالبرلمان اللبناني مدّد ولايته مرة أخرى بما يخالف الدستور، فيما أشادت البحرين بانتخاباتها البرلمانية معتبرةً إياها تقدُّماً على الرغم من مقاطعة المعارضة. أما الحكومة المصرية فتواصل اقتراح إجراءات جديدة لقمع حرية التعبير. هذا وانحدرت ليبيا إلى سيناريو من الاستثناءات المتعدّدة، حيث يرى كلُّ فصيل من الفصائل المتحاربة نفسه على أنه حاكم وله الصلاحية لإقصاء مَن يتحدّونه. في المقابل، قد يتخلّى اليمن عن حكم القانون برمّته.

إذا واصل العالم العربي انزلاقه على هذا المنحدر، فربما يتعيّن على المحلّلين عندئذ أن يقاطعوا ببساطة مصطلح «السياسة» عند وصف المسارات التي تشهدها المنطقة. سمّوا هذه المسارات سلطةً أو نزاعاً أو صراعاً، لكن دعونا نستعيد المعنى الحقيقي لمصطلح «السياسة».

* كاتبة لبنانية ومديرة مركز «كارنيغي» في بيروت

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى