عالم ما بعد الهجوم الكيميائي في سورية/ برهان غليون
فجر يوم 21 أغسطس/ آب 2013، نفذ اللواء 155 التابع لـ “الجيش السوري”، المتمركز في القلمون، هجوما كيميائيا استهدف فيه كلا من بلدات زملكا وعين ترما وعربين في الغوطة الشرقية والمعضمية في الغوطة الغربية، استشهد على أثره 1400 شخص، وأصيب أكثر من ثمانية آلاف آخرين.
اتهم النظام المعارضة بأنها فعلت ذلك، لتقديم ذريعة للتدخل الأجنبي، في وقتٍ كان يعد فيه مع حلفائه الإيرانيين لتدخل المليشيات الطائفية، وفي مقدمها مليشيا حزب الله اللبنانية، لكبح تقدم الجيش الحر وتفادي تهديده. حاولت روسيا أن تحول دون اتخاذ قرار في مجلس الأمن، وعندما فشلت أصرّت على قصر مهمة لجنة التحقيق على التحقق من استخدام السلاح الكيميائي، من دون تحديد المسؤول عن استخدامه، إلا أن جميع التقارير الدولية الرسمية والأهلية، بالإضافة إلى الفيديوهات والشهادات الشخصية، قد أثبتت مسؤولية النظام، وبعضها، مثل المخابرات الألمانية، اتهم الأسد نفسه بإعطاء الأمر، حسب ما جاء في اتصال جرى بين مسؤول كبير في حزب الله مع السفير الإيراني في بيروت، عبر فيه مسؤول الحزب عن اعتقاده بأن الأسد بدأ يفقد أعصابه.
وما لبث تقرير لجنة التفتيش التابعة للأمم المتحدة حتى أزال، في 16 سبتمبر/ أيلول 2013، أي التباس في مسؤولية النظام عن هذه الجريمة التي وصفتها التقارير الدولية بأنها جريمة ضد الإنسانية، وليس فقط ضد الشعب السوري. وقد أثبت التقرير أن الهجوم جاء من مواقع النظام، وتم بغاز السارين، وأنه أطلق بواسطة صواريخ أرض- أرض، لا يملكها سوى النظام، وفي ساعة ضمنت إصابة أو مقتل أكبر عدد ممكن من السوريين.
“لم يصدّق كثيرون أن من الممكن لجهاز حاكم أن يستخدم غاز السارين ضد مدنيين عزّل لترويعهم، ودفعهم إلى هجر بلداتهم”
بين الصدمة والفضيحة
أثار استخدام السلاح الكيميائي الذي حرّمته القوانين الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، صدمةً كبرى لدى الرأي العام الرسمي والشعبي، ولم يصدّق كثيرون أن من الممكن لجهاز حاكم أن يستخدم غاز السارين ضد مدنيين عزّل لترويعهم، ودفعهم إلى هجر بلداتهم. ولم تتردد حكومة في العالم في شجب العدوان، والمطالبة بإنزال العقاب بمن قام به، باستثناء موسكو وطهران. وفي تعليقه على تقرير لجنة التفتيش التابعة له، ذهب الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، إلى أبعد من ذلك، مطالبا بمحاسبة الأسد بأسرع وقت: “هذه جريمة خطيرة، ويجب تقديم المسؤولين عنها للعدالة في أقرب وقت ممكن”، وأن الرئيس السوري بشار الأسد “ارتكب جرائم كثيرة ضد الإنسانية، ويجب أن يحاسب عليها”. أما الرئيس الأميركي، باراك أوباما، فقد قرّر الانتقام، وهدد بالتدخل، لتنفيذ وعده بأن استخدام السلاح الكيميائي خط أحمر، وتبعته فرنسا.
لكن، سرعان ما تحولت الصدمة الكبرى التي مثلها الهجوم الكيميائي إلى فضيحةٍ، عندما سحبت الدول، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، تهديدها ولحست الخط الأحمر التي كانت قد رسمته للأسد بشأن استخدام الأسلحة الكيميائية، ووقعت الاتفاق القاضي بمقايضة تفكيك الأسلحة الكيميائية السورية وتدميرها مقابل الإبقاء على النظام والحفاظ على توازنه. في هذا السياق، صدر في أكتوبر/ تشرين الأول 2013 قرار مجلس الأمن رقم 2118، القاضي بإخلاء سورية من السلاح ”ووضع حد لأي استخدام له، بما يشمل نقل الأسلحة الكيميائية من دون إذن، أو استخدام أي أحد للأسلحة الكيميائية في الجمهورية العربية السورية”، والتأكيد على أولوية مساهمة النظام في عملية الانتقال السياسي، مع التهديد بـ ”فرض تدابير بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة”، في حال لم يستجب النظام للقرار. حصل ذلك كله في اللحظة التي كان فيها النظام على وشك الانهيار، وكانت قياداته قد أعدت نفسها للهرب من دمشق بأسرع السبل، كما ذكرت شهادات عديدة من داخل النظام .
الصفقة
هكذا صرف النظر عن معاقبة الأسد على جرائم غير مسبوقة في تاريخ الحروب الداخلية، مقابل ضمانات وهمية بتعاونه للتوصل إلى حل سياسي، ينهي المأساة السورية، ويوفر على المجتمع الدولي والغرب مخاطر مواجهة عسكرية إقليمية ودولية. لكن النظام وحلفاءه رأوا في القرار، عن حق، تعبيرا واضحا عن تردّد المجتمع الدولي، ورغبته في التهرّب من التزاماته تجاه المواثيق الدولية، وقبل ذلك تجاه الشعب السوري الأعزل. وبدل تعاونهم لإطلاق مفاوضاتٍ جادّة للتوصل إلى حل سياسي ينهي الحرب الدموية، قرّروا تصعيد العنف بشكل أكبر لتحقيق أهدافهم. فأرسلت طهران مليشياتها متعدّدة الجنسيات، ونظمت مع الأسد الهجوم على المدنيين بالبراميل المتفجرة، بالإضافة إلى الأسلحة الأخرى. ولما لم يتلقوا أي رد فعل من الدول الراعية للقرار و”أصدقاء” الشعب السوري، ازدادوا ثقةً بأنهم في مأمن من العقاب، وأطلقوا لأنفسهم وقواتهم العنان لتطبيق مشروع الإبادة الجماعية، وتعميم مجازر البراميل
“صرف النظر عن معاقبة الأسد على جرائم غير مسبوقة في تاريخ الحروب الداخلية، مقابل ضمانات وهمية بتعاونه للتوصل إلى حل سياسي، ينهي المأساة السورية” المتفجرة وحصار المدن وتجويع الناس وحرمانهم من الطعام والدواء، وقتل آلاف تحت التعذيب في سجون النظام ومعتقلاته. وشعر النظام بالفعل أنه أصبح مطلق اليدين في شعبه، لا يردعه عن القيام بكل ما يمكنه القيام به لتركيعه لا قيد ولا تهديد. هكذا عاد من خوف إلى استخدام غاز الكلور الذي رصدت المنظمات الحقوقية استعماله في أكثر من مائتي هجمة موثقة، وبعد أن تأكد من أنه لا يوجد رد فعل من المجتمع الدولي على ذلك، استعاد ثقته بنفسه، وانتقل إلى استخدام غاز السارين مجدّدا، فقام في الثالث من إبريل/ نيسان 2017 بالهجوم على بلدة خان شيخون، استشهد على أثره مئة وجرح أكثر من أربعمائة إنسان.
كما حصل في الهجوم على بلدات الغوطة الدمشقية، نفى النظام مسؤوليته عن هجوم خان شيخون، ورمى المسؤولية فيه على المعارضة. وهذا ما فعلته موسكو أيضا باختلاق روايةٍ لا تدخل في بال عن سقوط قنبلة على مخزن للأسلحة الكيميائية تحت سيطرة المعارضة. وكما وقفت روسيا من جديد ضد اتخاذ أي قرارٍ في مجلس الأمن، وساومت على المساعدة في التوصل إلى حل سياسي ينهي المجزرة الشاملة، كرّرت الولايات المتحدة الأميركية والدول الديمقراطية تصريحات مسؤوليها المؤيدة لإنزال أشد العقوبات بالمسؤول عن الجريمة، وأضافت أسماء مسؤولين جدد إلى قائمة المعاقبين فرديا من المسؤولين السوريين. وللتغطية على استسلامها الجديد أمام القاتل، وتغاضيها عن الجريمة، وللتهرّب من القيام بأي عمل يضغط لتطبيق قرار مجلس الأمن 2118 الذي نص في فقرته رقم 21 على استخدام الفصل السابع للرد على أي هجماتٍ لاحقة، استعرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب عضلاته، وأطلق في 6 إبريل/ نيسان 2017، بعد أن تم إعلام موسكو وسحب الضباط والمسؤولين الروس والسوريين من المكان، 59 صاروخاً على قاعدة الشعيرات الجوية، قتلت عشرات الجنود السوريين، معلنا لروسيا والعالم أن الضربة التي أراد لها أن تكون محدودة وسريعة قد انتهت، ولن تتكرر.
العالم الذي يكذب على نفسه
وصل الكذب على الرأي العام السوري والمحلي، والالتفاف على الاتفاقات والمواثيق الدولية وقرارات مجلس الأمن من الأعضاء الكبار والصغار درجة تحول فيه التقاعس وخذلان السوريين والرأي العام الدولي المناصر للعدالة إلى درجةٍ لم يعد يمكن تغطيته، فلم يجد رئيس لجنة التحقيق الدولية في مسألة استخدام الأسلحة الكيميائية في سورية، إدموند موليت، مفرا من الاعتراف بالفشل والعجز. وتذرع لتبرير موقفه بأن مسار تحقيقات اللجنة يتعرّض لضغوط من دول أعضاء في مجلس الأمن، وأن أعضاء اللجنة يشعرون بِقلقٍ شديدِ “إزاء المُحاولات المُؤسفة الساعية إلى تسييس عمل الآلية المُشتركة”.
لكن لم تحدث احتجاجات المنظمات الإنسانية والقانونية الدولية المستمرة، ولا الملفات المجهزة لمحاكمة المتهمين، ولا تهديدات بعض وزراء خارجية الدول الغربية نفسها بدفع ملف الأسد إلى محكمة الجنايات الدولية، ولا استمرار النظام السوري في تحدي إرادة الدول، منفردة ومجتمعة، أي تأثير، ولم تساهم في التقدم خطوة على طريق معاقبة الجناة، أو تحقيق إنجاز ولو كان محدودا في ملف المفاوضات السياسية لإنهاء الحرب. بالعكس، سارت الأمور في اتجاه تشجيع النظام وحلفائه في طهران على تثبيت خيار الاستسلام أو الإبادة الذي قامت عليه حرب النظام ضد السوريين منذ البداية.
“ما نشهده في السنوات الأخيرة هو تدمير هذه الأسس والمبادئ والاعتقادات التي قام عليها نظام سلام ما بعد الحرب الثانية”
عندما نفقد الإيمان بالمبادئ
كيف حصل ذلك؟ وما الذي يفسر تخلي القضاء الدولي عن مسؤولياته حيال ملفٍ بحجم ملف الأسد في ارتكاب جرائم لم تتردّد أي منظمة حقوقية في وصفها بالجرائم ضد الإنسانية؟ وكيف يبقى مرتكبوها طلقاء مصرّين على الاستمرار في استخدام الأسلحة ذاتها، من دون خوفٍ من عقاب أو محاسبة، بعد أربع سنوات متواصلة؟ وماذا يعني فشل المجتمع الدولي، وفي مقدمته مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، في الرد على تحدّي نزع الصدقية عن الحكومات الديمقراطية والمنظمات القانونية العالمية وتمزيق المواثيق الدولية من دون رد فعل، وكسر الخطوط الحمر التي ردعت طغاة كثيرين عن الاستمرار في القتال خوفا من المحاسبة؟ ومن هو المسؤول عما ينبغي تسميتها شرعنة استخدام اسلحة الدمار الشامل في الحروب الأهلية، وما يقود إليه من تشريع الأبواب أمام احتمالات تحويل الإبادة الجماعية إلى رد عادي ومقبول لحسم هذه الحروب والنزاعات السياسية في عالم متفجّر، فقد موازينه، وأصبح زاخرا بالتناقضات والتوترات والمواجهات، ونماذج الدول الفاشلة والمفككة والمنهارة؟
يختبئ مسؤولون عديدون عن هذه الكارثة التي حلت بمفهوم العدالة الدولية والعدالة الإنسانية بالمطلق، وراء فيتو موسكو الجاهز الذي استخدم بالفعل من دون حساب، وأكثر من مرة لمنع اتخاذ قرار في مجلس الأمن، يمكّن المجتمع الدولي من التدخل لوقف المذبحة السورية، أو لتغيير سلوك النظام الذي صمم على التهديد بالإبادة الجماعية، ومارسها فعلا. ويدّعى مسؤولون آخرون أن التدخل العسكري ضد النظام كان كثير المخاطر، وربما فتح الباب أمام مواجهة دولية واسعة النطاق. وراهن آخرون بالتأكيد على تشجيع الأسد على الدخول في صفقةٍ مع المعارضة، بعد أن كشفت أوراقه وتعرّض لإدانة جماعية.
وجميع هذه الادعاءات مجرد ذرائع واهية، فموسكو لا تستطيع أن تملي إرادتها على عالم كامل، إلا إذا كان أصلا منزوع الإرادة، أو مفتقرا لها، كما أن المسؤولين يعرفون أن زعزعة النظام لم تكن بحاجة لحرب ومواجهة. كان يكفي تصريح حقيقي وقرار ثابت حتى ينهار من داخله، أما الرهان على تعاونه في مفاوضاتٍ جدية، فقد كان من باب التمنّي، ولا يوجد له أي دليل.
الحقيقة أنه لم يكن للانسحاب أمام نظام الأسد وحلفائه، والسماح لهم بالاستمرار في استخدام الأسلحة الكيميائية سوى دافع واحد، هو زوال الإيمان بالمبادئ الكبرى التي قام عليها نظام حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وسلامها، حيث كان التأكيد على التضامن والعدالة والقانون الدولي والحرية لجميع الشعوب، أبرز تظاهراتها وأكثرها تأثيرا على الرأي العام الدولي. ولأن الغرب المتحكّم، حتى الآن، بالقرار الدولي، فقد الإيمان بهذه المبادئ، وانطوى على مصالحه الإقليمية والقومية، لم يعد لديه حافز للقيام بأي عمل لا يعنيه مباشرة، ولم يعد يجد وسيلةً للتغطية على تقاعسه وتخليه عن التزاماته الدولية سوى الكذب على نفسه والعالم.
“ما نشهده يعكس تراجعا عميقا وسريعا في روح المدنية التي ولدت من الاعتقاد بالتقدّم والإيمان بسعادة بشرية راهنة وعلى الأرض”
عالم مفتوح على كل المخاطر والتهديدات
قام السلام النسبي الذي شهدته البشرية في العقود الماضية لما بعد الحرب العالمية الثانية على فكرة أساسية هي وضع حد من النظام، وبالتالي من الأسس والمبادئ الإنسانية، القانونية والأخلاقية، في حقل العلاقات الدولية، وفي مقدمها احترام حقوق الدول والشعوب، وصد العدوان، والتعاون على الارتقاء بشروط حياة البشر ومكافحة ظواهر الاستعمار والعنصرية، وجعل مواجهة مشكلات الفقر والبيئة والسلام والأمن الدوليين مسؤولية مشتركة عالمية، وتأكيد قيم التكافل والتضامن من أجل الحفاظ على صدقية المواثيق الدولية، ومنع انتهاكها وخرقها من دون حساب. وعلى هذا الأساس، تم ردع اعتداءات كثيرة ما بين الدول وداخل الدول نفسها ضد الشعوب والجماعات، أقليات وأكثريات، ودينت كل أشكال الاضطهاد القومي والديني والسياسي، وأصبحت الديمقراطية وحق الشعوب في تقرير مصيرها وسيادتها، ورفض كل أشكال الديكتاتورية، منبعا لتضامنٍ وتفاهمٍ عالميين، بل ثقافة أو جزء من ثقافة جامعة للبشر، ومشجعة لهم على التطلع إلى مصير واحد وتعاون بناء لتحقيق آمال الناس، بصرف النظر عن أصلهم وجنسهم ولونهم ومذاهبهم وأديانهم.
وما نشهده في السنوات الأخيرة هو تدمير هذه الأسس والمبادئ والاعتقادات التي قام عليها نظام سلام ما بعد الحرب الثانية، فلم تتعرّض هذه الأسس والمبادئ الناظمة للمجتمع الدولي إلى تحدّ في أي وقت، بعد تبنيها، كما حصل في الحالة السورية التي اجتمعت على شعبها وحوش ضارية من الدول التي استغلت حماقة حكامها وشرههم للسلطة والمال، من أجل تشريد شعب كامل واقتناص موارده وتقطيع أوصال وطنه، وتحويله إلى قطع غيار في آلة سيطرتها الداخلية والدولية. ولم ينجح معول في تدمير هذه الأسس والمبادئ وتفريغها من محتواها وتعريض العلاقات الدولية للانكشاف القانوني والأخلاقي، كما نجح معول الأسد وكسره جميع الخطوط الحمر في التعامل مع الشعب السوري، والاستهزاء بالمجتمع الدولي، والسخرية منه، وتمريغ وجهه بالوحل أمام مبادئه ذاتها.
أبعد مما تشير إليه التحليلات المتعلقة بنتائج العولمة وتعميم السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، ما نشهده يعكس تراجعا عميقا وسريعا في روح المدنية التي ولدت من الاعتقاد بالتقدّم والإيمان بسعادة بشرية راهنة وعلى الأرض، والرهان على سلام عالمي، يفتح الأفق نحو تعميم قيم الحضارة الحديثة، المادية والمعنوية، وإرساء أسس ديمقراطية جامعة، تتعايش في ظلها جميع الشعوب والبشر.
هذا التراجع وما يرافقه من تخدير أو تجلد للضمير العالمي، إن لم نقل من انهيار أخلاقي، هو الذي يفسّرالنزوع إلى مقايضة حقوق الإنسان بالمعنى الشامل للكلمة، ولا أقصد حقوق السوريين المستباحة، كحق عام يردع الجريمة، بسلام لا يختلف كثيرا عن السلام الذي حققته أوروبا بتوقيعها في 9 سبتمبر/ أيلول 1938 مع ألمانيا اتفاق ميونخ الذي فرض على جمهورية تشيكوسلوفاكيا التنازل عن سوديتنلاند، على أمل أن يشبع هذا الإلحاق شهية هتلر للتوسع، ويوفر على أوروبا عبء المواجهة والحرب، في وقتٍ فهم منه ألفوهرر بأنه دليل ضعف ودعوة إلى الاندفاع إلى مزيد من التوسع والقضم.
هذا التراجع أو الانهيار الأخلاقي هو الذي يغذّي النزوع العالمي المتزايد في العالم، وفي الدول الكبرى المتحكّمة أكثر بمصيره، إلى التخفف من أعباء الالتزامات الدولية الجماعية، والعودة إلى روح الأنانية القومية التي تختلط اليوم بالدفاع عن النظم والنخب الحاكمة الحليفة، وجعل
“النظم الأكثر استعدادا للتضحية بمصالح شعوبها وتحميلها مخاطر المواجهات والحروب التدميرية هي الأكثر حظا في ربح المعركة وفرض إرادتها” مصيرها مقدّما على مصير أي مسيرة إنسانية جماعية متوازنة ومستقرة، وهو الذي يفسر إصرار موسكو وتصميمها على تعطيل أي قرار لمجلس الأمن، وبالتالي أي إجماع دولي، للتوصل إلى حل سياسي ينهي المجزرة، من أجل مصالح استراتيجية، وتصفية حسابات مع الغرب، وإرضاء روح التشفّي والانتقام لنهاية روسيا السوفييتية. وهو الذي يفسّر أخيرا إذعان الرأي العام العالمي، ومن بينه قادة كثيرون للرأي، من صحافيين وسياسيين ودبلوماسيين وفنانين، للأمر الواقع، والتعايش بسلام مع البؤس الأخلاقي الزاحف، والقبول بالتعامل مع الخيانة المستمرة للمعايير والقيم والمواثيق الإنسانية والدولية التي ضمنت السلام والأمن الدوليين، للعقود الطويلة الماضية، بمقدار ما أعطت للشعوب والمجتمعات الضعيفة والنامية الأمل بالمشاركة في عصر السلام والأمن والازدهار هذا، والاندراج في منظومته البناءة.
إنه الانهيار لحلم كامل، ولد مع نهاية الحرب العالمية الثانية، في عالمٍ موحد ومتسق، يسير معا على طريق السلام والديمقراطية والرخاء، تحكمه مبادئ وقوانين وقيم، كان من المفروض بالأمم المتحدة أن تجسّدها وتدافع عنها. ما شهدناه ونشهده على أثر الحرب أو الحروب السورية هو العكس تماما: كابوس لعالم مقسم، متنافر، مختل التوازن على جميع المستويات، يسير على طريق الحرب والفاشية المتجدّدة وتعميم دائرة الفقر والخراب والموت، لا تحكمه قوانين، ولا تلهمه قيم، ولا تضبط سلوك أطرافه مبادئ، وإنما القدرة النسبية على استخدام العنف الأقصى، وإنزال الأذى الأكبر بالآخرين من دون حساب. ما يعني أيضا أن النظم الأكثر استعدادا للتضحية بمصالح شعوبها وتحميلها مخاطر المواجهات والحروب التدميرية هي الأكثر حظا في ربح المعركة وفرض إرادتها على عالم فقد روحه وتخلى معظم أقطابه عن التزاماتهم الأخلاقية والسياسية. هذا هو عالمنا اليوم، عالم مفتوح على كل المخاطر والتهديدات.
العربي الجديد