صفحات العالم

عامل الفوضى في سورية


ايتامار رابينوفيتش

فرصة التقاط الأنفاس التي قدمت إلى النظام السوري لا تضمن خلاصه. فللوهلة الأولى يبدو النظام كأنه سلم من الأذى إلى حد كبير، وتظل المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية موالية له، لكن على مستوى البلاد ككل، بدأت الحكومة تنهار، وأصبحت مناطق كاملة خارج نطاق سيطرتها تماماً، وانزلق الاقتصاد إلى السقوط الحر.

كثيراً ما يعزو المراقبون فشل إدارة أوباما، وحلفائها الغربيين، والعديد من القوى الإقليمية في الشرق الأوسط، في اتخاذ إجراءات أكثر جرأة لوقف المجازر في سورية إلى خوفهم من الفوضى. ونظراً لعجز المعارضة السورية الواضح وانقسامها، فهم يزعمون أن سقوط الرئيس بشار الأسد عندما يسقط في نهاية المطاف من شأنه أن يؤدي لا محالة إلى اشتعال حرب أهلية ومذابح، وفوضى، ومن المرجح أن يمتد كل هذا عبر الحدود السورية، فيعمل على زعزعة استقرار الدول المجاورة الضعيفة مثل العراق ولبنان، بل ربما يؤدي إلى أزمة إقليمية.

بيد أن ما يجري في سورية الآن يدحض هذه الحجة. الواقع أن الأزمة المستمرة هناك تعمل على تآكل نسيج المجتمع السوري والحكومة. أي أن الفوضى بدأت بالفعل الآن: فهي تسبق سقوط النظام في نهاية المطاف، وتعجل به.

والآن تغير الولايات المتحدة وغيرها من الدول لغتها الخطابية الحادة وتستعيض عن الإجراءات العقابية الرمزية بالعمل الحقيقي في سورية. ذلك أن فرض العقوبات على هؤلاء المتورطين في الحرب الإلكترونية ضد وسائل الإعلام الاجتماعية المعارضة ليس الحل المناسب لقصف الأحياء المدنية في حمص ودرعا.

ولأشهر عدة، كانت العقبة الروسية الصينية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تمثل عائقاً حقيقياً يحول دون فرض المزيد من العقوبات الفعّالة، وفي الوقت نفسه كانت عذراً مريحاً للتقاعس عن العمل. وأخيراً، لعبت مهمة الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي أنان بالنيابة عن الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية دوراً مماثلاً.

فقد أعد أنان خطة من ست نقاط لإنهاء العنف وبدء المفاوضات السياسية، فأرسل مجموعة من المراقبين إلى سورية للإشراف على تنفيذ الخطة، والآن توشك الأمم المتحدة أن تدعم هذه المهمة، ولكن كما هو متوقع لم تثبت خطة أنان قدرتها على إحراز النجاح، وهو ما كاد يعترف به أنان ذاته في تقرير عرضه على جلسة مغلقة في مجلس الأمن في الخامس والعشرين من أبريل.

بطبيعة الحال، لم يعلن أنان فشل المهمة، ولكنه وصف الموقف في سورية بأنه «قاتم». ومن الواضح أن مهمة أنان منحت النظام الفرصة لالتقاط الأنفاس وخلقت وهماً مؤقتاً بإحراز تقدم على الصعيدين السياسي والدبلوماسي، ولكن وفقاً لتقارير عديدة وجديرة بالثقة فإن نظام الأسد (ومعارضيه بدرجة ما) لم يمتثل للخطة بعد توقيعها: فقد سحب النظام قواته من المناطق الحضرية قبل التفتيش ثم أعادها بمجرد رحيل المراقبين. ولقد عوقِبت أحياء بالكامل (وأفراد) بوحشية لأن قاطنيها اشتكوا إلى المراقبين أو تعاونوا معهم.

ولكن فرصة التقاط الأنفاس التي قدمت إلى النظام لا تضمن خلاصه. فللوهلة الأولى يبدو النظام وكأنه سلم من الأذى إلى حد كبير. وتظل المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية موالية له، ولم ينشق عن الحكومة سوى قِلة من الوزراء، فضلاً عن ذلك فإن المراكز السكانية الرئيسية في دمشق وحلب لم تنضم إلى التمرد.

ولكن على مستوى البلاد ككل، بدأت الحكومة تنهار، وأصبحت مناطق كاملة خارج نطاق سيطرتها تماماً، وأصبحت الخدمات العامة غير متاحة، وانزلق الاقتصاد إلى السقوط الحر.

حتى وقتنا هذا، لا يبدو سقوط الأسد وشيكاً، ولكنه أصبح محتماً. فقد خسر النظام كل شرعيته، وبدأت فعاليته تضعف بوضوح. وعندما ينهار في نهاية المطاف، فإن الدولة القوية التي بناها حافظ الأسد والد بشار، لن تظل قائمة.

كثيراً ما سمعنا العبارة المبتذلة «سورية ليست ليبيا» طوال الأزمة السورية، لكن هناك قياساً آخر قد يكون أكثر ملاءمة. فقد تتحول سورية إلى عراق ثان، ليس بسبب تصميمها، ولكن كنتيجة غير مقصودة للسياسة الحالية.

فبفضل سياسة «اجتثاث البعث» التي انتهجها المحتل الأميركي، أصبح العراق دولة بلا جيش أو حكومة، فتحول إلى تربة خصبة للمتمردين المسلحين من السُنّة، وتنظيم «القاعدة»، والجماعات الشيعية العنيفة. وفي سورية يجري الآن تمهيد الأرض لنتيجة مماثلة، مع عبور أعداد متزايدة من الإسلاميين المتطرفين الحدود إلى سورية وانضمامهم إلى المعارضة.

ومن المهم في هذا السياق أن ندرك الفارق بين المعارضة «السياسية» وجماعات المعارضة المحلية التي تشن حرباً ضد النظام على الأرض، بل إن جماعات مثل المجلس الوطني السوري هي في واقع الأمر جمعيات غير منظمة تتألف من أفراد وجماعات العديد منها خارج سورية.

وهذه هي الجماعات التي انتقدتها إدارة أوباما وغيرها بسبب فشلها في تشكيل جبهة موحدة، أو صياغة أجندة معقولة، أو الظهور بمظهر البديل العملي للنظام الحالي. ولكن هذه الجماعات ضعيفة التأثير على جماعات المعارضة المحلية داخل سورية، والتي تعاني بالقدر نفسه الانقسامَ والتشعب.

وبين هذه الجماعات اكتسب الإسلاميون الراديكاليون موطئ قدم. ويشكل الخوف من استيلاء الإسلاميين على السلطة الحجة الرئيسية الثانية ضد محاولة إطاحة نظام الأسد، ولكن كلما طال أمد بقائه في السلطة تعاظمت مكاسب الإسلاميين على الأرض.

إن إدارة أوباما، التي تركز على انتخابات الرئاسة في نوفمبر، غير راغبة في الاضطرار إلى التعامل مع أزمة كبيرة في سورية في الأشهر المقبلة، وهي منشغلة بخطر الانجرار إلى ورطة عسكرية أخرى. ويبدو أن الجهات الفاعلة الأخرى أيضاً تفضل الأزمة الحالية المحدودة ظاهرياً على البدائل المجهولة.

لكن القضية الأخلاقية الملحة المتمثلة في ضرورة التدخل الإنساني تكتسب المزيد من القوة الآن بدعم من مصالح حيوية حقيقية. فضلاً عن ذلك فإن التدخل العسكري أو شبه العسكري ليس الخيار الوحيد المطروح على الطاولة. وكما أظهرت العقوبات التي فُرِضَت على إيران خارج إطار مجلس الأمن، فمن الممكن اتخاذ إجراءات فعالة لترجيح كفة الميزان وإنهاء المأزق المهلك في سورية. إن النهج الحالي الذي يجعل من التقاعس عن العمل خياراً مفضلاً يهدد رغم أنه قد يكون مفهوماً بدفع الموقف برمته إلى نفس النتائج التي يسعى أنصاره إلى تجنبها.

* دبلوماسي سابق ويحاضر في جامعتي نيويورك وتل أبيب، و«معهد بروكينغز».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى