صفحات سورية

عامٌ على ثورة الكرامة والحرية، وخمسٌ وأربعون عاماً على الاحتلال


 د.محمود محمود **

في الجولان المحتل، حكاياتٌ وقصصٌ كثيرة تعيشُ وتُعاش وتكبر، لها من العمر عامٌ كامل، فهي وليدة هذه الثورة وربيبة مقاومة الاحتلال.

كغيره من المناطق السورية_مع خصوصية الاحتلال المضافة إليه_ يعيش الجولان المحتل منذ اليوم الأول لاندلاع الثورة تناقضات وانقسامات سياسية واجتماعية لم تعد مخفيةٌ على أحد، فقد طفا أكثرها حده على السطح وبات معروفاً للجميع. معارضون وموالون وأغلبيةٌ صامتة تعلق بين الطرفين، في ذات الفرز والانقسام الحاصل في دمشق وحلب وغيرها من المناطق، وذاتها الأثمان المترتبة على كل موقف واصطفاف، لكن من دون أرواح تزهق. أبخس تلك المواقف أن تكون موالياً للنظام، فلا ضغط اجتماعي يمارس عليك ولا تهديدٌ من أحد يطالك، لا بالاعتداء الجسدي ولا بالاعتداء معنوي ولا تلاحقك الشائعات والتلفيقات وتشويه السمعة. فحتى لو كان تاريخك تحت الاحتلال مشيناً ومخزياً وفق المعايير الوطنية المتعارف عليها هنا، فإن ولاءك اليوم يجعل منك نبراساً يقود مسيرات الطاعة ويشرّع لك أن تتصدر القوم وتهتف بهم. وطبعاً سلطات الاحتلال الإسرائيلي لا تعترضك ولا بكلمة واحدة، بل ترسل وسائل إعلامها لتغطّي حفلات ولائك وشعائر عبادتك “للقائد” وقد تصفق لك إن كنت غوغائياً كفاية. أما أن تكون معارضاً، فذلك حديثٌ آخر، وعليك تحمل كل ما سبق، وأن تعلم أنك مهددٌ دائماً جسدياً ومعنوياً وأن سمعتك باتت علكةً سائغة في أفواه كل من لا ضمير لهم، وأيضا سلطات الاحتلال قد لا تعترضك، لأن هناك من يقوم بدورها المفترض ويمارس عليك التشبيح والقمع والاعتداء، فلم العناء؟

للصامتين أيضاً حيزٌ لا بأس به عندنا، فهم الأغلبية كالعادة، يمارسون “حريتهم” بعدم الانحياز بكل هدوء وسلام. فمنهم من لا يعنيه أساساً كل ما يجري، ومنهم من يبرر صمته بواقع الاحتلال ويبرر تخاذله بمنطق أنه يتّبع سياسة تفويت الفرص على إسرائيل وهو بذلك لا يعطيها مبرراً لتمرير سياساتها واستغلال الشرخ الاجتماعي الحاصل. ويردد إيمانه بأن الاحتلال أولاً، والاحتلال أخيراً، ولا صراع سواه.

مؤيدو الثورة في الجولان المحتل: مع اندلاع بوادر الثورة السورية، وبعد ما شهدته الساحة العربية في مصر وتونس وليبيا والبحرين واليمن من أحداث، حسمت فئة من السوريين في الجولان أمرها ودعمت الثورة مع بدء إرهاصاتها الأولى، ولسان حالها يقول: ” أن الاحتلال والاستبداد واحد” ولا تحرير للأرض المحتلة إلا بزوال الديكتاتورية وبناء دولة ديمقراطية حرة تمثل إرادة الشعب السوري الكريم. فكان الدعم على قدر الإمكانات، خجولاً فردياً حيناً، جماعياً حاشداً أحياناً أخرى. ومنذ الأشهر الأولى للثورة، أصدرت مجموعة من عشرات الناشطين والناشطات في نيسان من عام الثورة، بياناً متقدماً مضمونه وعنوانه كان “أنتم الصوت ونحن صداه”، مؤيداً للثورة ومديناً لكل أشكال القمع والبطش الذي مارسه النظام على الشعب المنتفض، وجاء فيه: “….. إننا نضم صوتنا إلى صوت شعبنا في الداخل السوري، متوجهين للنظام بأوضح العبارات، أن يبادر اليوم قبل الغد إلى إعادة الحق إلى أصحابه، والمباشرة برفع قانون الطوارئ وإطلاق الحرّيات العامة وسراح جميع معتلقي الرأي ورفع القيود عن الإعلام، وإلغاء المحاكم الاستثنائية ونتائج الاستطلاع الاستثنائي الجائر لعام 1962، تمهيدا لانتقال سلمي وهادئ للسلطة، يجنّب الوطن ما لا تُحمد عقباه.

سياسات مدّ الأيدي مِن قبل الشعب وفصائل المعارضة الوطنية في الداخل التي قابلها النظام بالاعتقال والبطش والترهيب وبث بذور الفرقة بين مكوّنات المجتمع السوري، تقطع كل الشك بكل اليقين أن النظام غير معني إلا بإبقاء إحكامه على السلطة وتسلطه على رقاب العباد. فحكم الشعب عبر أجهزة الأمن تارة والالتفاف على مطالبه بمرسوم هنا أو رشوة هناك تارة أخرى، لن يوقفا سيرورة التغيير وحركة التاريخ. وبما أنّ ردّ النظام على احتجاجات شعبنا السلمية ومطالبه المشروعة جاء دمويا على نحو ما شهدناه، محوّلا صدور السوريين أهدافا لرصاص اقتُطِع ثمنه مِن جيوبهم ومِن أمام أفواه أطفالهم بحجة محاربة إسرائيل؛ فإننا نعلنها على الملأ، وليسمعها القاصي والداني، أنّ “كل مَن يقتل شعبه خائن”، وأنّ كل نقطة دم سورية تُراق، سوف تكون حجّة على مهرقيها، ولعنة تطاردهم ولو بعد حين.

إنّ قدرنا هو العيش بحرية وكرامة، ومنطق الحياة يؤكد أن الشعب أبقى مِن حكّامه. فوطن حرّ، ديموقراطي وعلماني، يتساوى تحت سقفه الجميع، وليس فيه مكان لجَور ولا ظلم ولا طائفية بغضاء هو ديننا وديدننا، وهو جوابنا الأخير.

عاشت سوريا حرة كريمة لجميع أبنائها.”

من هنا، وبعد هذا البيان الذي لاقاه زبانية النظام في الجولان بالتخوين والتشهير وبممارسة شتى وسائل الضغوط والترهيب الاجتماعي والنفسي على كل من وقّع عليه، بدأ الحراك المؤيد للثورة يتعرض لتصعيد مضاد من قبل الموالين للنظام، هدفه الأساس كان القمع وكم الأفواه ومنع أي صوت معارض لنظام “الممانعة” من أن يرتفع في الجولان المحتل. ووصل في أحيان كثيرة حد الاعتداء الجسدي والاعتداء على الممتلكات ومهاجمة البيوت، وليس أفظعها ما حدث مع المناضل وئام عماشة، الذي كان قد أعلن إضرابا مفتوحاً عن الطعام من داخل زنزانته في معتقل الجلبوع تأييدا للانتفاضة السورية، وتابع منذ الساعة الأولى لتحريره دعمه للثورة وللشارع المنتفض. فلاقى عماشة ما لاقاه من حملات تخوين وضغط واعتداءات على بيت عائلته وممتلكاتهم، ولم يشفع له تاريخه النضالي، ولا أكثر من عشر سنوات في سجون الاحتلال، عند الشبيحه ولم يسلم من أنيابهم المسعورة التي كشّرت لتنهش أي صوت لا يتغنى بفاشية نظام الأسد. حاله في ذلك حال الكثيرين ممن رفعوا شعار الحريّة خياراً، ودفعوا_ويدفعون يومياً_ ثمن ذلك. بصرف النظر عن الانقسام السياسي-الأخلاقي الحاصل، وبعيداً عن تأييد أي منها، لكن حقيقة أن الجولان محتل، وحقيقة سكون جبهته المريب لأكثر من أربعة عقود وعدم سماع دوي رصاصة واحدة، اللهم إلّا عندما زج النظام الخائن بشباب وشابات، في ذكرى النكبة والنكسة من خيرة الفلسطينيين والسوريين، ودفعهم إلى موتهم بيد قناص إسرائيلي فهم تواطؤ النظام معه، ووصلته رسالة مخلوف عن أمنه وعن أن النظام الحالي هو وحده من يحميه، فقتل وأصاب العشرات في المناسبتين على التوالي، وحفظت إسرائيل الدرس وحفظت النظام من السقوط لاحقاً. كل ذلك، وهو ليس إلا نزراً يسيراً من الوقائع التي تفرض نفسها على الأرض وتُبرز الكثير من الأسئلة والأجوبة في آن. فاحتلال إسرائيل في عام 1967 لهذه البقعة الغنية من الأرض السورية وملابسات سقوط الجولان في الوقت الذي كان فيه حافظ الأسد وزيراً للدفاع، والذي كان هو نفسه من أصدر البلاغ 66 الفضيحة، وأوعز للقوات المسلحة بالانسحاب الكيفي من جبهة القتال، معلناً بذلك سقوط القنيطرة قبل ساعات كثيرة من احتلالها الفعلي (على ما جاء في شهادة خليل مصطفى/ضابط استخبارات الجولان قبل الحرب، في كتابه سقط الجولان)، وما تلا ذلك من كذب ونفاق عن حرب تشرين “التحريرية” 1973، والتي لم تحرر شيئاً فعلياً سوى النظام من عار الهزيمة، فكان لا بد منها حتى يضرب الأسد الأب أسس نظام ديكتاتوري حكم البلاد لعقود تلت، وليُسكت كل من عارضه إما بالقتل أو الاعتقال أو النفي. فقبض على ورقة الجولان في يساره وقمع الشعب السوري بيمينه، واستخدمها في لعبة الابتزاز السياسي على حساب الوطن، ودائماً في سبيل تعزيز قبضته على مقاليد الحكم الأبدي الذي أورثه لابنه بشار لاحقاً. واقع الحال هذا، يدركه الموالي قبل المعارض هنا في الجولان، حتى لو تعامى الأول عنه ورفض الإقرار به جهاراً، فالشمس لا تُحجب بغربال. كل ذلك يفتح باب تساؤل شائك آخر، مفاده أن: هل فعلاً مؤيدو النظام يريدون تحرير أرضهم من الاحتلال؟ وهل فعلاً يصدقون خطاباً ممانعاً غارقاً في الزيف والرياء؟ هل هم سُذج إلى هذه الدرجة؟ ألّا يذبحهم منظر الجيش السوري “الأسير” وهو يقتحم بجحافله القرى والمدن السورية ويصل إلى تخوم الجولان وبدل أن يقاتل العدو أخذ “يستأسد” في سفك دم المواطنين السوريين العزّل؟ ألّا يُخثّْر هذا المشهد الدم في عروق كل من قال “أنا سوري”؟ أم أنهم ببساطة لا يكترثون إن تحرر الجولان أو لم يتحرر، وما يعنيهم فقط أن يبقوا متنفذين منتفعين من خلال هذا النظام المجرم القاتل، وحساباتهم الوطنية تأتي لاحقاً، إن هي أتت أصلاً؟!!

في الذكرى السنوية لميلاد الثورة، أقول مؤكداً، أن الشعب السوري واحد، والجولان بمن فيه، وبمعزل عن انتمائهم واصطفافهم اليوم، هم جزءٌ عضويٌ لا يتجزأ من هذا الشعب، فقد أثبت الجولانيون ذلك من خلال تاريخ نضالهم الطويل ضد الاحتلال ومشاريعه، ومن خلال تمسكهم بهويتهم السورية وانتمائهم الوطني، وأكدوا على الدوام أنه لا يمكن لهم الانفصال عن عمقهم السوري وعن شعبهم مهما تباينت المواقف الراهنة ومهما حاول النظام حشو عقول البعض منهم تشبيحاً ومهما عمل على إفساد مفهوم المواطنة من خلال تكريس ذاته بديلاً عنها. إن الاحتلال قد فشل في “أسرلة” الجولان والنظام فشل بدوره في “بعثنة” سوريي الأرض المحتلة (إلا ما ندر في الحالتين) والحديث عن دولة سورية مقاومة قادرة على تحرير الأرض لا يمكن أن يستقيم بغير أن تكون الدولة حرة ديمقراطية لجميع مواطنيها.

** د. محمود حافظ محمود خريج  كلية الطب في جامعة دمشق. يخضع للاقامة الجبرية  والابعاد عن منزله خارج مجدل شمس. بعد اعتقاله بشبهة المشاركة في المواجهات التي شهدتها مجدل شمس في الذكرة الـ44 لنكسة حزيران المشؤومة . وهو لا يزال مُبعدا تحت الاقامة الجبرية في انتظار تقديمه للمحاكمة  الاسرائيلية في ايار المقبل

موقع الجولان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى