عامٌ على رحيل أنطونيو تابوكي
علينا أن نشكّ، أن نصبح مناوئين للحقيقة!
ألفراد الخوري
كان أنطونيو تابوكي من أكثر الكتّاب الإيطاليّين شهرةً في حياته؛ لكنّه، مع ذلك، لم يكن يوماً كاتباً رسميّاً، “كاتبَ نظام”. رؤيته لأدوار الكاتب، مفهومه للإلتزام، فضلاً عن أسلوبه الذي يؤثر الغموض والهلوَسات الحلميّة؛ كلُّها أمورٌ تجعل العودة إلى تابوكي ضروريّة، في الذكرى الأولى لرحيله.
تقوم كتابة أنطونيو تابوكي (1943-2012) على الفجوات، على الغيابات، على لحظات الصمت الأبيض تتقطّعها أحياناً مقطوعةٌ لتشارلي باركر، أو حديثٌ مستلّ من فيتزجيرالد. فعلى امتداد مسيرته الكتابيّة، عمد صاحب “بيريرا يزعم” (1994)، إلى كسر المسار الخطّي الرتيب للتطوّر السرديّ، عبر إدخال القارئ في متاهات ودوّامات تخييليّة، وفق الطريقة البورخيسيّة الشهيرة، تفضي به إلى رؤية العالم مقلوباً رأساً على عقب. إنّه “فنّ التشويش الموجَّه”، وفق فرنسوا فيتراني.
في سرد تابوكي مستويات عدّة: هناك راوٍ أوّل يسلّم راوياً آخر دفّة الحكي ويعتصم في الظلّ. كتابته سردٌ داخل السرد، بحثاً عن الكلمات التي تحت الكلمات، عن الأسماء المتلطّية خلف الأسماء. قصصه عن ناسٍ عاديّين، في عتمة العزلة أو على فراش الموت، يروون حكايتهم. يبدأون من حيث انتهى التاريخ “الرسميّ”، يكرّون بكرة أيّامهم فتتشابك الخيوط وتتلاطم المصائر. يتساءلون عن معنى البطولة والخيانة والموقف والمصادفة والخيار. هكذا تصير الكتابة محاكاةً لعمل الذاكرة، ويصير الزمن زمناً حلميّاً متحرّراً من أيّ منطقٍ يحكمه، غارقاً في إكزوتيكيّة الحنين. فالزمن ثيمةٌ أساسيّة لدى هذا الكاتب الذي يُعدُّ الأكثر أوروبيّةً بين مواطنيه، منذ “ساحة إيطاليا” (1975)، باكورته الروائيّة، إلى “الزمن يشيخ بسرعة” (2009)، آخر مجموعاته القصصيّة (راجع المقال أدناه)، التي يتصدّر غلافَها عملٌ للفنّان الفرنسيّ فيليب راميت، يقول الكثير عن عالم تابوكي المعلَّق بين الواقع والحلم، بين الجذور والإنطلاق، بين الأنا والأنا الأخرى، بين “الزمن الفيزيائيّ” الواقعيّ و”الزمن الوجوديّ” الداخليّ، في استعادةٍ لمصطلحَي هايدغر.
بيسّوا أو الأنا الأخرى
لا يمكن المرور على حياة تابوكي وتجربته الكتابيّة من دون التوقّف عند الشاعر البرتغاليّ فرناندو بيسُوا (1888-1935)، الذي شكّل بالنسبة إلى الإيطاليّ اكتشافاً حاسماً ورؤيا نادرةً، فضلاً عن أنّ طيفه حاضرٌ في كلّ أعمال تابوكي تقريباً. فعام 1962، وبينما كان تابوكي عائداً من باريس إلى إيطاليا، ابتاع كتيّباً شعريّاً (مترجماً إلى الفرنسيّة) بعنوان “دكّان التبغ”، لشاعر برتغاليّ لم يسمع باسمه قطّ: ألفارو دي كامبوس. أُصيب تابوكي بسوداويّة هذه القصيدة السرديّة الطويلة، وبمنحاها العدميّ التي مطلعُها: “أنا لا شيء./ سأظلُّ دائماً لا شيء./ لا يمكنني أن أكون شيئاً./ لكنّني أحمل في داخلي أحلام العالم كلّها”. كذلك أُعجب بمقدرة الشاعر على استخدام الشكل الروائيّ الدراميّ في البنية الشعريّة للقصيدة، التي تعود إلى ثلاثينات القرن العشرين.
لم يكن دي كامبوس سوى واحدٍ من بدائل بيسّوا الكثيرين (حوالى 70 بديلاً)؛ وقد دُهش تابوكي بهذا الشاعر الذي “استطاع أن يكون آخر، وأن يظلّ نفسه”. لذا قرّر دراسة الأدب البرتغاليّ، لكي يقرأ بيسّوا في لغته، والتحق بجامعة سيينَّا، قبل أن يكتشف لشبونة عام 1965، حيث التقى ماريا خوسيه دي لانكاستر، التي أصبحت زوجته في ما بعد. نقل تابوكي (بمساعدة ماريا) أعمال بيسوا إلى الإيطاليّة منذ أواخر السبعينات، وكتب عنه مئات الأبحاث والمقالات في صحفٍ ودوريّات عدّة، جُمع بعضها في كتاب “حقيبة ملأى بالناس” (1990). يقول تابوكي: “بيسوا نموذج الإنسان المعدوم، الشيطان المسكين، الموظّف المتواضع الغارقة أيّامُه في كآبة الغرف المستأجرة، الفرد الذي يمكن أن يستفيق ذات صباحٍ ليجد نفسه وقد تحوّل على طريقة غريغور سامسا”. أمّا في “صلاة الموتى” (1992)، رواية تابوكي المكتوبة مباشرةً بالبرتغاليّة، فيلتقي الراوي أخيراً بيسّوا، “الشاعر العظيم، أعظمَ شاعرٍ ربّما في القرن العشرين”. يسأله هذا الأخير: “هل أزعجتْك رفقتي؟ كلاّ، قلتُ، لقد كانت مهمّةً جدّاً بالنسبة إليّ، لكنّها جعلتني أضطرب، فلأقُلْ، على الأقلّ، إنّ كان لها تأثيرٌ مُقلق فيَّ. أعرف، قال، معي دائماً تنتهي الأمورُ هكذا؛ لكن، ألا تعتقد أنّ هذا ما على الأدب فعلُه بالتحديد، أقصد أن يُقلق، فأنا شخصيّاً لا أثق بالأدب الذي يخدّر عقل الإنسان”.
هرمنوطيقا الشكّ والقلق
بعد “بيريرا يزعم” (نُقلتْ إلى الشاشة الكبيرة على يد المخرج روبرتو فايينزا ولعب دور بيريرا الأسطورة مارتشيلّو ماستروياني، في واحدٍ من أدواره الأخيرة)، غالباً ما قُدِّم تابوكي تحت شعار “الكاتب الملتزم”، وهو اختزال مجحف في حقّ هذا الروائيّ الساحر الذي لم يشكَّ يوماً في قدرة التخييل ولم يتبنَّ خطاباً إيديولوجيّاً متقوقعاً. تجري أحداث الرواية في برتغال الثلاثينات، أثناء فاشيّة سالازار. بطلُها بيريرا، صحافيٌّ وحيد يستفيق فيه الوعي فجأةً ويقرّر أن يضطلع بدوره التاريخيّ كمثقّف وأن يقاوم الديكتاتوريّة. إلاّ أنّ صدورها بالتزامن مع وصول برلوسكوني إلى الحكم في إيطاليا جعل الرواية تُقرأ كبيانٍ آنتي- برلوسكونيّ: “رجلٌ برتغاليّ بدينٌ تحوّل فجأةً بطلاً إيطاليّاً”، يلخّص تابوكي ضاحكاً. بينما يقول في حوار مع مجلّة “لو ماغازين ليتيرير” الفرنسيّة عام 2009: “لقد أغرقت القراءةُ السياسيّة للرواية قراءةً أكثر أهميّةً، هي القراءة الوجوديّة”.
هذا لا يعني أنّ تابوكي لم يكن ملتزماً. كان ملتزماً، لكن بالمعنى الأرحب للكلمة، بحيث لا يلغي الإلتزامُ الحريّةَ ولا يكبحُ جماح الخلق. فهو عارض بشراسةٍ فاشيّة برلوسكوني الجديدة، وساهم عام 1993 في تأسيس “برلمان الكتّاب العالميّ”، وهي منظّمة تحمي الكتّاب والمثقّفين المهدَّدين بالموت والإضطهاد والإعتقال. مهمّة الكاتب، بالنسبة إلى صاحب “تريستانو يموت” (2004)، أن يبذر الشكّ، أن يزعزع ويخربط، أن يقول “لا”، أن يتصدّى لكلّ ما هو كمالٌ وأيقَنَة وصَنَميّة وتسطيح؛ فالكمال “يولّد العقائد، والطغاة، والأفكار التوتاليتاريّة”. وهو غالباً ما استلهمَ “كتاب القلق” لبرناندو سواريس (أحد بدائل بيسّوا)، متحدّثاً عن “هرمنوطيقا الشكّ”، وهي عبارة لبول ريكور. يقول: “ليس لديّ إلاّ حياة واحدة وصوت واحد. وطالما أنّ أوتاري الصوتيّة تعمل، فإنّني لن أتوقّف عن استعمالها”. ويقول في مكانٍ آخر: “على الأدب أن يشكّ، أن يقول انتبهوا هنالك حقائق تُمليها عليكم وسائل الإعلام، ورجال السياسة، واللاهوتيّون، وكلُّ هؤلاء الذين يمتلكون الحقيقة في أيديهم ويريدون أن يعطونا إيّاها، أو أن يفرضوها علينا أحياناً. أمّا نحن الكتّابَ فلا نملك الحقيقة، نحن لا نملك سوى الشكّ. على المرء أن يشكّ، أي أن يصبح مناوئاً للحقيقة”!
“الزمن يشيخ بسرعة”: سوناتات الكآبة
ترجمة ألفراد الخوري
أيّار عام 2009، صدرت مجموعة “الزمن يشيخ بسرعة” القصصيّة في فرنسا قبل صدورها في إيطاليا بستّة أشهر، بفضل رجلَين: برنار كومان، مترجم تابوكي إلى الفرنسيّة وصديقه القديم؛ وجان ماتِّيرن، ناشره لدى “غاليمار” ومدير سلسلة “Du monde entier” لدى الدار نفسها. يومها عُقدت جلسةٌ حول الكتاب في “بيت أميركا اللاتينيّة” بباريس، شارك فيها تابوكي، كومان وماتّيرن.
من خلال تسعة نصوصٍ شعريّة ومأسويّة، طافحةٍ بالحنين والغموض ومغلّفة بغلالة كآبة (لا مفرّ منها في كتابة تابوكي)، يطلّ سليل بيسّوا على العالم الغربيّ المضطرب في مرحلة ما بعد الحداثة (أو ما بعد بعد الحداثة)، محاولاً أن يجسَّ نبض الزمن، وأن يتتبّع الندوب التي خلّفها، انطلاقاً من السؤال الآتي: “هل نحن من يجتاز الزمن، أم أنّ الزمن هو من يجتازنا؟”. هنا نعثر على ثيمات تابوكي الأثيرة: الشكّ المصحوب بشيءٍ من الأمل، مساءلة الذاكرة، العزلة، الحنين، وشيء من السياسة طبعاً. يعتبر كومان أنّ هذه المجموعة، على الرغم من كونها مستقلّة، تشكّل الدرفة الأخيرة من الثلاثيّة التي بدأت مع مجموعة “لقد تأخّر الوقت، تأخَّرَ أكثر فأكثر” (2001)، واستُكملت مع رواية “تريستانو يموت” (2004). إلاّ أنّ ما يميّزها هو أنّ البوصلة فيها متّجهة نحو شرق القارّة الأوروبيّة (النمسا، رومانيا، المجر، روسيا)، بعد تفكّك الإتّحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين. يقول كومان عن “الزمن يشيخ بسرعة”: “إنّه كتاب ذو أهميّة جلَّى، كونه في العمق من الكتب الأولى التي تحاول الإحاطة بفحوى هذه القطيعة التاريخيّة، أو ربّما الأنثروبولوجيّة، التي مثّلها سقوط جدار برلين، الذي كان جداراً ماديّاً، لكنّه كان أيضاً جداراً للمعنى، فضلاً عن تأثير هذا الحدث في رؤيتنا إلى العالم ودوره في إعادة توجيه وعينا التاريخيّ”. هنا مقطع مُترجم من إحدى القصص التسع.
لم أُصدّق في يومٍ من الأيّام أنّ الحياة تقلّد الفنّ، إنّها مزحة لاقتْ رواجاً لأنّها سهلة، الواقع دائماً يتخطّى الخيال، ولهذا السبب بعض القصص يستحيل أن نكتبها، فهي لن تكون سوى استعادة باهتة لما كان حقّاً. لكن فلنترك النظريّات جانباً، إذا أردتَ ذلك، فسأروي لك القصّة، لكن أنت مَن سيكتبها. لأنّ لديك أفضليّةً عليّ، هي أنّك لا تعرف الرجل الذي عاشها. في الحقيقة، هو لم يروِ لي سوى الأحداث التي سبقتْ، أمّا الإستنتاج فسمعته من أحد أصدقائه، وهو شخصٌ متدنّق بالكلمات؛ نقتصر في أحاديثنا أنا وإيّاه على الموسيقى ونظريّات الشطرنج، من المرجّح أنّه لو عرف هوميروس أوديسيوس، لبدا له هذا الأخير رجلاً سخيفاً. أعتقد أنّني فهمت شيئاً واحداً، هو أنّ القصص أعظم منّا دائماً، لقد حصلتْ معنا وكنّا أبطالها من دون أن نعي ذلك، لكنّ البطل الحقيقيّ للقصّة التي عشناها ليس نحن، بل القصّة نفسها. من يدري لِمَ جاءَ ليموت في هذه المدينة التي لا تعني له شيئاً، ربّما لأنّها تشبه بابل، وربّما لأنّ شكّاً راوده في أنّ قصّته هي رمزٌ للبعد البابليّ للحياة، وأنّ بلده كان صغيراً جداً ليموت فيه. من المفترض أنّه في الرابعة والثمانين من العمر تقريباً، وهو يمضي فترات بعد الظهر في النظر عبر النافذة إلى ناطحات السحاب في نيويورك، وهناك فتاةٌ بورتوريكانيّة تأتي عند الصباح لترتّب الشقّة، وتجلب له وجبةً من كافيه “تونيز” تُعيد تسخينها في المايكروويف، وبعد استماعٍ دينيّ لأسطواناتٍ قديمة لبيلا بارتوك يحفظها عن ظهر قلب، يجازف بالقيام بنزهةٍ صغيرة حتّى بوّابات حديقة سانترال بارك، وفي الخزانة، تحت غطاءٍ من البلاستيك، يحتفظ ببدلة الجنرال الذي كانه، وعندما يعود إلى المنزل يفتح درفة الخزانة ويربّت مرّتين على الكتف كما لو أنّه يربّت على كتف صديقٍ قديم، ثمّ يخلد إلى النوم، قال لي إنّه لا تراوده أحلام، وإذا ما راودُه حلمٌ فإنّ موضوعه يكون السماء فوق سهول المجر لا غير، وذلك بتأثيرٍ من منوّم وصفه له طبيبٌ أميركيّ. أنا سأُخبرك القصّة ببضع كلمات، كما أخبرني إيّاه الرجل الذي عاشها، كلُّ الباقي ليس سوى تكهُّنات، لكن هذا هو شأنك […].
النهار