صفحات مميزة

عام على الثورة السورية: ملف لكتاب من سوريا ولبنان

عام على الثورة السورية: ملف لكتاب من سوريا

تحيا سوريا… بشعبها الثائر

عقل العويط

في الخامس عشر من شهر آذار الجاري، يكون مضى على الثورة السورية عام بكامله، انكسرت خلاله ثقافة الخوف، الى غير رجوع، وهي الثقافة التي نشرها نظام الاستبداد والرعب الذي حكم سوريا (ويجب أن نقول: حكم لبنان أيضاً) طوال أربعين عاماً، بالحديد والنار والتجويع والتيئيس.

وقد استطاع الشعب السوري البطل خلال هذا العام الأخير، لا أن يكسر ثقافة الخوف فحسب، بل أن يكسر “ثقافة الأبد” و”ثقافة ما بعد الأبد”، وأن يعيد الاعتبار الى كرامته الوطنية والفردية التي امتهنها نظام البعث بشبّيحته وعسسه ورجال مخابراته، صانعاً ثقافةً للكرامة، ولعالم القيم، ومسطّراً أبهى آيات الثورة على نظام فاق في جبروته أنظمة الاستبداد في العالم برمته، وفاتحاً نافذة هائلة على الأمل، من أجل قيام دولة الحرية والديموقراطية والقانون والعدل والمساواة والتنوع والتعدد والحداثة.

لقد استطاع الشعب السوري أن يكسر باب القمقم الذي أسره فيه النظام الاستبدادي، وها هو يخرج منه، مضرّجاً بالدم، لكن بالكبرياء والكرامة والأمل، مستعيداً حياته المسروقة، وواهباً بلده معنىً، لم يكن متيسراً خلال العقود الطويلة التي حكمه فيها النظام الشمولي. الأكيد أنه لم يعد ممكناً الرجوع عاماً الى الوراء، كأن شيئاً لم يكن.

انطلاقاً من هذا المنجز، فإن التفكير في مستقبل المسألة السورية، أو في المسألة السورية – اللبنانية، بل في مسألة المشرق العربي برمته، ابتداءً من القضية الفلسطينية، لم يعد ممكناً بمعزل عن هذا الإرث الثوري الثمين الذي أنجزته الثورة السورية، وصار جزءاً جوهرياً من تراكمات التوق الى الحرية، في هذه المنطقة من العالم.

لقد فضحت الثورات العربية المتلاحقة، عقمَ النظام الاستبدادي الذي حكم بلاد العرب منذ مراحل التحرر من سلطة الأجنبي ونيل الاستقلال. وفضحت نظريةَ الممانعة والتصدي للعدو الصهيوني، كما فضحت، أكثر ما فضحت، هول ما ارتكبه هذا النظام في حق شعوبه وبلدانه، ابتداءً بسورياً وليس انتهاءً بمصر، أو بتونس، أو بليبيا، أو باليمن.

عشية 15 آذار 2012، ذكرى مرور سنة كاملة على ولادة الانتفاضة السورية في وجه النظام الشمولي الجائر، يغتنم “الملحق” هذه المناسبة التاريخية، ليؤكد مواصلة دوره الثقافي والنهضوي كمجال للتفكير والتحليل والنقد والسؤال، تحت سقف الحرية، الذي لطالما استظله، وعمل على إعلائه، وتوسيع آفاقه، وجعله أرحب وأوسع وأشمل، أياً تكن الصعوبات والمشقات الناجمة عن ذلك.

وعليه، فقد توجه “الملحق” الى عدد من المثقفين اللبنانيين والسوريين، بأسئلة محورية تتعلق بهذه المسألة، ومنها:  كيف ترى كمثقف، الوضع الراهن للثورة السورية، والى أين يحتمل أن تسير الأوضاع السورية، وأي أفق يمكن أن تنتهي اليه؟ فكانت هذه الأجوبة، التي شارك فيها كلٌّ من سمير فرنجية، عباس بيضون، محمد حسين شمس الدين، يوسف بزّي، رامي الأمين (لبنان)، ياسين الحاج صالح، إياد العبدالله، منير الخطيب، محمد دحنون، ماهر الجنيدي (سوريا)، وزيّنتها ريشة الفنان السوري الكبير يوسف عبدلكي.

15 آذار 2011 – 15 آذار 2012: تحيا سوريا… بشعبها الثائر.

اللبنانيون يكتشفون سوريا والسوريين

سمير فرنجية

اكتشف اللبنانيون سوريا فجأةً. قليلٌ منهم يعرف جغرافيا هذا البلد، لكنَّ أكثرهم تعرّف اليه على ايقاع التظاهرات الجارية في مدنه المختلفة، من درعا الى بانياس مروراً بحمص وحماة وادلب وصولاً الى دير الزور. كذلك اكتشف اللبنانيون تنوع المجتمع السوري على وقع تظاهرات الجمعة، جمعة للمسيحيين، وأخرى للدروز، وثالثة للعلويين، ورابعة للأكراد، وخامسة للعشائر، واكتشفوا أيضاً تاريخ سوريا من خلال أسماء غيّبها البعث بعد وصوله الى السلطة، أمثال سلطان باشا الأطرش وصالح العلي وفارس الخوري…

غير أن الاكتشاف الأهمّ لم يكن في الجغرافيا وإنما في الإنسان. علاقة اللبنانيين بالعمّال السوريين بدأت تتغيّر. نظرة الناس الفوقيّة الى هذا المسكين الذي جاء يبحث عن لقمة عيشه في بلدهم، تغيّرت جذرياً. لقد أصبح إنساناً كاملاً، “يشبههم”، لا بل ويثير إعجابهم بشجاعته الاستثنائية وتصميمه. هذا الشعور بالتعاطف والتفهُّم كان يقوى مع اشتداد القمع هناك. ثمة مشاهد حفرت عميقاً في نفوس اللبنانيين: حمزة الخطيب، ابن الثلاث عشرة سنة، الذي اعتُقل وعُذّب حتى الموت؛ ابرهيم قاشوش الذي كان يُلهب مشاعر الجموع بصوته الصدّاح، والذي اعتُقل وانتُزعت حنجرته!…

هذا التحول الذي أحدثته الثورة السورية في نظرة اللبنانيين الى السوريين هو انجاز تأسيسي. فالعلاقة مع “الآخر” السوري لم تعد علاقة إلغاء أو استتباع، انما علاقة تضامن وأخوّة، وذلك للمرة الأولى منذ نصف قرن.

¶¶¶

للثورة السورية أهمية أخرى في ما يتعلق بلبنان. فللمرة الأولى منذ عقود طوال، هناك فرصة حقيقية لانكسار القيد الذي كبّل حياته الوطنية، وحرمه حقّه في الاستقرار ومواكبة التطوّر. فالنظام البعثي الذي عمل كلّ ما في وسعه منذ سبعينات القرن الماضي لوضع يده على لبنان، بدعوى “إلغاء مفاعيل سايكس – بيكو وإقامة سوريا الكبرى”، يواجه اليوم حركةَ احتجاجٍ شعبيةً عارمة، غبرَ مسبوقة في تاريخ سوريا الحديث، تشكّل معلَماً بارزاً من معالم “ربيع العرب” الطالع من آلام الناس ومن آمالهم المشروعة في الحرية والكرامة.

مع السقوط المحتوم لهذا النظام الذي مارس كلَّ ألوان القمع والتفرقة والاستبداد، تتاح لنا، نحن اللبنانيين، فرصةٌ كبرى للعيش معاً بحرية وسلام، ربما للمرة الأولى منذ العام 1975.

لماذا؟ لأن هذا النظام لعب دوراً حاسماً في تأجيج الحروب التي دمّرت بلدنا على مدى عقود. لقد استغلّ التباينات القائمة في مجتمعنا الشديد التنوّع، كما استغلّ ضعف دولتنا المشلولة بالصراعات الطائفية المقيتة، فأزكى العنف بكل أشكاله، وشمله برعايته الدائمة، وسدّ أبواب كل تفاهمٍ داخلي، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

في 14 آذار 2005، وعلى أثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كسر اللبنانيون حاجز الخوف الذي أقامه هذا النظام – تماماً مثلما تكسره الشعوب العربية اليوم – فتجاوزوا انقساماتهم وتوحّدوا في ثورة حقيقية، سلمية ديموقراطية، أخرجت إلى ساحة الحرية ثلث اللبنانيين في يوم واحد، فأجبرت النظام السوري على سحب قواته من لبنان. غير أن تلك الثورة لم تتمكّن من بلوغ كل غاياتها. إذ سُرعان ما قاد النظام السوري “ثورة مضادة”، فأطلق حملة اغتيالات منظّمة لم يسبق لها مثيل في تاريخ لبنان – وربما في تاريخ المنطقة – واشعل حرباً فعلية لإسقاط الدولة بواسطة عصاباته المسلحة في مخيم نهر البارد (2007)، كما حاول تعطيل مؤسسات الدولة بإقفال مجلس النيواب (2006-2008)، وسعى إلى إسقاط الحكومة وإلغاء المحكمة الدولية تحت ضغط السلاح الميليشيوي (كانون الثاني 2007 وأيار 2008). وعلى رغم انتصار التيار الاستقلالي في انتخابات 2009 التشريعية، تمكّن النظام السوري من إسقاط الحكومة في 11 كانون الثاني 2011، وعاد للإمساك بالسلطة في لبنان، من خلال حكومة موالية له بالكامل.

انتفاضة الشعب السوري في 15 أذار 2011 هي التي وضعت حداً لحلم النظام في إعادة الامساك بالورقة اللبنانية وفرض وصايته مجدداً على لبنان. هذا الحدث التاريخي الذي لم يكن أحد يتوقعه، بدّل الصورة في البلاد ووضع الحكومة الموالية لسوريا في موقع ضعيف اضطرت فيه الى تمويل المحكمة الدولية التي طالما اعتبر “حزب الله” أنها “محكمة اسرائيلية”.

¶¶¶

لا شك في أن ديموقراطية سوريا هي شرط لاستقلال لبنان وضمانه. هذا ما قاله سمير قصير في الأمس، وهذا ما أعاد تأكيده المجلس الوطني السوري في رسالته الى الشعب اللبناني. فاستقلال لبنان الثاني انتزع في مواجهة ديكتاتورية البعث، فأضعفها وساهم بذلك في كسر حاجز الخوف في داخل سوريا. وديموقراطية سوريا تنتزع اليوم في مواجهة الديكتاتورية ذاتها، فأضعفت قدرتها على استعادة هيمنتها على لبنان. فالترابط قائم بفعل الخصم المشترك.

غير أن هذا الأمر لا يكفي للتأسيس لمرحلة جديدة بين البلدين، فهناك حاجة ماسة الى رؤية مشتركة لدور كلٍّ من لبنان وسوريا في هذا التحول الكبير الذي يشهده عالمنا العربي. والاسئلة المطروحة علينا، لبنانيين وسوريين، متعددة:

أولاً- كيف نعيد بناء العلاقات بين لبنان وسوريا على قاعدة جديدة؟ كيف يمكننا التأسيس على الكلام الصادر عن المجلس الوطني السوري والذي جاء فيه:

“سوريا المستقبل دولةً ونظاماً، ستقيم أفضلَ العلاقات مع لبنان. ستطوي صفحاتٍ أليمةً في هذه العلاقات. ستكونُ علاقاتٍ من دولةٍ إلى دولة، بين دولتين مستقلّتين سيدتَين متكافئتين. ستكون علاقاتٍ أخويةً على قاعدة أنّ بين شعبينا تاريخاً مشتركاً وحاضراً مشتركاً ومستقبلاً مشتركاً. ستكونُ علاقاتٍ بين شعبَين شقيقين في دولتين مستقلتين لا علاقاتٍ تحت مُسمّى “شعبٌ واحد في دولتين”، مُسمّى استُخدم سابقاً للوصاية على لبنان و إستتباعه.

لن تكون علاقات تدخّل في شؤون أيٍّ منّا بالآخر. سنعيد معاً النظر في الإتفاقات والمواثيق الموقّعة في زمن الوصاية البغيضة على لبنان، وسنقيم علاقات ديبلوماسيّة سويّة ونرسّم الحدود إبتداءً من مزارع شبعا، وسنحقّق في ملف المعتقلين والمفقودين اللبنانيين كي نطويه. سنعمل معاً في الإطار الثنائيّ وفي الإطار العربيّ وعلى الصعد كافّة. فبيننا قاعدةُ مصالح مشتركة، وبيننا دور مشترك نؤدّيه”.

ما هي على ضوء هذا الكلام المساهمة التي يمكن لبنان أن يقدمها في عملية بناء علاقات من طبيعة مختلفة؟

ثانياً- كيف نعمل على إقامة مشرق عربي جديد، “مشرق العيش معاً”، بين شعوبه المختلفة، التي ينبغي أن يشكل تنوعها الديني والعرقي مصدر غنى لكل منها ولجميعها؛ “مشرق” منفتح على تركيا وأوروبا، قادر على إعادة الوصل مع التراث التاريخي لعصر “النهضة” العربية، وعلى تشكيل قطب تجدّد لمجمل العالم العربي؟

ثالثاً- كيف نساهم في رسم معالم عروبة جديدة، “عروبة العيش معاً”، مبَرَّأة من أي محتوى ايديولوجي يرمي الى توظيفها في خدمة دولة أو حزب، عروبة تجد مستندها التاريخي في تجربة الاندلس، حيث عاش يهود ومسيحيون ومسلمون معاً، نحو ثمانية قرون؟ وكيف نساهم في الجهد المبذول لقيام عالم عربي ديموقراطي وتعدّدي قادر على استعادة دوره وموقعه في العالم بعد تغييب قسري دام نصف قرن؟

رابعاً- كيف يمكننا أن نساهم في تكوين رؤية جديدة الى “المتوسط”، “متوسط العيش معاً”، وأن نتعاون مع أوروبا للعودة بالمتوسط الى ما كان عليه من حلقة وصل وتقارب بين شعوبه وثقافاته الممتدة بعيداً إلى ما وراء شواطئه؟

هذه الأسئلة لم تكن لتطرح قبل التغيير الذي بدأنا نشهده مع ربيع سوريا. فباتت الحاجة ماسة  اليوم الى التواصل والحوار حول كل هذه المسائل التي تهم مستقبل لبنان ومستقبل سوريا.

الوقت لا يخدم الأخطاء

عباس بيضون

بعد فترة عاصفة بالانقلاب والتنازع العسكري على السلطة، أرسى الرئيس حافظ الاسد وبعده ولده الرئيس بشار الاسد حكماً استقر وقتاً فاض عن الأربعين سنة. هذا مدى طويل في دولة لم يعمّر بعض عهودها سوى أشهر أو أعوام قليلة. استطاع الرئيس حافظ الاسد أن يوجد معادلة للحكم استمرت طوال هذه المدة ولم تكن الثورة الاخيرة سوى امتحان لصلابته التي أظهرت قدرة فائقة على المقاومة. فالعام الذي مضى في عمر الثورة السورية لم يمتحن زخم هذه الثورة ومثابرتها بقدر ما امتحن بالقدر نفسه قدرة الحكم على الصمود وعلى المواجهة. يملك الحكم قواعد شعبية واقتصادية وسياسية تجعله قابلاً لمواجهة طويلة. مواجهة عنيدة ومثابرة قد تنقلب حرباً اهلية. فالواضح أن قواعد اجتماعية وسياسية واقتصادية في الميزان، وأن ثمة قوى متصارعة على مستوى من التعادل والتوازن لا يبشّر بنهاية قريبة للصراع. الواضح أن في الحساب زعزعة نظام كامل بمبانيه وقواعده. اي ان حرباً طويلة وعاصفة ودموية بالقدر نفسه ستنشب وتستمر بأطوار وأحوال خطرة وستتبعها أنهار من الدماء وأعداد يومية من المذابح. كل شيء يدل على أن العبور سيكون على قنطرة دموية وان المخاض الدموي لن يكون اقل من حرب اهلية، واذا لم يكنها فسيكون شيئاً في حجمها. بين جميع الثورات التي نشبت في المنطقة ليست الثورة السورية هي الأخطر فحسب، بل انها لن تنتهي حتى تكون فعلت في المنطقة كلها. فهذه المنطقة التي تتشابه بتنوعها الطائفي والقطري وبوقوعها جميعاً على حافة حروب اهلية، ستتلقى من هذه الحرب ما قد يكون وقوداً لتفجيرها أو خطة لضبطها وموازنتها. لا نزال بعيدين عن هذه النهاية، ومن المبكر ان نفترض في شأنها، لكن اهتمام البلدان المحيطة بسوريا، شعوباً وحكومات، ليس مجانياً. انه ليس وليد الحماسة والتعبئة العاطفية، فهو بالقدر نفسه وليد نظر سياسي الى الداخل وحساب للمستجدات وانشغال بمستقبل خاص.

اما كيف استطاع الرئيس حافظ الاسد أن يقيم حكمه على موازنة كان لها هذا الدوام والاستمرار، فإن الرئيس أوجد لحكمه قاعدة اجتماعية اقتصادية عسكرية. بدأ الامر بتمييز الضباط الذين ارتقوا اجتماعياً في فترة وجيزة، فضمن الحكم لنفسه قاعدة ثابتة في الجيش أمن بواسطتها من داء الانقلابات المزمن. ثم ان الحكم عقد بين البورجوازية والنخبة العسكرية الحاكمة علاقات وتبادلات، وليس صمت دمشق النسبي وحلب الكلي بعيداً عنها. فضلاً عن ان الحكم قام على شبكة مخابرات خلوية ومسامية تضع المجتمع كله موضع مراقبة ومساءلة. أمن الحكم ايضا قاعدة من الاقليات التي في امتدادها الى بورجوازيات المدن الكبيرة تؤمّن له وزناً اجتماعياً غير منكور. الاحصائيات لا تدل على عكس ذلك. اذا كانت دولة الاسد معزولة في الريف فإن لها ثقلاً في المدن الكبرى. وقد يكون أحد وجوه الأزمة قائماً في التفاوت بين الريف والمدينة. ان استنفار المدن كما نلاحظ في الأحداث الأخيرة، هو استنفار للنسيج الاجتماعي المديني الذي للحثالة “لاندبروليتاريا” وللسقط الاجتماعي “الشبّيحة” فيه وزن فعلي. هكذا نجد ان البونابرتية كما هي في كتاب ماركس “18 برومير” تتجلى بوضوح، النخبة العسكرية وعلى رأسها الرئيس، قائمة على تعاون اجتماعي قوامه تحييد البورجوازية واغراؤها، فراغ اجتماعي يتيح للشبّيحة والحثالة أن يملكا ثقلاً مؤثراً.

غير أن الوقت لا يعمل لصالح النظام. الدعم الدولي من الصين وروسيا في شبه عودة للحرب البادرة، قد لا يبقى هو نفسه امام اعادة تقييم واعادة توازن دولي لم يسع الطرف الآخر اليها بعد، وليس مفهوماً بعد الثمن الذي يطلبه الطرف الصيني – الروسي، الا ان هذا الطرف مع النظام لا يزال قوياً، وبمجرد أن يلوح عليه ضعف حقيقي لن يستطيع أن يجد دعماً دولياً بالقدر نفسه. الوقت ليس لصالح النظام لأن التحول الى حرب اهلية سيجفل الاقليات وقاعدته من الاقليات. فالتوازن الديموغرافي ليس شيئاً تمكن الغفلة عنه، وليس شيئاً لا يؤبه له، او يمكن الاستمرار في تجاهله. الخوف من الاكثرية الساحقة يمتد الى المستقبل ولا يمكن الاستمرار في معركة كهذه من دون الخوف من المستقبل. ذلك ان الفوز، اذا حدث، سيكون فوزاً في معركة. اما الحرب فيكسبها في مدى زمني غير محسوب، الطرف الذي يملك موضوعياً وعلى مدى طويل المقومات التي تؤهله للفوز. الحرب الطويلة التي يتزايد طابعها الأهلي مع الوقت، لن تشجع الأقلية على انتزاع السلطة بالعسف. كما أن الأقلية لن تجسر على انتزاع علني كهذا تنكسر فيه شوكة الأكثرية. الخطر هو في تحول الحراك الحالي الى أكثروي، واستقطابه المتزايد للأكثرية. ما دام هذا لم يحصل وما دام التوازن قائماً، فستجسر الأقليات مع امتداداتها المدينية والبورجوازية على المواجهة. لكن انسحاب طرف من هذا التحالف الأخير بفعل زخم القتال وترسخ طابعه الطوائفي، أو بفضل تزايد الاشتراك المديني في المواجهة، انسحاب طرف قد يكون الطرف البورجوازي المديني من التحالف، سيجعل الأخطار ماثلة وستتراجع النخبة العسكرية، إذا وجدت نفسها منفردة، عن المشاركة في معركة تظهر فيها أقلويتها بشكل سافر. ستتراجع، وربما هنا وفي هذه اللحظة، يمكن أن ننتظر حلاً، قوامه التفاف هذه النخبة على المجموعة الحاكمة ومطالبتها بالمحافظة على التوازن الاجتماعي وعلى نظام يحفظ هذا التوازن، مقابل التخلي عن أفراد بعينهم ومقابل التخلي عن رتبية السلطة أو رموزها.

الوقت لا يعمل لصالح النظام، انه لمصلحة قيام عقد اجتماعي جديد. هذه وجهة قد تجعلها الحرب الأهلية غير ممكنة وغير ميسورة. الحرب الأهلية غير الصراع الأهلي الذي يمكنه أن يستتر وأن يملك من الديناميات ما يمنعه من أن ينكشف تماماً او ما يحول دون أن يتحول الى انفجار أهلي. لعل عدم التوازن الديموغرافي، قد يحرض الأكثرية على الهجوم، لكن الأقلية لم تعد أقلية بعد. ان لها من ارتباطاتها الاجتماعية والطبقية المدينية ما يجعلها نصف المجتمع. لكن الأقلية المحمية بهذه الارتباطات ذات الطابع الطبقي والاقتصادي، لن تجازف بهذه الارتباطات في دوامة حرب أهلية ترغم كلاً على أن يلتحق بمعسكر، أو تجبره على الأقل أن يقف على الحياد. ليست الحرب الأهلية إذاً لصالح النظام، بل حتى الخوف منها ليس لصالحه، لكن النظام إذ يخوض معركة وجود، قد يعمى عن هذه الحقيقة وقد يقبل أن يتحصن بأي حماية تُعرض له، حتى ولو كانت هذه الحماية موقتة وهشة وقابلة للانقلاب عليه. بدأ النظام عبر اذاعاته بالتلويح بحرب أهلية، لقد دعاه خوفه من تشكل أكثرية ساحقة ضده وهو ما لم يحدث الى الآن، دعاه خوفه من خطر داهم كهذا الى التلويح منذ اليوم الاول، بخطر حرب أهلية. لقد بدا كأنه بهذا يبشر بها. بدا أنه يبحث عن عصبية له في وضع يخشى منه أن يواجه فيه عصبية ساحقة. بدا كأنه يريد أن يستنفر عصبية له بأيّ ثمن. لم يكن في هذا الكثير من الذكاء. النظام بذلك يعين على نفسه. إنه يكثف بطبيعة الحال نفسه، ويتبنى حكم خصومه عليه، ويجازف بتحالف طبقي اقتصادي يحميه. قد يكون هذا الاحتماء بعصبية خاصة، هو مقتل الاستبداد الذي يعمى أحياناً عن رؤية مصالحه ويلجأ الى اللعب والتمويه والتخفي لتضييع مركزه ونواته. النظام السوري البعثي قد يلجأ على نحو قهري الى عصبيته، مهدداً بذلك تحالفه ومعسكره، مهدداً بذلك بأن ينكشف بدون حماية أو تمويه أو ستار. ان العسف الهائل الذي تأتينا أخباره، التفظيع والاثخان في القتل والتمثيل والتشويه، هذه أمور لا تنجح حتى في اخافة الناس الذين تخطّوا حاجز الخوف ولم يثنهم شيء خلال عام كامل عن أن ينزلوا الى المواجهة. التفظيع والاثخان في القتل مع استمرار المواجهة، لا يؤديان إلا الى تأجيج المواجهة والاستماتة فيها. ما نلحظه الآن هو هذه الاستماتة. إن اعادة فتح الاحياء والمدن السورية بعد عام كامل من المواجهة شبه الحربية، لا تؤدي الى اخماد التحرك، بل تؤدي الى تحويله الى حرب مدينية. أي حرب متنقلة من مكان الى مكان ومن حي الى حي. لن يستطيع حتى الجيش المنتصر، ان يحتوي كل الحراك ما دام ينفجر فوراً وفي أي ناحية، وما دام الهتاف وحده كافياً لإرعاب النظام، وما دام هذا الهتاف هو معيار الخصومة وهو السلاح الفعلي للجمهور.

الزمن لا يعمل لصالح النظام وإن بدا ذلك احيانا في الظاهر. ان الدخول الى حي بابا عمرو هو كالدخول الى درعا، هش وموقت ولا ديمومة له، ما دامت المواجهة ليست حربية بالكامل، وما دام الهتاف هو السلاح الافعل، وما دام انكار النظام ورفض شرعيته هو اساس المعركة. لقد انفك ما بين النظام وقطاعات واسعة من الشعب. لن يستطيع الحكم أن يحكم فعلاً مع سوء التفاهم الفظيع مع الرعية ومع عدم الاعتراف ونكران الشرعية المثابرين. إن اعادة فتح أو احتلال الاحياء يبدو كأنه الشكل الكاريكاتوري للسيطرة. انه شكل حربي، لكن الشكل الحربي الذي لم ينفع مع اطلاق النار واستنفار الشبّيحة في اخماد التحرك، لن يستطيع اخماده بإعادة الدخول الى الاحياء وكسر شوكتها. لقد كانت هذه الاحياء من قبل مفتوحة ولم يمنعها هذا من التحرك ولن تمنعها الدبابات من أن تتحرك. ثم إن الدبابات لن تطارد تظاهرات طيارة وتحركات تهبّ من حيث لا يتوقع أحد.

الوقت ليس لمصلحة النظام الذي يقترف، مرة بعد مرة، اخطاء سياسية قاتلة. إنه يدير معركته بدون حسابات سياسية تقريباً. يريد أن ينتصر وأن يحسم مهما تكن طبيعة هذا الانتصار. ليس أدل على عطبه السياسي، من انه يهلل لإعادة احتلال مدنه وبلاده. إعادة الاحتلال هذه تلخص لا مبالاته السياسية. إنه يعيد احتلال حمص كأنها بلد عدو، ويهلل لذلك كما لو كان انتصاراً حقيقيا. كذلك يفعل بإدلب ودرعا، في الوقت الذي يدعو فيه لاستفتاء شعبي على الاصلاحات الدستورية. مهما تكن هذه الإصلاحات، فإن اعادة احتلال المدن السورية ستقدم التفسير الحقيقي للاصلاحات الدستورية. اعادة احتلال مدن سورية سيطرح السؤال: لمن هذه الاصلاحات، وعلى من تُطرَح ما دام السلاح لم يتوقف اثناء الاستفتاء؟ انها الحرب التي لم تتوقف لحظة. كان الاستفتاء مستمراً فيما حي بابا عمرو تحت النار، من سيصدّق أن هذا هو الاستفتاء الحقيقي؟ وماذا سيكون معنى الاصوات التي تلقى في الصناديق اذا كان الجيش النظامي يتهيأ لاحتلال الاحياء والمدن؟ سيقول النظام ان له ايضا رصيده وانصاره، الأمر الذي لا يمكن التشكيك فيه. لكن الحقيقة هي أن النظام في حرب مع بقية الشعب. مع نصف الشعب، كما تدل الارقام الاخيرة، ونظام في شقاق دموي مع نصف الشعب او مع قسم كبير من الشعب، لا يحق له أن يستمر. اذا صدّقنا أن نصف الشعب مع النظام، فهل يعني ذلك ان نصف الشعب يفوّضه بهذا الحسم الدموي؟ لماذا الاستفتاء اذا كان الحل الدموي هو الحاسم؟ اذا كان نصف الشعب يفوّضه بالحسم الدموي، فهذا يعني انها الحرب الأهلية، وفي حرب اهلية لن يكون الاستفتاء سوى لعبة شكلية. في الحرب الاهلية لا مكان للاستفتاءات. في الحرب الاهلية يتكلمون عن مصالحة، وللمصالحة بنود ليس فيها استمرار القمع ولا السلطة القمعية. لن يكون الاستفتاء عندئذ الا نوعاً من اعادة الاحتلال بل سيكون ممراً لإعادة الاحتلال أو ذريعة لها. سيكون الاستفتاء جنب الحرب الأهلية وفي ظلها، خطأ سياسياً آخر. الحرب هي كل ما يصنعه النظام وما يحسنه، اما المعالجة السياسية فليست من شأنه ولا طاقة له عليها وليست في حسابه ولا في برنامجه. يريد النظام ان ينتصر، أن يعيد احتلال البلد وكسر شوكه الخصوم. هذا بطبيعة الحال لا يستقيم مع الديموقراطية ولا يتعايش معها. ما يستفيم مع ذلك ليس الا الثأر والضغينة والحزازة واذلال الطرف الآخر وكسر شوكته. ما خسره الحكم في السياسة لن يستعيده بالحرب. ومهما يكن، الوقت في المدى الطويل ليس لصالحه.

من بو عزيزي إلى بابا عمرو: هي القداسةُ في الساحات

محمد حسين شمس الدين

لما شرعتُ في الكتابة عن حال الشعب السوري في هذه الأيام العصيبة، على نيَّةِ مقاربةٍ سياسية، انتابني خجلٌ وهَمَمتُ بالاعتذار. فجرحُ هذا الشعب فوق السياسة، وجريمةُ هذا النظام فوق البربرية الصافية. ثمة شعبٌ يغبطه القدّيسون، ونظامٌ تحسدهُ الوحوش!

الفارقُ بين “الغبطة” و”الحسد” عظيم، على ما أخبرتنا كتب البيان العربي. فأن تغبط أحداً على شيء ما، هو أن تطلب لنفسك مثلَ ما هو عليه، بلا استئثار. أما ان تحسده على شيء، فهو أن تتمنَّى تجريده مما هو عليه والاستئثار به لنفسك. بهذا المعنى الأخير فإن الوحوش، في احتمالاتها القصوى، تحسد النظام السوري على بلائه الأعظم في ميادين الإبداع البربري!

الواقع ان منشأ الحسد ههنا لا يعود إلى الكمّية فقط، إنما إلى النوعية أيضاً. ذلك أن القتل بدم بارد هو قتلٌ نوعيّ، فكيف إذا اقترن بكمّ هائل: تملّكنا العجبُ من قتلٍ على مدى شهور، بواقع ثلاثين شخصاً في اليوم! ثم انتقلنا إلى الدهشة مع واقع الخمسين أو الستّين، ودائماً في اليوم الواحد! فإذا بلغنا المئة قلنا: هذا هو الكفرُ بعينه، وحسبنا اننا بهذا نقول غايةَ الذمّ والاستنكار!… وهل بعدَ الكفر من خطيئة في عُرفنا؟! غير أننا سرعان ما أعجزتنا المئتان عن الوصف، على إيقاع خبر يومي – خلال الأسابيع الأربعة الأخيرة – مفادهُ أن نصف الضحايا أو أكثرهم في حمص وحدها، وفي حيّ منها بعينه! والحال أنّ ما عجزنا عن تسميته سمّاه كتابُ المسلمين الكريم “الظُلم”، وجعله في منزلةٍ يهون أمامها الكفرُ والشركُ بالله: “وإذ قال لقمانُ لإبنه وهو يَعِظه يا بُنَيَّ لا تُشرك بالله إن الشِّركَ لظلمٌ عظيم”؛ والذين يتنحنحون بالعربية الفُصحى يعلمون جيداً ما نسبةُ المُشَبَّه إلى المشَبَّه به.

هذا الشعب النبيل، حتى القداسة، انتفض لكرامته على حين غَرَّةٍ من السياسة، ومن موازين القوى، ومن توقُّعات “مراكز الأبحاث” و”استطلاعات الرأي”، ومن ترسيمات الحكم والمعارضة… ومن الإيديولوجيا. انتفض لكرامته دونما حسابات – إذ لم يعد لديه شيءٌ يُجري عليه الحُسبانات – فارتسم قدّيساً، بلا واسطة! ولكي أُثبت لكم هذا الشيء “بالدليل القاطع”، بدا لي انني سألتُ ربّيَ البارحة، فقلت: أيُّ شيء في خَلقك أحبُّ إليك أن تُودِعَ فيه القداسة؟ قال: كرامةُ الانسان! قلت: نحن إذاً متّفقان!… وكان ما كان مما لستُ أذكرهُ فظُنَّ خيراً ولا تسأل عن الخبرِ.

كتبت التونسية هالة بجي مقالاً في صحيفة “لوموند” الفرنسية بعنوان: Saint Bouazizi، القديس بو عزيزي! ذلك أن محمد بو عزيزي، الذي يبيع الفاكهة ولا يبيع كرامته، أحرق نفسه احتجاجاً على ظُلم لحقه، ولم يجد مَن ينصفه، فيما بات هذا الظلم يعمّ المشهد التونسي كلَّه بلا وازع. والحالُ كذلك، فإن “صرخة بو عزيزي لم تَقُل الموت، وإنما قالت الرغبة في خلاصٍ من انتحار جماعي… هو لم يقتل نفسه والآخرين، بعمل إرهابي، وإنما افتدى شعبه. بو عزيزي ليس إرهابياً، بل هو رجل عَدلٍ وإنصاف… والظلمُ الذي يحوّل البشرَ وحوشاً ضارية، مهووسةً بوهم القوة النابعة من العنف، حوّل بو عزيزي قدّيساً”.

تُصرّ آلة القتل النظامية السورية على تحويل الشعب وحوشاً وإرهابيين، ليس لسبب سوى انها لم تعتَد على التعامل إلا مع حالة كهذه، خَبِرتها وآخَتها على مدى خمسين شتاءً. لقد فاجأتها مفردةُ “الكرامة الانسانية”، ولم تجد لها مكاناً في قاموسها ولا في بَرمَجةِ عقلها. ولعلَّ أكثر ما فاجأها اكتشافُها أن للكرامة صوتاً، وقبضة، وعيناً تقاوم المخرز… بل وحنجرةً ما برحت تهتف برغم اقتلاعها! لذا هي تهرب إلى الأمام بلا هوادة، إلى المكان الذي لم تعرف سواه. غير أن هذا الشعب النبيل، حتى القداسة، لا يَني يتمايل في الساحات على صوت “القاشوش”، صفوفاً متراصَّة، كتفاً إلى كتف، جرحاً إلى جرح، وصرخةً إلى صرخة موصولتين بأحبّ ما إلى قلب الله… هي القداسةُ في الساحات، فلا تنظروا إلى طالع الأبراج.

قلتُ إنني أقاربَ السياسة، لذا لن أحكي عن مؤيّدين أو مناهضين لهذه الكرامة السورية، ولا عن مشكّكين أو متخوّفين، ولا عن حسابات دولية وإقليمية… وصولاً إلى الحسابات الزاروبية، وحتى الفضائحية. لن أقارب السياسة بما هي السياسةُ، تعريفاً، قابليةٌ للأخذ والردّ. لا أريد ان آخذَ وأردّ مع أحد. حسبي أن أقول كلمة واحدة، برغم كل التقديرات “الموضوعية” و”الوقورة” التي يُرسلها محبّون ومشكّكون وكارهون، أو حتى “لاأدريّون”… هي كلمة واحدة، مفادها أننا أمام استحالتين: استحالة أن تُهزَم هذه الكرامةُ، أو تتراجع، واستحالةُ أن ينتصر هذا الجلاد… وعليه فليتدبَّر كلُّ ذي عقلٍ أمره، لا سيما اؤلئك الذين ارتبطت بهم مصالحُ أناسٍ بسطاء وطيّبين.

النظام “يحتل” بابا عمرو ليخسر سوريا كلها

يوسف بزي

ظلّت زوجتي تسألني “هل سنرى هذا أيضاً في سوريا؟”، وثابرتُ على الإجابة: “صعبة، شبه مستحيلة، أشبه بالمعجزة إن حدثت”. كان هذا الحوار يتكرر طوال شهري كانون الثاني وشباط 2011. نشاهد ما يحدث في بولفار الحبيب بورقيبة بتونس، وفي ميدان التحرير بالقاهرة، وفي ساحة التغيير بصنعاء، وفي ميدان اللؤلؤة بالمنامة، وفي الساحة الخضراء بطرابلس الغرب… ونقول: “هل من الممكن أن نشهد ذلك في ساحة الأمويين بدمشق؟”. فنحن اللبنانيين، بثورتنا “الناقصة” في العام 2005، بتنا على اقتناع أن وعد الحرية في بيروت مؤجل إلى حين إنجاز الديموقراطية في دمشق.

كان الربيع العربي في بثه التلفزيوني المباشر، يدفعنا ونحن نحتفل به لا إلى الأخذ بوقائعه المذهلة فحسب، بل إلى تخيله هكذا ممتداً ومتواصلاً وزاحفاً إلى قلب دمشق، حيث نشتهي ونخاف، نحن المحبطين من عدم اكتمال ربيعنا، والشهود على المصير المحزن لـ”ربيع دمشق” الأول.

في 18 شباط 2011، تجمع عشرات من الشبان في حي الحريق بدمشق احتجاجاً على اعتداء الشرطة على شاب، وهتفوا يومها “الشعب السوري ما بينذلّ”. بدت تلك الحادثة معزولة وعفوية وانطفأت في مطرحها من غير اشتعال فعلي. ظننا أنها كانت محض سنونوة شاردة.

لكن في اليوم التالي أعلن 13 معتقلاً من جماعات حقوق الإنسان، بينهم المحاميان هيثم المالح وأنور البني، إضرابهم عن الطعام في سجن عدرا القريب من دمشق. وأصدر المضربون بياناً طالبوا فيه بإنهاء الظلم والاعتقال السياسي، ودعوا إلى استعادة الحقوق المدنية والسياسية “المسروقة”. واستنكر البيان حكم قانون الطوارئ المعلن منذ 48 سنة بواسطة حكومة عسكرية غير منتخبة، واستمرار الاستبداد السياسي لقمع حرية التعبير ومعاقبة الخصوم بتهم ملفقة ومحاكمات ظالمة. وقّع البيان السجناء حبيب صالح ومصطفى جمعة وعلي عبد الله ومحمد بارش وكمال اللبواني ومحمد سيد عمر وميشال تامو وخلف جربوع وسعدون شيخو وإسماعيل عبدي والمدوّن كمال شيخو.

أيضاً لم يتطور الأمر إلى حراك شعبي فعلي. لكن على الأقل شعرنا أن أصواتاً بدأت تعلو في سماء دمشق. نتصل بالأصدقاء ونسألهم “كيف الأوضاع عندكم؟”، فيجيبون: “الناس مستنفرة والسلطة أيضاً… الشارع متوتر”. لكنهم مثلنا متوجسون من أي تفاؤل زائف، وحذرون جداً في التوقعات.

في يوم 15 آذار جاء خبر اعتقال أطفال درعا. في اليوم نفسه جاء خبر وشريط مصوّر لعشرات المتظاهرين في سوق الحميدية. في اليوم التالي تم تنظيم تظاهرة أمام وزارة الداخلية في ساحة المرجة، حيث طالب نحو 150 شخصاً بالإفراج عن أقاربهم وأصدقائهم المعتقلين السياسيين. تصدى لهم رجال الشرطة ورجال الإستخبارات، واعتقل أكثر من 20 شخصاً بينهم الناشطة سهير الأتاسي والمفكر الطيب تيزيني.

يوم 18 آذار بدأت تنتشر التفاصيل المرعبة عما حدث لأطفال درعا. على رغم الصدمة أدركنا أن السلطة، بأفعالها هذه، هي التي تطلب الثورة وتستدعيها بإلحاح وعناد. يومها صرخ أهل درعا “بعد اليوم ما في خوف”.  صدر بيان الثورة (كُتب في 15 آذار وانتشر في 18 منه) يدعو إلى النزول إلى الساحات يوم 19 آذار.

خرجت تظاهرات التشييع في درعا، تظاهرة في الجامع الأموي بالعاصمة، في بانياس، في حمص، في مضايا…”لقد بدأت”، قلناها بيقين هذه المرة. الثورة لها ملامح معروفة، والتماعات وشرارات لا تخطئها العين، وها هي بكامل حضورها تظهر باهرة في عموم سوريا. يتصل بي يحيى: “المعجزة تحققت يا يوسف”.

منذ ذلك الحين، نحن نعيش زمن الثورة السورية. نستيقظ وننام على أخبارها. نذهب إلى حوائط الـ”فايسبوك” لنكون على مقربة من وقائعها. نسهر لنساجل في الأفكار عما يجب أن يصير هناك، عن معنى هذا الحدث أو ذاك في معمعة الثورة. لا نعرف أن نكتب (ثقافة أو صحافة) إلا تحت عنوان هذه الثورة وهواجسها. تلك هي حالنا منذ عام.

حدثت عشرات الألوف من التظاهرات (قد تسجل رقماً قياسياً) في مئات القرى والبلدات والضواحي والمدن، شملت الخريطة السورية كلها، وظلت السلطة تردد: عصابات مسلحة، مجموعات سلفية، مؤامرة صهيونية. وكنا نتساءل: إذا كان نصف قرن من حكم البعث و”سوريا الأسد” جعل الشعب السوري عصابات مسلحة وسلفيين وعملاء صهاينة، فهذا يستدعي على الأقل القول: حزب البعث أسوأ ما قد يصيب “العروبة” وأهلها، إنه لا يُنتج سوى شعب متآمر ومضلَّل. نصف قرن تبدد بمجرد أن قام صبية بخربشة عفوية على جدار مدرستهم.

إذ نكتب اليوم تحت وقع الإجتياح العسكري، الذي قامت به القوات النظامية، لحي بابا عمرو في حمص، ننسى شريط الوقائع الشديد الكثافة الذي اتسمت به الثورة السورية. ننسى مثلاً أن كل الصدام العنيف والدموي بين السكان وقوات النظام سببه مطلب واحد بسيط: حق التظاهر السلمي والمدني. فقط من أجل هذا الحق، وقبل أن تتحقق أي مطالب للمتظاهرين – أياً تكن – يقوم الصراع بين النظام والشعب. أي ما نظنه بداهة وحقاً مكتسباً: التجمع السلمي، حرية التعبير، حق الإعتراض والمعارضة. هذا كله هو أساس النزاع الشديد القسوة والتكلفة بين السلطة الحاكمة والمنتفضين. من أجل اكتساب حق التظاهر من دون خوف أو قمع، يدفع السوريون ألوف القتلى وعشرات الألوف من الجرحى، ومثلهم من المعتقلين والمجهولي المصير والمفقودين.

السوريون يُقتَلون، منذ حادثة حائط درعا، فقط لأنهم يريدون البداهة: أن يكونوا بشراً بكامل كرامتهم. هذا ما يجب عدم نسيانه ونحن نساجل في أمور من مثل “التدخل الخارجي” و”التسليح” و”السلفية” و”المعابر الآمنة”… إلخ. فالشعار الأول كان “الشعب السوري ما بينذلّ”، والشعار الثاني كان “ما في خوف بعد اليوم”. الشعاران في معرض النفي كانا يعلنان أن هذا الشعب يعاني تاريخاً مديداً من الذل والخوف. بدورها كانت السلطة بكل جبروتها وشراستها لا تريد سوى إبقاء الخوف والذل كسمة دائمة لعلاقتها مع مواطنيها.

لذا، وبفجور دموي متوارث، تذهب هذه السلطة إلى إعلان الحرب على الشعب. حرب فعلية وخالية تقريباً من أي قوانين تحكم الحروب المعاصرة. بالفجور نفسه يعلن الأمين العام القطري لحزب البعث في لبنان فايز شكر في بيروت، من قلب ساحة الشهداء: “بابا عمرو أعطاك عمرو”، مزهواً بقتل السكان وتشريدهم وبحرق المنازل ونهبها وتدميرها، بلا أي خجل، معلناً نجاح الجيش النظامي في دخول الحي الحمصي. كان ذلك ربما من أندر لحظات الإقرار بالحقيقة من أي شخص أو وسيلة إعلامية تابعة للنظام السوري: “نحن قوة إحتلال، ونتصرف كقوة احتلال، وقد انتصرنا على مواطنينا”. هذا ما ذكّرني بما كان يقوله أصدقاؤنا في دمشق عام 2005 رداً على مطالبتنا برحيل الجيش السوري من لبنان: “ونحن نطالب بانسحاب الجيش السوري من سوريا”. ما بدا طرفة في العام 2005 تحول حقيقة كابوسية عام 2012: الجيش السوري يجتاح، احتلالاً، أنحاء سوريا. هذه الحقيقة فريدة من نوعها في التاريخ. كيف “يحتل” الجيش بلده؟ كيف يصير الجيش غازياً لوطنه؟ لنقرّ بأن هذه واحدة من أكبر “عجائب” إنجازات الحكم البعثي في سوريا، وأفضل “غرائبه”.

مرّ عام على بدء الثورة، وتطور رد فعل النظام من قمع للتظاهرات إلى شن حملات عسكرية واسعة النطاق في كل أنحاء البلاد، حتى في أحياء العاصمة وضواحيها. الثورة نجحت في دفع النظام إلى عرائه الكامل: “قوة غاشمة” ليس إلاّ. على هذا يمكن القول: احتل النظام السوري حيّ بابا عمرو وخسر سوريا كلها. هذا هو ثمن احتلال كيلومتر مربّع واحد من الكرامة والغضب والإرادة. أي أن سقوط بابا عمرو “حرّر” سوريا كلها.

بغض النظر عن مستقبل تسليح المعارضة، أو تضاؤل فرص الإستمرار في الحراك السلمي، أو احتمال التدخل الخارجي، ارتسم الإنفصال الكامل بين النظام وسوريا. هذا أيضاً كان ثمن احتلال بابا عمرو.

 هذا الإنفصال أيضاً، منذ أن أسست له الثورة، أتاح لنا كلبنانيين أن نقيم – ربما للمرة الأولى منذ عقود – “علاقة” مع المواطنين السوريين. أغلب اللبنانيين باتوا اليوم “يتحدثون” مع ناطور بنايتهم الآتي من أرياف سوريا، يتشاطرون الآراء مع الطالب السوري، يسألون العامل السوري عن أخبار عائلته. فجأةً انتبه اللبنانيون أن هؤلاء السوريين، الذين كانوا يستدعون الحذر والريبة، ليسوا مجرد “عناصر مخابرات” ولا مخبرين. الثورة منحتهم حتى في لبنان كرامة الإنسان وعنفوانه، بقدر ما منحت اللبنانيين أيضاً شعوراً بالتواضع والخجل إزاء تلك الشجاعة التي يبديها أقرانهم السوريون في وجه سلطة لا تزال تجد في لبنان أتباعاً أكثر مما تجده في دمشق نفسها. هذا عارنا الذي يجب أن نغسله كي نستحق مشاركة الشعب السوري “ربيع المشرق العربي”.

أغاني الثورة السورية: السلفيون يرقصون!

رامي الأمين

في تعريفه للموسيقى يقول الشاعر والأديب الفرنسي الشهير فيكتور هوغو إنها تعبّر عما لا يمكننا قوله ولا نستطيع السكوت عنه. أما الغناء في تعريفه العام فهو الدمج بين الموسيقى والكلام والصوت. خلطة من مركّبات ثلاثة، تؤمّن وسيلة تعبير كاملة: عما لا يمكن قوله، ولا يمكن السكوت عنه، ولا يمكن كتمه صوتياً. الغناء إذاً نقيض القمع والكبت والصمت. لذا، عندما انتفض الشعب السوري ضد طغيان نظامه الأسدي، ظهر الغناء بوصفه المادة الأساسية للتظاهرات السورية، واقترنت الثورة بمغنّين كثراً، تجرأوا على كسر المحرّمات، وتحميل الموسيقى ما كان ممنوعاً التعبير عنه، وما لم يعد مقبولاً السكوت عنه.

أولى أغاني الثورة التي وصلتنا كانت من ابرهيم قاشوش. الرجل سميّ “مغنّي الثورة”. شاب من مدينة حماه، اشتهر بأناشيده وهتافاته التي تستهدف النظام السوري في “مقدساته”. كان يكتب الهتافات ويلحّنها وينشدها أمام ألوف المتجمعين في ساحة العاصي بصوته الجميل والجهور، ليرددوها خلفه بصوت واحد إيقاعي، أشهرها على الإطلاق تلك التي تحمل لازمة “يلا ارحل يا بشار”، وتتضمن مقاطع غاية في الجرأة، تصيب عقب أخيل النظام، حينما تعلن: “يا بشار ويا كذاب، تضرب انت وهالخطاب، الحرية صارت ع الباب… ويلا ارحل يا بشار”. أو حينما تنال من رجل الأمن الأول في سوريا، ماهر، شقيق بشار الأسد: “خود ماهر وارحل عنا”، ثم تصرّح بما هو أكثر جرأة: “يا ماهر ويا جبان ويا عميل الأمريكان، الشعب السوري ما بينهان”، ليعيد بعده الجمهور بصوت واحد مركّز وحاسم: “يلا ارحل يا بشار”. صوت ابرهيم قاشوش يبدو لمن يسمعه أكبر وأوسع من أن يكون لشخص واحد. حنجرته، في صرخاتها الأولى، التي لم يتعود عليها الشعب السوري، كأنها حنجرة شعب، وليست حنجرة شخص. لذا انتشرت هتافاته وأغانيه بسرعة، وصارت تتناقلها الهواتف الخليوية ومواقع الإنترنت، مخترقة كل الجدران، مسافرة في هواء الحرية، لتصل إلى كل من يجب أن يصل إليه الصوت. هكذا وصل الصوت إلى المتلقي الخائف المكبوت المقموع، لتهزّه وتطالبه بالتحرك والتجرؤ على الكلام والغناء وحتى الصراخ. ووصل إلى مسامع من لم يكن ليتوقع يوماً أن يتجرأ أحد عليه بهذه الطريقة: الطاغية القابع في قصره. عندما سمع الطاغية الغناء، اضطرب وخاف. أرسل رجاله إلى مصدر الصوت لإقتلاعه من جذوره، أمسك الشبّيحة بابرهيم قاشوش، قتلوه، اقتلعوا حنجرته، ورموا جثته في نهر العاصي. كان اقتلاع حنجرة “مغنّي الثورة” دليلاً لا لبس فيه على أثر الغناء في مداميك النظام، التي استطاعت الأغاني أن تدكّها وتزلزلها. استطاع الصوت أن يأتي بما لم تستطعه السياسة أو العسكرة. منذ تلك اللحظة، سقط بشار الأسد. بقي أن يرحل.

يا حيف…

مغنٍّ آخر للثورة وصلنا صوته من خارج سوريا. صوت أليف ومعروف لمن اعتاد سماع أغاني اليسار والثورة (مطلقاً) وفلسطين. كان سميح شقير في باريس حينما اندلعت الأحداث في درعا، وتحولت ثورة عارمة في سوريا كلها. شقير كان يتعالج من مرض عضال في العاصمة الفرنسية، وهناك، لم يستطع أمام نهج العنف والتنكيل والقتل الذي يعتمده النظام السوري إلا أن يحمل عوده ويلحّن أغنية صارت مشهورة جداً بعنوان “يا حيف”، موجهة مباشرة إلى النظام السوري والرئيس بشار الأسد: “زخ رصاص على الناس العزّل يا حيف، واطفال بعمر الورد تعتقلن كيف؟ وانت يا ابن بلادي تقتل في ولادي، وظهرك للعادي وعليي هاجم بالسيف… يا حيف!”. كلمات مباشرة وصريحة تدين القتل وخيانة النظام السوري لأبناء شعبه الذي يطالب بالحرية. الأغنية قريبة فنياً من الجو العام لأغاني شقير، التي كانت تتحدث عن الظلم عموماً، وعن القضية الفلسطينية خصوصاً، لكنها لم تتطرق صراحة إلى الظلم الذي يعاني منه الشعب السوري، إلا ربما بالترميز والإيحاءات، التي كانت جزءاً من الهامش الذي يؤمّنه النظام في مختلف المجالات، شرط أن لا يطاول رأسه العصي على البلوغ.

“يا حيف” واحدة من الأغاني القليلة التي افتتحت بازار إطلاق النقد المباشر بلا مواربة للنظام السوري ولشخص الرئيس السوري، والمطالبة بتنحيته ومحاكمته، واتهامه بالعمالة والإجرام.

أغنية أخرى حملت صوت سميح شقير وتوقيعه لحناً وكلاماً، هي “قربنا يا الحرية”. كلماتها الحماسية تسكن في لحن يجمع بين الحساسية المرهفة والحماسة والأمل بالمستقبل، وتتناول في نقدها للنظام وقائع خبرية، حينما تتحدث عن ابرهيم قاشوش واقتلاع حنجرته، أو حينما تتساءل عن تحطيم يديّ رسام الكاريكاتور علي فرزات، أو قتل الطفل حمزة الخطيب: “هي يا هو… شو عملتو بإيدين الرسّام؟ هي يا هو… بالأطفال وبحنجرة المغني… هي يا هو… وما بينلاموا ان سقّطوا الناس النظام… ولا ان ملا الساحات شعب يغني… وسوريا بدها حرية!”. اللازمة الأخيرة طبعاً هي من الهتافات الشهيرة للمتظاهرين السوريين في مسيراتهم التي ابتكروا لها إلى الهتافات أغاني كثيرة يرقصون عليها رقصات جماعية، تتناقض تماماً مع الصورة التي يحاول كثيرون رسمها عن مجمل الثورة السورية بأنها ذات طابع إسلامي وسلفي. فأفلام فيديو كثيرة منشورة على موقع الـ”يوتيوب”، تظهر الألوف وهم يغنّون بشكل جماعي ويرقصون جماعياً، بما يشبه الدبكة، إذ يشبكون اياديهم، أو يفتحونها كجسر بين الكتف والكتف ويبدأون بالتمايل مع الأغاني المشهورة التي يحوّرون كلماتها لتتناسب ومضمون الرسائل التي يريدون إيصالها إلى النظام أو إلى الإعلام أو إلى المجتمع الدولي. سلفيون يغنّون ويرقصون، حتى أن السلفية التي يتحدث عنها النظام، قامت في مدينة إدلب بتنظيم “سوبر ستار الثورة” على غرار “سوبر ستار العرب”، البرنامج الفني الغنائي، وفي حضور لجنة حكم، تناوب مشتركون من مختلف الأعمار على الغناء للثورة وضد بشار الأسد، في حضور نساء، بعضهن محجبات وبعضهن الآخر لا، لكنهن جميعهن غنيّن وصفّقن للمغنين، بلا أدنى تعقيدات “دينية”.

هناك اقتناع يبدو راسخاً لدى الثوار السوريين بأهمية الغناء، بل إن الرغبة في الغناء تكاد تضاهي الرغبة في الحرية، فلا تكاد تمر تظاهرة سورية معارضة من دون أن تشهد وصلة غنائية جماعية. حتى التظاهرات التي تتخذ طابعاً دينياً لا تخلو من أناشيد ثورية تتأرجح على حافة الغناء، أو تستند في لحنها إلى أغان قديمة ومشهورة، مثل “على العين مولايتين”، و”سكابا يا دموع العين”، التي تقرن بـ”على شهدا سوريا وشبابا” وغيرها. بعض الأغاني الجماعية التي يبتكرها الثوار في تظاهراتهم تنجح في أن تتحول “علامة مسجلة”، فثوار حماة مثلاً ابتكروا اغنية حماسية وطريفة، تقول كلماتها: “جنّو جنّو البعثية لما طلبنا الحرية، ويلعن روحك يا حافظ يا ابن الحرامية”، وتتابع الأغنية بالأسلوب الساخر نفسه، فتقول: “نحنا مطالبنا حق إن قلت إيه وإن قلت لأ/ وزت وراقك خلص الدق/ ويلا لمّو البرتية”، ثم تعود لتكرار اللازمة نفسها (جنّو جنوّ البعثية…). أما حمص الخالدية فاستعارت من شوشو أغنيته الشهيرة للأطفال “ألف بي بوباية”، يقول فيها المغني أمام الآلاف، “ألف بي بوباية قلم رصاص ومحاية، أنا بسبّو لبشار وإنتو ردّو ورايي”، طبعاً مع إيقاعات الطبلة الراقصة، وقفز الشبان والشابات. أيضاً حمص الخالدية، استعارت “الهوارة”، ودبك ثوارها على إيقاعاتها وكلمات “هوّر يابو الهوارة وطلع الأمن من الحارة”، هذا فضلاً عن أغنية لصباح صارت “ع الندا الندا الندا ويا بشار مانك قدا، وإن ما سقط النظام هالدولة بدّي هدّا”، كما لحّن الثوار “السلفيون” في مدن عدة أغاني أخرى، ورقصوا عليها!!

الدبّ السوري لم ينقرض

“الدب السوري”، فرقة موسيقية سورية، خرجت في خضم الثورة، لتعبّر عن هوية خاصة في صوتها وأدائها وكلماتها. ليس هناك معلومات وافية على الإنترنت عن الفرقة التي لها ثلاث أغان على موقع الـ”يوتيوب”، تشهد إقبالاً كثيفاً على الـ”فايسبوك” و”تويتر”. الأغاني الثلاث هي “يمل”، “أنا إسمي نظامي”، “إرحل يا نظام”. كلها تتناول مباشرة النظام السوري ورئيسه بشار بأسلوب ساخر لاذع وذكي، محمول على متن موسيقي جميل وسلس، لا يعتمد إلا آلات قليلة، هي في “يمل” الغيتار فقط، وفي الأغنيتين الأخريين العود والطبلة. “يمل” هي نموذج للأغنية السياسية التي تغوص في التفاصيل وتنتقد بشكل مباشر، بأسلوب طريف، لكنه شديد العمق من حيث طرحه اجابات قد تبدو فلسفية في العلاقة بين الشعب والنظام. يقول “الدب السوري” في “يمل”: “الشعب ملّ من الأبد، والد وما ولد، رح نسترجع البلد من أنيابك يا أسد”. الطرح الذي يبدو سهلاً ممتنعاً، يسقط المستمع إليه في هوّة التحليل البسيكولوجي للثورة السورية. من بين الأسباب التي يجدها الدب السوري أساسية للإنتفاض على نظام الأسد هو الملل، كعامل حساس وفاضح، بسبب الأبد، الذي يطرحه النظام سقفاً لبقائه. فحافظ الأسد خالد إلى الأبد، ومثله بشار. وبعد أربعين عاماً، كان لا بدّ للناس أن يملّوا من الأبد، وأنا يخرجوا ليقولوا: مللنا. لا يبدو الملل عنصراً عرضياً للثورة، فالأغنية هذه ومعها كل أغاني الثورة، تبدو كأنها تقترح وسائل تسلية على الناس الضجرين من نظام ممل، يشترط للتسلية أن تكون بقواعده وقيوده، وأن تصب دائماً في العراضة المطروحة له وأمامه من أنصاره على الدوام. هنا لا بدّ أن نتذكر عشرات الفنانين اللبنانيين والسوريين الذين مجّدوا الطاغية، وكنا قد كتبنا عنهم في المقام هذا مقالاً تحت عنوان “الأغنية البعثية اللبنانية”، وقد عقّب على المادة الكاتب السوري صبحي حديدي في مقالة له في “القدس العربي”، وأنهى مقالته بخلاصة موفقة تماماً ترى أن هؤلاء لا يهينون الشعب السوري فحسب، بل يهينون الحقيقة. المقالتان كتبتا قبل سنوات من الثورة السورية. كانت المساحة “الفنية” إذا جاز التعبير، محصورة بـ”شحارير الرياء” كما سمّاهم حديدي، وهؤلاء يتباينون “في موهبة النفاق أو الشطارة والكذب أو براعة الإمتهان أو خفة إراقة ماء الوجه”. أما ما تقترحه الثورة من مغنين وفنانين اليوم فيعكس الآية تماماً، ويكشف عن مادة فنية جدية وواضحة، لا تمالق ولا تكذب ولا تتودد أو تمجد. حتى الحرية نفسها غير ممجدة في أغاني الثورة السورية، التي تركز تماماً على فكرة النقد والسخرية والإستهزاء بالتابوهات وتحطيم أصنام السلطة. أغنية “يمل” لـ”الدب السوري” تقول بوضوح إن زمناً ولّى لصالح زمن آخر لن يكون للخوف فيه مطرح: “يا بشار طلع الضو، وما عاد نخاف من العو، اليومة رح منشيلك أو، بكرا الأيام بتحلو…”.

في البحث عن مصدر تسمية “الدب السوري” يكتشف المرء أن هذا النوع من الدببة بني اللون كان موجوداً بكثرة في بلاد الشام، وانقرض في ستينات القرن الماضي بسبب وحشية التمدن، لكن يبدو أن الوحشية لا تستطيع أن تلغي تماماً كل شيء. حتى المعارضة السورية التي ظن الناس أنها انقرضت، عادت بأشكالها الشعبية والفنية والثقافية والسياسية لتقول إن زمن الديناصورات هو الذي انتهى، وإن الحرية آتية لا محالة.

السخرية في “يمل” تذهب إلى حد اقتراح وسائل تسلية للرئيس السوري كي يكف عن اللعب بدم الشعب السوري ومقدراته. من مثل: “افتح عيادة دكتور، استثمر عرباية بوشار، افلح أرضك بتراكتور، القصد تفلّت هالمنشار، طالع آكل نازل آكل…”. وهي لا تتوانى عن الذهاب إلى تحطيم قدسية العائلة الأسدية وتماثيلها ونظامها الوراثي، فتعلن مللها من “امك من أبوك يملّ، من إختك من أخوك ومن صهرك يمل، من أمنك من كل مين بأمنك يمل، من الفوضى الّي بنظامك يمل”. إذاً الملل هو الداء الأول للنظام الأسدي، الذي لا يسمح بتغيير حتى أبسط الأمور. التغيير المنشود على الأقل، وفي حده الأدنى، يجب أن يكون من أجل كسر الملل من الوجوه ذاتها والخطب ذاتها والمصفقين ذاتهم والسياسيين ذاتهم.

ببساطة، وبلا كثير تفسير وتحليل “الشعب ملّ من الأبد”!

بانوراما الضمور الثقافي والأحلام المؤجّلة

ماهر الجنيدي

استطاع الاستبداد على مدى قرابة نصف قرن من الزمن وأد أحلام كثيرة ومتنوعة داعبت مشاعر السوريين وهم يرون التطوّرات الجارية في العالم منذ أواسط القرن العشرين حتى اليوم. استبدادٌ اشتدّت وطأته خلال السنوات الأربعين الماضية، مع تمكّنه من استكمال منظومة سياسية مالية أمنية محكمة متماسكة، مغلّفة بخطاب فكري إعلامي إيديولوجي شمولي يرتدي رداء الممانعة، ذريعةً تخدم هذه المنظومة، وماكينةً يمكنها اجتثاث الكثير من الأحلام.

زخرت لدى السوريين تاريخياً أحلام استكمال مهمات التحرر الوطني وتحقيق الذات الوطنيّة، بما تعنيه من ارتقاء نهضوي بالبلاد، وتحقيق تقدّم اجتماعي، وبناء مجتمع ديموقراطي قائم على المساواة والعدالة وحكم القانون، تتعزز فيه أواصر العلاقات بين مكوّناته الإثنية والدينية والطائفية، وتشرق منه ثقافة مدنية أكثر نضجاً. وعبّروا عن أحلامهم في خمسينات القرن الماضي عبر ما تيسّر لهم من مؤسسات مدنية ومنظمات أهلية وأحزاب وتكتلات وروابط، أثمرت نتاجاً ثقافياً تفاعل عضوياً مع المجتمع وعبّر بدرجة أو أخرى عن حراكه.

بيد أن منظومة الاستبداد التي اختطفت الدولة وأوقفت عجلة التاريخ، رأت في المقابل أن استمرارها يتطلب أموراً أخرى تختلف تمام الاختلاف عن أحلام السوريين. ففي إطار اشتغالها على تفكيك المجتمع المدني في البلاد، انصبّ اهتمامها على حظر تعبيراته، وإبطال مفاعيله، وبتر إفرازاته الثقافية، مستخدمةً شتى شعارات “الوحدة الوطنية” و”تماسك الجبهة الداخلية” وغيرها من الشعارات المرحلية. في الإطار ذاته جاء تعطيل الصحافة الحرة، السياسية منها والثقافية، وحظر الأحزاب باستثناء المدجّنة منها، والتضييق على الجمعيات المدنية، ومسخ النقابات المهنية للكتّاب والأدباء والصحافيين والفنانين إلى مجرد منظمات شعبية “رديفة” للحزب القائد، تمترست فيها استحكامات أمنية محسوبية فاسدة. جملة إجراءات بثّت في مفاصل المجتمع ثقافة خوف مهيمنة.

فعلى صعيد المبادرات الثقافية المجتمعية، اشتغل الاستبداد على استدامة منظومته وفق منهجية ثلاثية قائمة على منع المبادرات الثقافية وفرملتها وعرقلتها وإجهاضها، وعلى استيعاب أي مبادرات “ناجية” وامتصاصها وقولبتها وفق لائحة محددات أمنية قاسية، وعلى إفراغ المبادرات “الصامدة” من معانيها، إن صمدت. فمُنع الطلبة الجامعيون مثلاً من تشكيل فرقة مسرحية، أو نادٍ للسينما، إلا عبر “منظمتهم الشعبية” المعنية، “الاتحاد الوطني لطلبة سوريا”. ولم يشكل الأدباء الشباب رابطتهم إلا لفترة وجيزة، وتحت إشراف اتحاد شبيبة الثورة حصراً. وطالت عملية حلّ الجمعيات الأهلية والمنظمات المدنية حتى منظمة الكشافة، بما يمكن أن تعنيه من تواصل واطلاع على الآخر داخل سوريا وخارجها.

على صعيد الإدارة الثقافية في المدن السورية، تشكلت إدارات المراكز الثقافية وفق اعتبارات توافقية أمنية بعيدة كل البعد عن الفعل الثقافي، وباتت شيئاً فشيئاً تستحق لقب “المخافر الثقافية”، باعتبارها مارست دوراً أمنياً رقابياً كخط “ضبط” أمامي، تختفي وراءه الأجهزة الأمنية المعروفة.

على الصعيد المناهج التعليمية، استعيض عن مادة “التربية الوطنية” بمادتي “الثقافة القومية الاشتراكية”، في ضربة مزدوجة لم تكتفِ ببث المقولات الايديولوجية البائسة للحزب الحاكم فحسب، بل وبسحب بعض المفاهيم النيّرة التي كانت تتضمنها مادة “التربية الوطنية” من التداول، مثل مفاهيم العقد الاجتماعي، والمجتمع المدني.

أخيراً، ولعلّه الأخطر، ففي مقابل حلم المواطنة والتعارف بين مكوّنات المجتمع الثقافية، عملت منظومة الاستبداد على تكريس الانعزالية بين هذه المكوّنات الإثنية والدينية والطائفية، ومنع التداول في شأنها، واعتبارها من المحرّمات التي يمكن أن تهدد المجتمع، وحارب حتى المقاهي الثقافية في دمشق وحلب وحمص وغيرها، التي شكّلت طوال عقود ملتقيات للكتّاب والشعراء والفنانين والمثقفين عموماً، باعتبارها بؤراً أمنية محتملة.

بل ولاستكمال بؤس المشهد، وعلى نقيض الفعل التنويري المنوط بالدولة، بادر الاستبداد إلى ممارسات تدميرية عبر جهود حثيثة بذلها لإبعاد السوريين عن الثقافة فعلاً وتلقّياً، وخلق انطباع عام لدى السوريين الباحثين عن لقمة العيش، حتى المتابعين للشؤون الثقافية منهم، بأن الفعل الثقافي الذي يمارسه هذا الكاتب في كتابه، أو تلك الفنّانة في فنّها، أو ذاك المفكّر في فكره، إنما هو ضرب من الترف والاستعراض في زمنٍ تتهدد البلد مؤامرات الأعداء المتربصين بممانعته، ويتطلب شدّ الأحزمة الثقافية إلى حدّ الضمور.

من هنا يمكننا النظر إلى المفاجأة التي حققها السوريون على الصعيد الثقافي لأنفسهم أولاً، بعدما قلبت الثورة المشهد كله على مدى العام الفائت، كاسرةً ثقافة الخوف.

فعلى التوازي مع عودة السوريين إلى ميادين الفعل السياسي والتنظيمي، يمكن القول فعلاً إنهم عادوا إلى ميادين الثقافة الرحبة فعلاً وتلقّياً، فسقطت رموز وتألقت أخرى، وانبثقت مع الحراك أسماء مبدعة جديدة، وحركة ثقافية عريضة وشبه متكاملة، من صحف ومجلات، وأفلام فيديو وملتيميديا، ومسرحيات، وفنون تشكيلية، وإبداعات أدبية وفكرية وإعلامية.

لقد فتح السوريون صندوق أحلامهم المؤجلة، فردياً وجماعياً، واستعادوا آمالهم في بناء الدولة التي يريدون.

صندوق أحلامهم زاخر: حلمٌ بأن يتعرف الشعب إلى ذاته أولاً، وأن يجفف منابع الاحتقان التي كان يؤججها الاستبداد ويضعها في الوقت ذاته تحت السجادة، ويتعرّف أبناؤه إلى ثقافات بلدهم، الدينية والطائفية؛ حلمٌ بتفكيك “الغيتوات” التي رعاها الاستبداد داخل المدن؛ حلمٌ بوضع مسائل مجتمعية ساخنة على بساط البحث، كالمساواة بين الجنسين، ورعاية الريادة المجتمعية والثقافية والشبابية، والزواج المختلط، والزواج المدني؛ حلمٌ بحريّة الصحافة؛ حلمٌ بإنقاذ ثقافاتهم الآيلة للزوال، وتعليم أبنائهم اللغات الآرامية والسريانية والكردية والشركسية إلى جانب العربية؛ حلمٌ بالانطلاق إلى عالمهم الأوسع متحررين من أكل استبداد ومن كل عقدة خوف. باختصار: حلمٌ بثقافة بلا حدود.

لقد بدأ بالفعل مشوار تحقيق الأحلام المؤجلة. فاليوم، وبعد عام من بدء الثورة، بات السوريون يعرفون بعضهم بعضاً أكثر من أي وقت مضى، وباتوا منتجين ثقافياً، ومتابعين لآراء ومواقف مفكريهم وأدبائهم وفنانيهم، ومتفاعلين معهم. اليوم، ما عاد في مقدور أحد أن يعيد أحلامهم إلى مستودعها الذي وئدت فيه لنصف قرن. هذا يعني أنّ من الواقعيّ تماماً القول- من موقع المتابع الثقافي- إن الثورة انتصرت منذ أول أغنية جماعية صدحت بها حناجر المتظاهرين في سوريا كاسرةً حاجز الخوف، وإن الأخبار على الأرض هي مجرّد تفاصيل ميدانيّة للتخلص من منظومة الاستبداد، وتبعاتها من تخلّف وجهل وأصوليات، ودخول القرن الحادي والعشرين بما يليق به.

استقرار” الثورة: سقوط النظام!

محمد دحنون

قليلةٌ هي المؤشرات التي يمكن الاستناد إليها لتقديم تصوّر واضح عن المسارات المحتملة للخروج من الأزمة السورية؛ أحد تسميات الكارثة الإنسانية التي تعيشها مناطق سورية عدة. وبقدر ما يمكن الانغماس الوجداني في وقائع الثورة أن يكون موجِّهاً للسلوك والتفكير، يفتقر المرء الى إمكان استقراء موضوعي أو دقيق لتلك المسارات.

ربما، يتعلّق الأمر باستعصاء وغموض ميدانيين ينعكسان استعصاءً وغموضاً في تقدير الحلول والمخارج. بعدما ساهم منشقون عن الجيش النظامي في إضافة مكوّن عسكري لباقي مكوّناتها، لم يحدث أن طرحت الثورة في ميدانها الداخلي أو (الخارجي) معطيات جديدة ونوعية، من شأنها أن تفتح أفقاً جديداً أو تشكّل نقطة انعطاف في مسارها. لا ينبغي هنا إغفال العامل الزمني الذي يقف إلى جانب الثورة، وغيره من العوامل الثانوية (إدانات دوليّة، عقوبات…) غير أن التأثير النوّعي لهذه وذاك لا يزال محدوداً.

بصورة عامة، لدينا، منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة، سوريون منتفضون يسعون لانتزاع حريتهم وكرامتهم، وطغمة حاكمة لا سياسة لها، ينحصر تفكيرها وممارساتها في العنف المنفلت والكذب والخداع والتضليل. ولدينا موقف إقليمي ودولي، تجاه الثورة، أقرب إلى المتفرّج على رغم كل التصريحات والمواقف وردود الفعل.

يرجّح أن حال الاستعصاء قد بدأ مع الأسابيع الأولى للثورة، حين كان ممكناً أن توصف تظاهرات كل من درعا ودوما وبانياس بأنها “أعمال احتجاجية” لا أكثر. لم يكن متوقعاً من أبناء المناطق التي شكّلت البؤر المبكّرة للثورة أن يتراجعوا مع ازدياد شراسة الحل الأمني ودمويته. ثمة “خبرة خام” بطبيعة النظام الحاكم، توافرت لدى طلائع المنتفضين، كانت تدفعهم للمضي قدماً لتحقيق ما خرجوا من أجله: نيل الحرية. هذا ما تثابر على فعله عموم المناطق المنتفضة في سوريا اليوم على رغم المجازر اليومية المرتكبة.

 هو، إذاً، استعصاء مديد ومتصّلب، لم يغيّر في طبيعته النوعية، ولم يكسره، شمول المظاهر الاحتجاجية نسبة كبيرة من مناطق سوريا. يمكن الجزم أن أصل الاستعصاء يصدر عن بنية النظام نفسها، بمعنى آخر: لا تشارك الثورة في حال الاستعصاء بالمعنى السلبي لفكرة المشاركة، فهي اليوم، وفي الحد الأدنى، تمارس أرقى واجباتها الأخلاقية وأبسطها في آن واحد: تدافع عن المنتفضين، وتدفع عن سوريا عموماً احتمال الانزلاق إلى أزمنة سوداء قد لا تكون الأعوام التي تلت مرحلة “فظائع الثمانينات” سوى نسخة مخفّفة عنها.

لا يمكن إدراج التصعيد الدموي الخطير الذي لجأ إليه النظام أخيراً، والذي تكرّر إعلانه بصفته “الحسم العسكري”، في سياق محاولاته الدؤوبة لقمع الثورة، بقدر ما يمكن إدراجه في سياق تكريس فشله المتمادي في كسر شوكتها، لكن من دون إغفال الضرائب الباهظة التي فرضتها  المحاولات المتكرّرة للحسم العسكري على المنتفضين أوّلاً وعلى سوريا عموماً. لهذا السبب، ولغيره، فإن المنحازين الى الثورة لا يمكنهم أن يركنوا إلى “تأكيدات الفشل”: فشل النظام قطعاً في وأد الثورة، غير أنه أصاب نجاحاً ما في جرّها لتتجاوز، بصورة نسبية، بعضاً من لاءاتها الثلاث: لا للطائفية. لا للعسكرة. لا للتدخل الخارجي. ليس في ذلك ما يدين الثورة بقدر ما يُفترض أن يدفع الجميع، لا سيما “الآخر الوطني”، إلى إدانة متزايدة للنظام!

في الأساس، لعبت لاءات الثورة دوراً مهمّاً في تقديمها نفسها لـ”الآخر الوطني”، الموالي والصامت، كما للعالم، باعتبارها ثورة من أجل حرية عموم السوريين وكرامتهم. وقد شكّل تبنّي المنتفضين لتلك اللاءات دليلاً على نضج سياسي وإحساس عالٍ بالمسؤولية الأخلاقية والوطنية. ولكن، ليس مبرراً أن يتمّ النظر إلى لاءات الثورة والتعامل معها، بصفتها “مقدسات” ينبغي ألاّ تُمّس. ليس لأنّ التقديس، في حدّ ذاته، يقف على الضدّ من الواقع المنفتح على التغيير و”التدنيس”، بل لأن الثورة  تعاملت مع “لا للعسكرة” و”لا للتدخل الخارجي” بمنطق التجاوز الذي، جاء في المحصلة، نتيجة ردّ الفعل “فوق الحربي” للنظام ضد قواها التي يشغل المجتمع الأهلي الموقع المركزي والأساسي بينها. يمكن أن نكثّف ما نعنيه بردّ الفعل “فوق الحربي”، بمحاولات ميليشيات النظام إجبار منتفضين سوريين على تأليه جلاّدهم؛ ليس هذا من الحرب التي يمكن اعتبارها “امتداداً للسياسة بوسائل أخرى”!

في المحصلة، كان تجاوز الثورة لبعض لاءاتها هو الثمن الواجب دفعه لاستمرارها. في الأصل، شكّلت المواجهة التي فرضها النظام بين الجيش الوطني والشعب مصدراً رئيسياً لإكساب الثورة جانباً عسكرياً. يلزم المرء حسّ أخلاقيّ عالٍ كي يقدّر شجاعة المنشقين ويفكّر في شأن طرق حمايتهم، وحسّ سياسي وتحليلي عميق كي يدرك أن شكل العسكرة الذي اتخذته الثورة في سوريا (جنود منشقون ومدنيون متطوّعون يحمون تظاهرات شعبية والمناطق التي تخرج فيها تلك التظاهرات)، لا ينال بتاتاً من مضامينها وغاياتها السلمية، وتحديداً، حين يمكن ضبط النشاط العسكري بأهداف تخدم الثورة حصراً.

أما في ما يتعلق بمسألة التدخل الخارجي، فأغلب الظن أنه لم يكن ثمّة معنى للحديث عن “رفض التدخل الخارجي” في الأصل، ليس لأن الخارج لا يريد أن يتدخل بصورة جديّة على ما بدا حتى اليوم، وليس لأن التدخل الخارجي الداعم للنظام بات مكشوفاً وملموساً في ميدان المواجهة وفي أروقة السياسة، بل فقط لأن سوريا تقع، جغرافياً، في منطقة مدوّلة تاريخياً، لم يكن استقلال بلدانها على امتداد عقود سوى استقلال شكلي ولم تستمر نخبها الحاكمة في مواقعها إلاّ بإرادات خارجية. لا ينبغي أن يُفهم هذا الكلام باعتباره شرعنة للتدخل الخارجي، بمعنى الخضوع له، لا سيّما في لحظة تأسيسية من تاريخ البلد، لكنه قد يشكّل مدخلاً مناسباً للرد على  الرفض الساذج لمسألة التدخل الذي يصدر عن حساسيات إيديولوجية متنوّعة.

في الأساس، لن تنجح الكيانات الوطنية في العالم العربي عموماّ، ومنطقة الشرق الأوسط خصوصاً، في الخروج من أسر ثنائية الرفض/ الخضوع في التعامل مع “الخارج”، الذي هو ليس “خارجا” تماماً، ولن يكون كذلك في أي لحظة تاريخية إلاّ حينما تحقّق ثورات شعبية، قائمة أو محتملة، أهدافها بإقامة دولها القوية والقادرة على التفاعل مع الخارج بصورة إيجابية وبلغة السياسة وليس بلغة الإيديولوجيا.

جدلية الحداثة والتصوف في الثورة السورية

منير الخطيب

في معارضة بعض المثقفين “الحداثيين”، الذين ينتسبون إلى “اوليغارشية نخبوية” مقطوعة الصلة مع مفهوم الشعب، والذين وصفوا الثورة السورية منذ انطلاقها بالسلفية والبعد عن المدنية، ودليلهم على هذا خروج التظاهرات من الجوامع والأرياف، وكذلك شعاراتها الدينية… إلخ؛ أقول بالتعارض مع هؤلاء: إن الثورة السورية اقتحمت مضامين الحداثة اقتحاماً.

وضعت الثورة السوريين، بقوة، على خط التظاهر السلمي، وفتحت المجال واسعاً أمام عودة السياسة، بصفتها فاعلية مجتمعية ومدنية، إلى المجتمع السوري، بعدما نسي هذا المجتمع التظاهر السلمي، حيث كانت “السياسة” في العقود الماضية تولّف على الخيارات الايديولوجية والحزبوية، وتقوم على احتكار السلطة للمجال العام احتكاراً جامعاً مانعاً، وقتل الروح الفردية لدى البشر، وتحويلهم مجرد كم عددي مهمل. فنمت في بلادنا الأحزاب الايديولوجية، أحزاب “الثورة” والثوران، أحزاب الحرب والسلاح، التي لم يكن لها من وظيفة فعلية إلا نزع السياسة من المجتمع، وحقن النسيج المجتمعي بالعنف وعوامل الحرب الأهلية. ذلك لأن “السياسة” بالنسبة الى هذه الأحزاب تقوم على مبدأ “الغلبة” وجعل الآخرين متساوين في منسوب التهميش والسديمية (التساوي في العبودية). لذا سجن البعثيون وقتلوا: البعثيين والاسلاميين واليساريين، وذوّب الناصريون الشيوعيين بالأسيد، واغتال الإسلاميون البعثيين والشيوعيين، فنكص مجتمعنا إلى ما قبل تاريخه الكولونيالي، وعادت “السياسة” ترتدي سحنة مملوكية – سلطانية.

الثورة السورية التي أتمت عامها الأول على خط مغاير لهذه الحقبة، التظاهر السلمي والإضراب في مواجهة عسكرة الحياة السياسية، التظاهر السلمي يعيد الاعتبار الى مفهوم الشعب، الكتل المهمشة تعود إلى مسرح التاريخ كذات فاعلة، يترنح أمام دخولها مفهوم الطليعة، وفكرة الحزب القائد، وكل المنظومات الايديولوجية المغلقة، المعارضة والموالية، تتساقط على حواف الثورة.

الثورة السورية، ثورة أطفال المدارس، وحنجرة المغنّي، وأصابع الفنّان، وعيّن المصور، يحكمها توق “برومثيوسي” لإنتاج وطنية سورية مفتوحة على آفاق إنسانية رحبة، تحررها من أعباء “الدور الإقليمي”، وشعارات ما فوق الوطنية وممارسات ما تحتها.

كانت الشعارات المتصلة بقضية الدولة هي الأبرز في شعارات الثورة: “لا سلفية ولا أخوان بدنا دولة مدنية”، “لا إيران ولا حزب الله، بدنا دولة تخاف الله”. التظاهر السلمي يرفض “الدولة” الدينية، و”دولة” الحزب القائد، ويرفض كل “أدلوجات الدولة”، ويعود إلى التمسك بعموميتها، ونزع الصفة الجزئية عنها، كباقي شعوب الأرض. أليست نظرية الدولة وتطبيقاتها هي ذروة الحداثة؟

هذا الانحياز، انحياز الثورة لقضية الدولة، يترافق مع انحياز آخر لمفهوم الشعب بالمعنى السياسي، بما يطمح إلى تجاوز حالة الرعوية والسديمية، وحالة “المخلوطة الاجتماعية”، ويطمح إلى فكفكة تعشّق الاستبداد مع تحاجزات النسيج المجتمعي. تالياً، تأكيد الحراك الشبابي على شعارات: الحرية، الكرامة، المواطنة، “الشعب السوري واحد واحد”، “لا للطائفية”،…

يؤسس ذلك مقدمات لصوغ عقد اجتماعي جديد، بين مواطنين أحرار متساوين أمام القانون. أليس تشكيل عقد اجتماعي جديد، على أساس مبدأي الحرية والمواطنة، معلماً بارزاً من معالم الحداثة؟

إن اندماج مفاهيم الدولة، الشعب، العقد الاجتماعي، الوطنية السورية، الحرية، المساواة، مع الانتفاضة الشعبية، يجعل “الحداثة” الهجينة والنغلة المنجدلة على حبال الاستبداد، تتهافت وتزداد هامشية واستلاباً.

هذا المستوى الحداثي من الشعارات المندمج مع الحركة الشعبية، يتعالق ويتجادل مع مستوى آخر من الشعارات، له بعد صوفي وأخلاقي: “الله أكبر”، “الله وسوريا وحرية وبس”، “يا لله مالنا غيرك يا لله”، “بدنا دولة تخاف الله”. الانتفاضة الشعبية لم تردد هذه الشعارات في سياق ديني دوغمائي، بل ردّدها شباب الـ”فايسبوك” في المدن والمهمشون في الأرياف، أطفال المدارس وطلبة الجامعات، صبايا محجبات وغير محجبات، من مختلف التيارات والانتماءات.

رددت حناجر الشباب هذه الشعارات، لإعادة تأسيس “المطلق الأخلاقي” في مجتمعنا، بتعبيرات الراحل إلياس مرقص: “من ليس عنده في روحه وفي فكره المطلق، يحوّل نسبيه إلى مطلق وذلكم هو الاستبداد”.

مع غياب الدولة والقانون والحرية في الحقبة الماضية، غابت فكرة “المطلق الأخلاقي”، الذي يشكل حداً على نسبيات المستبدين وعلى أوهامهم وأوثانهم. لذا صار القائد “مطلقاً”، والحزب “مطلقا”، والقومية الفارغة “مطلقا”، والسلطة مطلقة. فكان التوقد الصوفي في صيحات المتظاهرين لشعار “الله أكبر”، ضرورياً، لمواجهة تغوّل الاستبداد ومواجهة ذلك الكم العاري من العنف، وشحن إرادات المتظاهرين، وتقوية عزائمهم، ومواجهة التركز الكثيف للمصالح الإقليمية والدولية في سوريا. الله أكبر من الاستبداد والمستبدين، وأكبر من القادة التاريخيين، وأكبر من الإيديولوجيات جميعها. يصير للسياسة، مع الثورة، حظوظ راهنة، بأن تنعتق من أسر الإيديولوجيا، وتتقدم صعوداً نحو العمومية، ونحو الاندماج مع المجال الأخلاقي، ونقل التعارضات الاجتماعية من ميدان الصراع والاحتراب إلى ميدان التسويات السلمية في إطار القانون. كذلك فإننا نلحظ في شعارات، “الله وسوريا وحرية وبس”، “لا إيران ولا حزب الله بدنا دولة تخاف الله”، ذات الملمح الصوفي، الذي يعي بمعنى أو بآخر أن سمو الله يجب أن يكون مؤسساً لسمو الدولة، وسمو القانون، وسمو الحرية، أيضاً كما يقول الراحل إلياس مرقص، فالشعوب التي لا تعرف الدولة والقانون والحرية، لا معنى لحضور الله في حياتها، ولا معنى لإيمانها الذي غالباً ما يكون إيماناً دوغمائياً، يفتقر إلى الجوهر الروحي والبعد الأخلاقي.

الثورة السورية أفصحت عن هذين البعدين، البعد الروحي والأخلاقي، والبعد المدني. لا يغير هذه الحقيقة قيام ظاهرة “الجيش السوري الحر”، التي كانت نتيجة لوضع الجيش النظامي في مواجهة الشعب. هذان البعدان مؤسسان على اعتدال السوريين وتسامحهم، فالسوريون، مثلاً، لا يعرفون قبر ابن تيمية الموجود في دمشق، لكنهم يزورون قبر محيي الدين بن عربي الموجود في حي كبير باسمه في عاصمتهم.

لذا تتنازع الوضع السوري بعد عام من انطلاق الثورة جدليتان:

أ – جدلية الحداثة والتصوف التي تشكّل خطاً مميزاً في الثورة، وتعني التكور حول الوطنية السورية، بما يعني ذلك: وضع الدولة – الأمة، وإعادة صوغ العقد الاجتماعي على أساس الحرية والمواطنة وسيادة القانون، والانتقال إلى السياسة بصفتها العامة والمؤسسة على الأخلاق، أفقاً للانتفاضة السورية.

ب – جدلية تعالق الاستبداد وتشابكه مع ظاهرة نقص الاندماج الوطني، ومع الأوضاع الإقليمية، ومع التنظيمات والتيارات المذهبية والظلامية، ومع المصالح الخاصة الأسطورية، التي تفتح الوضع الداخلي على التعفن واحتمالات الحرب الداخلية.

السوريون، حتماً، منحازون إلى الجدلية الأولى، التي نأمل أن يسمح التاريخ بتحقيقها.

لا يزال الطريق طويلاً

إياد العبدالله

واقعتان حصلتا في مدينة دمشق في شهري شباط وآذار 2011، تعكسان المضمون الحقيقي الذي سيميز قيامة السوريين في آذار من العام نفسه. الأولى حصلت يوم 17 شباط، الثانية يوم 16 آذار.

على إثر قيام عناصر من شرطة المرور بضرب أحد الشبان في حي الحريقة الدمشقي، يوم 17 شباط، تجمع عشرات الشبان لنجدته، والمطالبة بالإفراج عنه. الهتاف الرئيسي الذي ردده هؤلاء الشبان كان “الشعب السوري ما بينذلّ”! يوم 16 آذار، حصل تجمع لأهالٍ وناشطين، أمام مبنى وزارة الداخلية للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين السياسيين. قوبل هذا التجمع السلمي بوحشية وعنف لم يفرق بين كبير وصغير، وتم اعتقال العديد منهم على أيدي رجال الأمن السوري. الدلالة التي يمكن استخلاصها من هاتين الواقعتين، تجد في “الكرامة والحرية” عنواناً لها. لن تتأخر حناجر السوريين لتؤكد هذا العنوان. ففي درعا، حيث انطلقت الشرارة الأولى للثورة السورية، كان الهتاف الذي أطلقه المتظاهرون: “الشعب السوري مو جوعان”! رداً على الإجراءات التي بادرت إليها السلطة لمواجهة الاحتجاجات في البداية، كزيادة الرواتب مثلاً؛ والتي أظهرت احتقاراً وتجاهلاً سافراً لحقيقة قيامة السوريين.

شكّل ارتباط الثورة السورية بهذه المضامين صفعة للنظام، لأنها ستكون المدخل إلى تفكيك شرعيته التي عمل على تكريسها عبر احتكار قيم الكرامة والحرية والوطنية. فسوريا الحرة والكريمة والوطن، على مدار عقود، هي ليست شيئاً آخر سوى “سوريا الأسد”. فـ “الأسد” هنا، هو هوية سوريا الحديثة، خبرها الذي أعطاها حضوراً ومعنى، محمولها الذي ما إن استغرقت فيه حتى انتقلت من طور الهيولى إلى طور الهوية والوجود، من الضعف إلى القوة، من لعبة بين الأمم والدول إلى حصن تتكسر على أعتابه جميع المؤامرات. وفق هذا التصور، فإن سوريا الوطن لا يمكن أن تكون ديموقراطية، لأن الديموقراطية علامة على التشتت والضعف، وما على المجتمع سوى نكران ذاته والترفع عن مصالحه والالتحاق بالنظام حتى يغدو وطنياً. فالمجتمع المحكوم عليه بالوطنية، هو ذلك المجتمع الذي لا شخصية له ولا استقلالية.

لم يتزحزح النظام السوري في مواجهته لانتفاضة السوريين عن مألوف خطابه وعاداته. فالحديث عن المؤامرة ضد سوريا، كان حاضراً منذ اللحظة الأولى. أدوات هذه المؤامرة كانت جماعات سلفية في البداية، ليتطور الأمر إلى عصابات مسلحة لا هوية لها، تحرّكها لذة القتل الذي يهدف في النهاية إلى بث الفوضى والدمار في أنحاء البلاد. على الأرض، الحل الأمني كان خيار السلطة الوحيد في مواجهة انتفاضة السوريين. الآن، وبعد مرور عام على قيام هذه الانتفاضة وحيث لم يستطع النظام القضاء عليها، ولا استطاعت هي تحقيق أهدافها التي لا إمكان لتحقيقها إلا عبر إسقاط النظام؛ نستطيع أن نؤكد أن توازناً في القوى بين الاثنين هو ما يميز واقع الحال. بعد مرور عام على اندلاع الثورة، ثمة معادلة هي على الشكل الآتي: النظام لا يزال متماسكاً لكنه غدا ضعيفاً، ومن ناحية أخرى، فإن إرادة الثوار على الأرض لا تزال قوية ومتماسكة، إلا أن المعارضة التي يفترض أن تكون الغطاء السياسي للثورة، ضعيفة وهشة ومبعثرة.

عوامل عدة تكاتفت كان لها تأثير مزدوج، فهي من ناحية سهّلت للنظام الاستمرار في خياره الأمني في قمع الثورة السورية، ومن ناحية أخرى وقفت عائقاً أمام تطور الثورة وتحقيق أهدافها. منها الدعم الذي أظهرته مؤسسة الجيش والأجهزة الأمنية، ومعهما الجهاز الديبلوماسي، للنظام، وهو ما لم نشهده في الدول العربية التي عاشت ربيع إسقاط أنظمتها. وكذلك وجود قاعدة شعبية موالية للنظام، أو صامتة، غالبيتها من الأقليات الدينية والطائفية التي تعيش خوفاً وقلقاً على مستقبلها في حال سقوط النظام، ووقوف بورجوازية المدن الكبرى في حلب ودمشق معه، وهي التي استفادت من سياساته الاقتصادية التي أقرّها في السنوات الأخيرة، ما انعكس في تأخر انضمام هذه المدن إلى الثورة. لا تزال ماثلة حالة الاقتتال الأهلي والدماء التي سالت في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، ما أدى إلى هجرة مئات الألوف من العراقيين، وتوزعهم في بلدان العالم، حيث كان نصيب سوريا منهم ما يفوق المليون. إن احتمال مصير مشابه في سوريا، هو مصدر قلق لدى قطاعات شعبية واقتصادية لا بأس بها من السوريين، وبدوره عمل النظام عبر إعلامه و”مثقفيه” على التلويح بمثل هذا المصير في حال سقوطه. وأيضاً، فإن حالة عدم الاستقرار التي تمر بها بعض دول الربيع العربي، ووصول الإسلاميين إلى السلطة في تونس ومصر، والتوترات الطائفية التي حصلت في هذه الأخيرة بين مسلمين وأقباط، وتحول جماعات مسلحة في ليبيا إلى قوة لا تستطيع السياسة السيطرة عليها أو توجيهها…، هذه الأمور مجتمعة، تبعث هي الأخرى على القلق عند نخب وقطاعات سورية، ويلعب النظام عبر إعلامه ومثقفيه دوماً على تسليط الضوء عليها. دولياً، ثمة دعم واضح وصريح من إيران وروسيا والصين للنظام السوري. بالنسبة الى إيران، فهي تعلم تماماً أن سقوط حليفتها السوري سيكون كارثياً لها. فهو يعني عزلها وإبعادها عن أهم الملفات الحاسمة في الشرق الأوسط، كالصراع العربي ـ الإسرائيلي وعملية السلام، وخصوصاً أن تحالفها مع النظام السوري أتاح لها أن تصل إلى الحدود الإسرائيلية عبر دعمها لـ”حزب الله” اللبناني ووصولها إلى داخل الأراضي الفلسطينية من خلال حركة “حماس”. بالنسبة الى روسيا، ثمة أسباب عدة وراء مواقفها الداعمة للنظام السوري، قد يكون من بينها ما هو معنوي يكمن في حساسية لا تزال موروثة من الحقبة السوفياتية تجاه الغرب الذي وسّع من نفوذه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي إلى مناطق في أوروبا الشرقية كانت تعتبر مجالاً حيوياً لروسيا. ثمة حساسية روسية إزاء تركيا، الجارة المسلمة وحليفة الغرب. إذ إن سقوط النظام السوري يعني أن دوراً تركياً مميزاً سيكون في سوريا الجديدة، وخصوصاً أنها حاضنة للمجلس الوطني السوري، التنظيم الأكثر تمثيلاً ووزناً في المعارضة السورية، ولقيادة “الجيش السوري الحر”، وعلى علاقة وثيقة مع “الأخوان المسلمين” الذين يعتقد أن حظوظهم كبيرة في الوصول إلى السلطة في سوريا ما بعد سقوط النظام. وهذا ما لا ترتاح له روسيا، صاحبة التجربة المريرة في الشيشان. ثمة جانب اقتصادي أيضاً يكمن وراء موقف الروس وهو صفقات الأسلحة مع النظام السوري، وخصوصاً بعدما فقدت روسيا السوق الليبية.

على الجانب الآخر، الذي يستنكر على النظام أفعاله محاولاً تقديم الدعم للثورة السورية، ثمة ما يقال أيضاً. بالنسبة الى الجامعة العربية ودول مجلس التعاون الخليجي (السعودية وقطر خصوصاً) بالإضافة إلى تركيا، فقد بان بشكل جلي أن الدور الذي يمكن أن يضطلع به هؤلاء محدود إلى حد كبير، وكل تطور في هذا الدور مرهون بتدخل دولي أكثر فاعلية في “المسألة السورية”. إلا أن هذا الأخير يبدو محدوداً بدوره، فالولايات المتحدة تنأى بنفسها حتى الآن، عن القيام بمغامرة جديدة في الشرق الأوسط بعد فشلها في العراق، وخصوصاً أن الانتخابات الأميركية باتت على الأبواب. فرنسا أيضاً على أبواب انتخابات رئاسية تجعل ساركوزي شديد الحذر هو الآخر. إن ما نتج من قرارات في مؤتمر “أصدقاء سوريا” الذي عقد في العاصمة التونسية أخيراً، يعكس سقف التحرك الذي يستطيعه أو يرغبه هؤلاء.

ما سبق يجد كمالته في ذلك الأداء الهزيل للمعارضة السورية التي فشلت حتى الآن في أن تكون على مستوى وقائع الثورة السورية وتطوراتها. تدّعي “هيئة التنسيق الوطنية” في سوريا أن رؤيتها في مقاربة الحاضر السوري ومآلاته تنطلق من مبادئ تتعلق بصون الاستقلال والسيادة الوطنية، لتصل إلى ضرورة الحذر من أي تدخل دولي في الشأن السوري والتشكيك فيه، مقررةً أن القوى الذاتية للثورة قادرة على إسقاط النظام وبناء الدولة الديموقراطية. لكن هذه الهيئة التي تؤكد أهمية التعبئة الشعبية، فشلت فشلاً ذريعاً في أن يكون لها موطئ قدم يعتدّ به على الأرض. إضافة إلى أن تصورها هذا يتغافل عن مقدرة النظام على المناورة التي برع فيها على امتداد عام من عمر الثورة. في المقابل، كان أداء “المجلس الوطني السوري” محبطاً وقليل الفاعلية، على الرغم من إجماع غالبية الثوار على تمثيله لهم. أغلب أعضاء المجلس الوطني هم من الليبيراليين والإسلاميين، الذين ذهبوا إلى أن لا بديل من إسقاط النظام بأي وسيلة كانت، وإلا فإن البلاد ذاهبة إلى مصير قوامه الدمار والتفكك. أمام القمع المتصاعد للنظام، دعا المجلس الوطني إلى تدويل المسألة السورية، وتوفير ملاذات آمنة وصولاً إلى التدخل العسكري ودعم “الجيش الحر”. بالطبع، لم يبلور المجلس وجهة نظر واضحة حول حدود التدويل والعسكرة وأخطارهما. هذا عدا التشرذم الواضح بين مكوّناته التي تتجلى في تصريحات أعضائه التي تصل إلى حد التناقض أحياناً.

لقد شهدت الأشهر الأخيرة من عمر الثورة، تراجع دور التنسيقيات التي كانت فاعلة على الأرض، من حيث إشرافها على نشاطات مختلفة كتنظيم التظاهر والدعوة إليه وإيجاد آليات الصمود أمام ردود فعل أجهزة النظام الأمنية. لقد تم استنزافها عبر حملات الاعتقال والملاحقة التي طالت كوادرها. بالإضافة إلى أن انتشار مزاج يدعو إلى مواجهة النظام بالسلاح وصعود نجم “الجيش السوري الحر” الذي أخذ على عاتقه هذه المهمة، أفسح المجال أمام تصدر الراديكاليين، وتراجع التنسيقيات التي كانت من إبداع الثورة في حقبتها السلمية.

إن تكاتف هذه الوقائع المذكورة أعلاه، ضاعف من فاتورة الألم وسهّل للنظام المضي في خياره الأمني والعسكري للقضاء على الثورة، وأشاع مناخاً من الإحباط والقلق عند ناشطين سوريين. إلا أن نقطة القوة في الثورة، هي أن النظام انتهى وسقط في أذهان كثير من السوريين. لقد أصبح جسماً غريباً يسعى الثوار لإزاحته. إن تبنّي ثوار الأرض علم الاستقلال، ينطوي على بعض الدلالات التي تؤكد هذا الطلاق النهائي مع النظام. إنه استعادة رمزية أراد من خلالها الثوار أن يضفوا على ثورتهم طابعاً تحررياً يحاكي حركات التحرر الوطني التي ناهضت الاستعمار الكولونيالي وسعت إلى تحرير البلاد منه.

فلنسحق الخسيس!

ياسين الحاج صالح

لا يصلح عدد شهداء الثورة السورية، وقد تجاوز تسعة آلاف، مقياساً وحيداً، ولا أساسياً، لفظاعة الشرط المفروض على سوريا، مجتمعاً ودولةً ووطناً، على يد نظام الاحتلال الأسدي. هذا الرقم مهول في حد ذاته. فهو يتجاوز عدد شهداء الثورات التونسية والمصرية واليمنية والبحرانية، ومعهما ضحايا الحربين الإسرائيليتين على لبنان صيف 2006 وغزة بين 2008 و2009. فوق أن المقتلة مستمرة، هناك أضعاف هذا العدد الآن من المعتقلين، كثرٌ منهم يُعتقلون للمرة الثانية أو الثالثة، يتعرض أكثرهم لتعذيب مفرط القسوة، ممتزج بالكره والتشفي، فضلاً عن جرحى يتعذر إحصاء أعدادهم، لكنها تقدَّر بما بين 4 و5 أضعاف عدد الشهداء. فضلاً أيضاً عن لاجئين في تركيا ولبنان والأردن يتجاوز عددهم 20 ألفاً حتى اليوم. معهم عدد كبير ممن هجروا البلد، أفراداً وأسراً، من دون أن يكونوا لاجئين، أكثرهم من مستوى تعليمي عالٍ ومن الطبقة الوسطى، ما يمثّل خسارة وطنية كبيرة.

1

تعداد الضحايا أمر بغيض، فكل حياة بشرية فريدة ولا تعوَّض. مع ذلك، فإن هذه الخسائر الأليمة المنظورة ليس إلا أظهر ما أصاب سوريا على يد نظام الاحتلال. أقلّ منها ظهوراً التحطيم الفعلي لشروط الحياة المادية في عشرات المواقع، وتراجعها الحاد في البلد ككل، مع التدهور الاقتصادي المتسارع (خسرت الليرة السورية نحو ثلاثة أرباع قيمتها حتى اليوم أمام الدولار الأميركي) ومستوى الحياة لأكثرية السكان. لا يكاد يكون خفياً أن ما تسببت به المقتلة المفتوحة من تدهور شروط الحياة السياسية يلغي أي إمكان للمصالحة مع النظام، الجهات السياسية والأمنية التي قررت الحرب، وقتلت وعذّبت وهجّرت عشرات ألوف السوريين. وأكثر حتى من شروط الحياة المادية والسياسية، ما جرى تقويضه فعلاً خلال عام من مواجهة النظام للثورة، هو شروط الحياة الأخلاقية التي تجعل من بلد ما وطناً، ومن سكّان شعباً. أعني وحدة المشاعر أو تقاربها، والتقويم المتقارب للأوضاع المتطرفة. كانت شروط الشراكة الوطنية متواضعة دوما في “سوريا الأسد”، لكنها بلغت حضيضاً رهيباً غير مسبوق من التدهور بعد عام من الثورة.

رأينا أمثلة على القسوة الوحشية وعلى تحطيم الرابطة الوطنية عبر المعاملة الاستعمارية لسكان المناطق الثائرة، وعلى الإبادة الرمزية للمجتمع الثائر (إجبار أناس على تأليه بشار وأخيه). وهي تكفي للقول إن ما يجري قتله عمليا هو سوريا، في ما وراء قتل ألوف السوريين وتنكيد عيش جميعهم. ولقد تكفلت وسائل الإعلان الحكومية نشر الكراهية وإعداد مناخات القتل الرمزي، فكانت معادلاً للقتل الفعلي الذي تثابر على القيام به قوات الاحتلال.

قد تكون لغة قديمة القول إن بلداً يجري فيه كل هذين العنف والكراهية بلد ملعون. لكن هناك شيئاً قديماً فعلاً في نوعية تعامل النظام الأسدي مع رعاياه المناكيد، منطق الاستعباد الملوكي للسكان والإنكار الجوهري للحرية عليهم. كان حافظ الأسد هو الحر الوحيد في نظامه، على نحو يصادق على حكم هيغل السلبي عن الشرق. اليوم هناك عائلة حرة. قبل أيام قليلة فقط استفتي السوريون على دستور يقول إن رئيس الجمهورية “غير مسؤول” عما يفعل، عدا حالة الخيانة العظمى التي يحتاط الدستور نفسه لجعل اتهامه بها مستحيلاً. هذا الحرص الوسواسي على تحصين يد العاهل وإطلاقها، يتعارض مع فكرة الدستور نفسه كنظام من الضوابط المانعة لتوسع السلطة، والحامية لحريات الأفراد وحقوقهم. هذا ليس حتى مبدأ “فوق دستوري”، بل هو معنى الدستور ومبرره. ما وجه لزوم الدستور إن كان الحاكم مطلق اليد، ليس مسؤولاً عما يفعل؟

يتميز هذا النظام الملوكي أيضا بخلوّه الجوهري من العدل والحس الإنساني، ويمتلئ في المقابل بالكراهية والعنف. وعلى رأس الحكم في البلد أشخاص يجمعون بين القوة والغربة الكلية عن أي قيم، وطنية أو إنسانية أو دينية. إن كان من “فضيلة” للحكم الأسدي منذ بدايته فهي الخسة، التعامل بقسوة وتشفٍٍّ مع المحكومين، كأن للحاكم ثأرا عليهم، واللاتسامح واللاعفو الجوهريين أيضاً. لا يعرف السوري المنفتح القلب مثالاً واحداً على سماحة نفس حكّامه، ولم يمر يوم واحد خلال أربعين عاما شعر فيه بعطفهم عليه أو بوحدة حاله معهم، أو بغيرتهم المخلصة على مصالحه وكرامته. تختزن ذاكرة كل سوري في المقابل عشرات الأمثلة على الرقابة والتنغيص والإذلال، جعلته صغيراً في وطنه وخارجه، مستبطناً فقدان الكرامة، وله نفسية العبد (هل ما يعرضه “معارضون” من استعداد لا يكل لنهش معارضين غير مؤشر إلى نفسية العبيد؟).

هذا كله منبع شؤم ونذير بخراب عميم، يبدو أن سوريا بقيادة بشار الأسد تسير نحوه بعينين مفتوحتين. “اللعنة” سمة لعالم تتمايز فيه مراتب الناس جوهرياً. وفي هذه العالم ثمة أيضا “الفتنة” و”الأبد”. و”السلطان”. و”القدر”. عالم الجواهر أو الماهيات الثابتة.

الأصل في هذا كله هو واحد من أثبت ثوابت الحكم الأسدي: رفض الأخذ والعطاء مع السوريين وإنكار أهليتهم السياسية. إنهم “رعايا”، عبيد سياسياً. وهذا معنى قديم وسلطاني للسياسة، كان مفضياً للخراب في القديم، وهو أكثر إفضاء إليه اليوم، على ما رأينا من مثالَي العراق وليبيا القريبين. يستهلك الحكم السلطاني الزمن ولا ينتجه، لذلك عمره (الأبد) لا يطول كثيراً، وينتهي بالخراب، وليس بالتحول أو التطور أو الطفرة. من غير المحتمل أن يتغير بالسياسة والعقل نظام لا يشرك محكوميه في السياسة والعقل. الأرجح أن يتغير بالقوة، وعبر خراب وطني واسع.

2

بعد عام من الثورة، قد يمكن القول اليوم إن سوريا اليوم في حالة التهاب سياسي شديد. قادت القسوة والكراهية والعدوان وانعدام العقل والعدل إلى تشدد متصاعد في المجتمع، وإلى مناخات من التصلب النفسي والقطيعة والعداوة. ميزان العدالة المختل طوال عقود، يفسح المجال اليوم لروحية القصاص أو الانتقام. القدرة على عقلنة الانفعالات العامة وضبطها، محدودة اليوم، ما دام نظام الاحتلال مستمراً في عدوانه. لكن أيضاً، لأن ما تعرّض له المجتمع السوري من تجفيف سياسي وأخلاقي مديد حرمه من قيادات سياسية وأخلاقية موثوق بها، كان يمكنها أن تكون كلمتها مسموعة في ضبط النفوس والانفعالات.

ليس من المحتمل أصلاً أن تظهر أدوار ضابطة ومعقلنة إن لم ينته هذا العدوان المستمر. ينبغي سحب السكّين من الجرح أولاً، من أجل معالجة الجريح، وتهدئة نفوس ذويه. من تجربتنا اليومية طوال عام من الثورة، نعلم من نفوسنا وممن حولنا أن كل مذبحة جديدة تطيح أصواتنا الأهدأ والأكثر ودية من نوازعنا، وتقلل من فرص أن يستمع إليها أو يتقبّلها أيٌّ كان.

ليس هناك فرصة للتعافي السوري من دون التخلص من الحكم الخسيس. أقرب أحسن. ستواجه سوريا مشكلات إعادة بناء مادية وسياسية ومعنوية بالغة المشقة، لكنها ستكون تخلصت من عامل تسميم دائم لكيانها الوطني. مشكلات إعادة البناء قائمة في كل حال، وستزداد تعقيداً وعسراً كلما طال أمد بقاء النظام.

هل التسوية ممكنة؟ بعد سنة لم يفتح لها النظام وحلفاؤه باباً. تكوينه الخسيس لا يقبلها إلا حين تكون خياراته الأخرى أسوأ. ثم أنه ليس هناك مبدأ أخلاقي يسبغ عدالة متسقة على القبول بتسوية مع نظام يقتل محكومه ويقتل البلد الذي يحكمه.

هل هناك عدالة عليا يمكنها أن تسوّغ تسوية غير عادلة مع النظام؟ مثلاً سلامة كيان سوريا مقابل حصانة بشار الأسد وعائلته، وخروجهم من الحكم والبلد، على ما اقترح الرئيس التونسي قبل حين؟ لا يبدو أن النظام مستعد لذلك أو سيكون مستعداً في أي وقت. هناك عنصر انتحاري في تكوينه وسلوكه، سبقت رؤية مثله عند صدام حسين ومعمر القذافي. لعله يقوّي قلبه على ذلك كل من إيران و”حزب الله” اللذين تخرج علاقتهما مع النظام منذ بداية الثورة من إطار مفهوم التحالف إلى ارتباط عضوي يجعلهما مكوّنين بنيويين للنظام، مادياً وأمنياً وعسكرياً، وسياسياً طبعاً. حتى لو وجد تحكيم عدالة عليا تصون تكامل البلد مقابل حصانة القتلة آذانا صاغية في أوساط الثورة السورية، فإن من غير المحتمل أن تقبل من النظام السوري الإيراني الحزب الهي.

3

ما ستكون حال سورية بعد عام  من اليوم؟

لا يَصدُق تنبؤ بالمستقبل، لكن قد يكون من شأن تقدير الاحتمالات أن يساعدنا على التوجه في الراهن.

الأسوأ هو تمادي الأزمة. النظام هو الطرف الأقوى كحاله اليوم، ويثابر على حملاته التأديبية هنا وهناك، لكن من دون أن يكون قادراً على استعادة السيطرة. هناك أوضاع اقتصادية صعبة جداً، وانهيار في الخدمات العامة، وانتشار الفقر والجوع، وعنف يومي يدفع ثمنه الأضعف والأقل حصانة من السوريين، على نحو ما هي الحال اليوم.

يتوافق هذا الاحتمال مع تحول سوريا إلى ساحة، حيث ينال النظام دعماً حاسماً من أحبابه، وتنال المعارضة دعماً غير حاسم من دول عربية وأجنبية.

احتمال ثانٍ يتمثل في تسوية قريبة أو “حل يمني”: يخرج بشار الأسد، وربما بعض الرؤوس الأمنية، لكن يبقى النظام. تحصل المعارضة على تمثيل في الحكم، لكنه غير مؤثر فعلياً. نحصل على بلد ضعيف وجريح، تبقى المخابرات فاعلة فيه، وللعديد من القوى الإقليمية والدولية أصابع في حياته السياسية. سيكون الحل اليمني باب تدشين لحقبة جديدة من “الصراع على سوريا”.

احتمال آخر أن يجري التخلص من النظام بمزيج من الفعل الداخلي، المدني والعسكري، ومن التدخل الدولي المؤثر الذي قد يكون عبر تسليح “الجيش الحر”. لكن ستكون هذه معركة إقليمية معقدة، تتجاوز سوريا ليمتزج فيها الإقليمي بالطائفي بالدولي: ضرب من حرب عالمية مصغرة.

إن تم التخلص من النظام وفقاً لهذا الاحتمال، فسنكون في مواجهة أوضاع سياسية مضطربة أيضاً، تتقابل فيها قوى علمانية وإسلامية، ومقاتلون وسياسيون، فضلاً عن تأثير قوى إقليمية ودولية متنوعة، وطبعاً مشكلات إعادة البناء الوطني المعقدة.

نستبعد احتمالين: استعادة النظام للسيطرة العامة وفرض “السلام الأسدي” على سوريا، أي تجديد شباب الحكم الملوكي الاستعبادي، وتحول النظام صراحة إلى حكم للشبّيحة؛ نستبعد أيضاً للأسف التخلص الذاتي والنظيف من النظام، العائلة والمخابرات والمال (والروابط الإقليمية العصبية التي أصبحت مكوّناً عضوياً للنظام)، والبدء من أوضاع صعبة بعملية إعادة بناء وطني، تسير بسلاسة، لكنها شاقة من كل بد. بعد كل هذا الدم والغضب والتحطيم الدؤوب لأسس الحياة الوطنية، المادية والسياسية والأخلاقية، لم تبق فرصة لهذا الاحتمال.

4

لقد أمسك التاريخ بتلابيبنا، لا يتركنا ولو تركناه، وهو يسوقنا بكلفة باهظة عبر منعرجات لا نتحكم بها، ولا نكاد نؤثر فيها. النفوس تتمزق مثل المجتمع، ومثل البلد. كل الشياطين القديمة تصحو مزودةً أسلحة جديدة. بين ما هو مطروح علينا من خيارات، ليس ثمة ما لا يطرح معضلات سياسية وأخلاقية، وليس هناك مخارج آمنة من محنتنا الوطنية والإنسانية المديدة. نعرف المخرج الأكرم: لا بد من الخلاص من الخسيس العام. لكن الطريق إلى الخلاص وعرة، وهي تورط العالم كله في صراعنا. يا له من تشريف ليتنا أعفينا منه!

قبل نحو قرنين ونصف قرن هتف فولتير: فلنسحق الخسيس! كان يعني الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية، وكانت منبعاً للتعصب والفساد في حينه. منبع الخسة في بلدنا هو نظام ملوكي استعبادي، لن يستقيم لنا أمر من دون التخلص منه، وسيسحقنا جميعا إن لم ينسحق. فلنسحق الخسيس!

ملحق النهار الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى