صفحات العالم

عام على الثورة: كشف المستور

 

غازي دحمان

مر على الثورة عام، كان فيه الكثير من الألم والشجن والحزن، لكنه عام عودة الروح التي تيبست في قلب جمهورية الخوف العتيدة لدرجة صار معها الإعتقاد أن افق الروح، حتى وإن غادرت الجسد، لن تتجاوز أقبية المخابرات.

مر عام على الثورة عانق فيه الأمل حدود الخيال، صار كل شيء ممكناً، ليس فقط كسر حواجز الخوف، ولا مقابلة الرصاص بالأجساد العارية، تلك حالة إنخرط فيها السوريون وهم يرددون الاهازيج، ولكن الحلم في ان تصبح سورية وطناً للامان والعدالة والمساواة، تلك المعاني التي ماتت دونها أجيال وهي تعتقد أنها مجرد احلام صيرها حكم العسكر إلى كوابيس.

وبجردة حساب بسيطة، أنجزت الثورة حتى اللحظة الكثير، وإن الباقي المتمثل بإسقاط النظام، هو القليل الباقي. فبرغم كل الموت الذي حصل على ضفافها، ورغم كل الأسى الذي طاولها، من نزوح وإخفاء وجرحى وآلام السجون، فإن الثورة صنعت في مخاضاتها العسيرة سوريين جدداً غير أولئك التي سعت مؤسسات الإستبداد إلى تهجينهم وجعلهم مقيمين دائما في حصن الإستبداد العتيد.

السوري الجديد كان اهم إنجازات الثورة وأروع تجلياتها، فهذا الكائن المولود في أرض الإستبداد والذي رضع حتى الثمالة من ثدي الديكتاتورية ونشأ وترعرع في حضن مؤسسات التدجين الأمني، أعلن فجأة براءته من كل ما أحاط به قبل الثورة، ثم إعتذر حتى عن خضوع آبائه وأجداده لإرادة المستبد وهواه، وقاد بكل إقتدار ثورة، لا شك أنها ستمثل تجربة جديدة في إطار ثورات الشعوب ضد مستبديها.

ولعل القدرة على الإحتمال ومواجهة المصاعب، وإرادة التضحية في سبيل الخلاص، هي أبرز سمات هذا السوري الجديد. لكن هذه السمات، على أهميتها، لا تخفي حقيقة رغبة هؤلاء السوريين إلى عوالم الحداثة والعصرنة، ويبدو ذلك جلياً عبر القدرة التنظيمية الهائلة التي تميز بها الحراك السوري، وهي قدرة ينطبق عليها وصف السهل الممتنع، بحيث انها بقدر ما قد تبدو للناظر لها على أنها أشبه بحراك فوضوي لا رأس له، بقدر ما تصبح عصية على الكسر لما تتضمنه من مرونة في الأداء والتنظيم تصبح معها حتى معرفة مفاصلها الأساسية أو محاولة إختراق أي من مكوناتها أمراً معقداً أمام جمهورية الأجهزة الأمنية العديدة والعتيدة.

ولعل، أيضاً، من مؤشرات ميل السوري الجديد للحداثة، تمسكه بالدولة المدنية شعاراً وممارسة. وعلى الرغم من وجود بعض الأطياف الفوضوية او الما قبل دولتيه على هامش الحراك السوري، ورغم كل محاولات النظام حرف الثورة عن مساراتها عبر خلق مسارات بديلة ذات طوابع طائفية وعشائرية، فإن الثورة أصرت على سلميتها ومدنيتها، وثمة من يحاول في هذا الصدد خلط الأوراق عبر محاولة دمج حالة الإنشقاق العسكري واعتبارها احد مكونات الثورة ومن ضمن توجهاتها ومآلاتها وهو ما بات يطلق عليه «عسكرة الثورة «. إلا ان واقع الأمر ان المسؤول عن هذه الحالة هوالنظام نفسه عبر إشراك الجيش في قمع الثورة، إذ لطالما جرى تحذير النظام من هذه الخطوة وأثرها في إمكانية إنقسام الجيش، وكأن النظام كان يسعى إلى خلق هذه الحالة!

ومن منجزات الثورة السورية المهمة، كشفها وتعريتها للنظام، أخلاقياً وقيمياً. إذ بالرغم من ان القاصي والداني كان يعرف مثالب النظام في الفساد والإستبداد، إلا أن هذا النظام لطالما زاود على المنطقة برمتها، وليس على شعبه وحسب، بوطنيته وقوميته وممانعته، لدرجة أنه ربح المعركة في هذا المجال وبحكم الأمر الواقع، أو كما يقال باللغة الدارجة «بالخاوة « حتى أنه نفذ من فضائح « ويكيليكس « الشهيرة، والتي يعود السبب الرئيسي فيها إلى إنخفاض مستوى علاقاته الدبلوماسية مع واشنطن في السنوات الاخيرة والإكتفاء بالعلاقات الامنية البعيدة عن مراسلات الخارجية الأمريكية ووثائقها.

لكن الثورة بصمودها وإستمرارها وضراوتها كشفت اللثام عن حقيقة هذا النظام، وطبيعة علاقاته الخفيه، ولا وطنيته أو قوميته، وحتى الفكرة التي ترسخت زوراً في عقول الناس عن براعته الدبلوماسية. إنكشفت بشكل مذهل من ان هذه العبقرية لم تتعد الحفاظ على المناصب مقابل القيام بكل الأعمال القذرة في المنطقة والتي يأنف اللاعبون الآخرون القيام بها، من نوع تدمير المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، وإنهاك العراق وتدميره، وتدجين الشعب السوري وحبسه وراء أسوار الخوف، وسكوته الدائم على عربدة إسرائيل حتى في الأجواء السورية، الأمر الذي حول إسرائيل إلى قوة جبارة وساهم في وهن نفسية الأمة وترسيخ روح الإنهزام فيها.

لقد كشفت الثورة أن النظام أصغر بكثير من القيم التي يحاول التلطي خلفها. فهذا النظام الذي أتيحت له الفرصة على مدار أكثر من خمسين عاماً لم يكن يحمل أي مشروع وطني واضح، لا في السياسة ولا في الإقتصاد ولا في السيادة، ولا يوجد بصيص أمل في أن يصبح له مشروع وطني في يوم من الأيام، وقد ضيع على البلاد فرصاً وإمكانات كبيره يتطلب تعويضها جهداً ومالاً يصعب إتاحتهما بسهولة.

مضى عام على الثورة السورية، ثمة أفق وإحتمالات عدة تواجهها، غير الموت والإخفاء والنزوح، إحتمالات من نوع تقسيم البلاد، أو تدمير الأفق المستقبلي لسوريا، وكذا إدخال البلاد في أتون حرب أهلية. والواضح أن الثورة ستبقى على نبل أهدافها، هذا ما يشي به إستمرار حراكها وزخمه، رغم كثافة النيران الموجهة إلى صدور أبنائها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى