عام على الغزوة.. كيف يُهزم «داعش»؟
سنة على الائتلاف الدولي لاقتلاع الإرهاب
الحرب وسياسات أميركا وإيران رحم لـ «داعش»
بيروت – انديرا مطر
تعددت التفسيرات في تحليل أسباب بروز تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) قبل أن يصير «دولة الخلافة»، وسط ذهول العالم من تمدده بسرعة قياسية في العراق وسوريا.
تقاطعت آراء المحللين حول التنظيم الذي لم يهبط من سماء صافية، وإنما هو محصلة جملة عوامل سياسية واجتماعية عششت في المجتمعات العربية، أبرزها تسلط أنظمة مارست كثيراً سياسة القمع والاستبداد وتكميم الأفواه، إضافة الى انهيار المشاريع الإصلاحية، وسيطرة التخلف والفقر والبطالة والتهميش.
تغذى «داعش» من هذا الواقع، متظللاً بهالة دينية مستمدة من قراءة خاطئة للنص الديني وتخالف سياقه التاريخي الانساني.
كذلك أدى ظهور «داعش» إلى تهافت المنطق الجاهز الذي كان يردّ كل تطرف إلى الفقر والجهل والقهر. فقد أثبتت الدراسات والمعلومات التي تسرّبت عن طبيعة المنتمين الى التنظيم أن جلّ أعضائه قد تلقوا تعليماً متوسطاً أو عالياً، ويأتون من بيئات غير فقيرة. التنظيم أبدى كذلك قدرة هائلة على استيعاب التكنولوجيا وتوظيفها، بحيث بات مصنعا للصورة الباهرة المروّعة في زمننا الحالي. كما بات قادراً على صناعة هول بصري مرعب يفوق كل خيال ويجعله قاصراً ومحدوداً. وبذلك بدا حالة معاصرة، ومنتمياً إلى زمننا، لا بل كان منتجاً له.
ستون دولة تشارك في الحرب على التنظيم، ولا يبدو انه ينهزم، بل لا يبدو أنه ضعف أو فقد القدرة على المبادرة وعلى قضم المدن السورية والعراقية. فبات يسيطر على ثلث مساحة العراق وما يقرب من %50 من سوريا. ويبدو «داعش»، إلى جانب الهجمة الايرانية ومنظماتها المسلحة في العراق ولبنان وسوريا واليمن، المقوّض الفعلي للكيانات الوطنية والدول في المنطقة العربية.
بعد عام على قيام الائتلاف الدولي بحربه على «داعش»، ما الذي حقّقته هذه الحرب، وما سيكون وضع كل من سوريا والعراق بوجوده؟
القبس سألت عدداً من الكتّاب والمفكرين عن أسباب إخفاق الحرب على «داعش»، ورؤيتهم لمستقبل المنطقة في ظل استمرار التنظيم.
الكاتب والمفكر السوري ياسين الحاج صالح:
الحرب إعادة إنتاج الشروط التي تولد «داعش»
أبرز ما حققته الحرب على داعش هو إعطاء التنظيم قضية: إن حلفاً دولياً كبيراً يواجهه، وهو لا يصمد في وجهه فقط، وإنما يتوسع. باقٍ ويتمدد، كما يقول الشعار الداعشي. وأعادت هذه الحرب، التي قد تكون من الأغبى والأحقر في التاريخ، إنتاج الشروط التي تولّد داعش والقاعدة: سحب ثقة الناس (سوريين، عراقيين، كثير من العرب والمسلمين) بالعالم، تثبيت الاعتقاد بعداوة القوى الغربية للمسلمين، اللامبالاة بالعدالة وبمصير الضعفاء.
حين يقول الأميركيون إن هذه الحرب قد تستمر سنوات، بينما تتكرم وزيرة خارجية أستراليا بالقول إنها قد تستمر لأجيال، نرى أننا حيال حرب بلا استراتيجية عسكرية، وليس فقط من دون رؤية سياسية، ومضمون أخلاقي. حرب يوجهها أحط أنواع السياسيين، ولها في العمق محركات عنصرية. هذه ليست حربا ضد الإرهاب، هذه حرب إرهابيين إلى جانب إرهابيين ضد إرهابيين.
مستقبل سوريا معاق بسبب نظام السلالة الأسدية الذي لم يعد قادراً على الاستمرار من دون احتلال اجنبي، يشكل استمراراً لعدوانه وطائفيته. داعش عنصر مكمل في اللوحة. ورأيي أن الخلاص من النظام والاحتلال الإيراني ليس فقط لا يخدم داعش، بل هو ضربة لها، وهو المنطلق الذي لا بد منه من أجل إطلاق ديناميات اعتدال واستيعاب في سوريا، وظهور تفكير جديد وسياسة جديدة.
وحدها دينامية التطرف والعنف والطائفية تشتغل ما بقي النظام الأسدي، وهو أصلا مضخة عنف وطائفية وتطرف مستمرة. وطبعا كلما تأخر تُغيّر البيئة السياسية في سوريا تغيراً جديا،ً صارت الظواهر التي تنتجها المضخة أو تسهم في إنتاجها، ومنها داعش، أرسخ قدماً، وأقدر على إنتاج أسباب دوامها الذاتية. الأسد وإيران هما ضمان مستقبل داعش في سوريا. وأعتقد أن ظواهر مثل الحشد الشعبي، ومثل السيطرة الإيرانية في العراق، هي مساهمة قوية في ضمان مستقبل داعش في العراق.. باختصار، مستقبل داعش مضمون ما دامت دروب مستقبل سوريا والعراق مسدودة بمثل نظام السلالة الأسدية والنظام الطائفي في العراق، وبالتحكم الإيراني بهما معا. هي ظاهرة انسداد أصلا، وكلما كانت الأوضاع أسوأ كان هذا أنسب لداعش والقاعدة وما شابه.
القوى الوحيدة التي تستطيع أن تواجه داعش مواجهة ناجحة هي قوى سنية معتدلة، وهذه القوى يجري إضعافها وتغذية التطرف في صفوفها عبر قوى الثالوث الأسدي ـ الإيراني ـ الأميركي في سوريا، ونظائرها في العراق. قد يأخذ الإضعاف شكل محاولة تصنيع مرتزقة للأميركيين، يشترطون عليهم أن يقاتلوا داعش حصراً، وهو ما جرى فعلاً، حسب ما توارد في الأخبار قبل أيام، أي تجردهم من قضية بقدر يعكس تجرد الأميركان من كل حس بالعدالة. يمكن أن تعمّر داعش طويلا. هي وليدة الحرب والطائفية والخراب، وثمة وكلاء للخراب والطائفية والحرب شغالون بكل همة: الأميركيون والإيرانيون والأسديون والحكم العراقي والحزب الإيراني اللبناني. داعش بنت هؤلاء.
الكاتب والأستاذ الجامعي اللبناني زياد ماجد:
الداعشية مشروع أخطر مما ظنه كثر
نجح «داعش» في تثبيت سيطرته على قسم كبير من الأراضي التي احتلّها في العراق. وتمدّد في سوريا وأزال الحدود (مؤقّتاً) بين البلدين. وهذا يسهّل للتنظيم في المرحلة المقبلة حركة نقل مقاتليه وعتادهم الحربي بين العراق وسوريا.
ونجح «داعش» في احتلال أحد مواقع الصدارة في التغطية الإعلامية إذ عمد الى بثّ أفلامٍ تُظهر جرائمه الوحشية وعنفه المشهدي، كما غذّى «الاشاعات» التي تتحدّث عن ممارساته الهمجية التي تضخمت في وسائل الاعلام ومواقعُ تواصل إجتماعي وأجهزةُ مخابرات ومخيّلاتٌ فردية.
ويبدو أن «داعش» سعى الى تمتين علاقاته بالمجتمعات المحلّية التي يتحكّم بها في العراق وسوريا. وإذ بدت مُهمّته هذه أيسر في العراق، حيث معظم قياداته عراقية وحيث الغضب على حكومة بغداد وعلى الهيمنة الإيرانية يُوفّر له بعض التغطية السياسية في عدد من البيئات الاجتماعية، فإن المعلومات حول الأمر متضاربة في سوريا. ثمة من يتحدّث عن «استقرار أمني» وحالات تزاوج بين مقاتليه «المهاجرين»ونساء من العشائر المحلية وتطبّع فئاتٍ من السكّان مع حضوره في الرقة ودير الزور . وثمّة في المقابل من يؤكّد استمرار الاعدامات والاعتقالات في هذه المناطق.
يمكن القول إن «الداعشية» مشروع أكثر خطورة ممّا ظنّه كثرٌ . فالجغرافيا التي تسيطر عليها حتى الآن واسعة، والموارد فيها وافرة. والسيطرة على مناطق جديدة تُتيح سيطرة على أسلحة وذخائر ، خصوصا في العراق. كما أن خصوم داعش المحلّيين عراقيّاً لا مشروعية شعبية لهم في مناطق سيطرته. أما في سوريا، فالخصوم من أطياف المعارضات السورية منخرطون في معارك طاحنة مع النظام تُشغلهم عنه فيهاجمهم بين الحين والآخر. ونظام الأسد شديد الضعف أمام هجماته الكبيرة ويُفضّل تقدّمه على تقدّم المعارضات السورية. كما أن حلفاء النظام السوري، من الضباط الإيرانيين وحزب الله والميليشيات العراقية، يستخدمون تنظيم «داعش» للتخويف وتبرير التدخّل أكثر بكثير ممّا يقاتلونه.
شنّ طيران التحالف الدولي أكثر من 4 آلاف غارة على «داعش». بعضها آذى التنظيم كما في مدينة كوباني شمال سوريا. وبعض الغارات منعه من الاستمرار في التوسّع كما في نينوى وجبل سنجار في العراق. فيما عجزت أكثر الغارات عن توجيه ضربات كبيرة له لسببين: الأوّل أن مقاتليه وقياداته موجودون داخل المدن ويصعُب استهدافهم من دون التسبّب بقتل الكثير من المدنيّين. والثاني، أن التنظيم يُحرّك قواته في مجموعات صغيرة نهاراً يتطلّب استهدافها الكثير من الطائرات والغارات الباهظة الكلفة. في حين أن قوافله ووحداته الكبرى تتحرّك ليلاً وتتعرّض بالتالي لغارات أقل وبفعالية محدودة.
يمكن القول بالتالي إن استمرار القصف الجوّي لعامٍ إضافي ضعيف الجدوى مقارنه بكلفته إن لم تتعدّل قواعد الاشتباك. وهذا يتطلّب تغييراً كبيراً في المقاربة السياسية في العراق كي لا تبدو المعركة معه مذهبية صرفة، وتغييراً أكبر في سوريا إذ لا يمكن التعاون مع نظام الأسد ضده. أما المعارضات السورية القادرة وحدها على مواجهة التنظيم، فلا يمكنها فعل ذلك من دون تسليح متطوّر وغطاء جوّي.
المحلل السياسي اليمني حسين الوادعي:
ما يجري محاربة الفروع وإهمال الجذور
الحرب الدولية ضد «داعش» وجهت ضربات قوية للتنظيم على الارض، وحاصرت تحركاته، لكنها لم تقض على الجذور، ولم تؤثر على قدرته على التجدد والتجنيد. ما زالت الطلعات الجوية تقصف الفروع وتتجاهل الجذور التي تعوض كل ما يتم القضاء عليه.
قبل بدء الطلعات الجوية للتحالف الدولي ضد «داعش»، تم الاعلان أن المعركة لن تكون عسكرية فقط، ولكنها ستكون فكرية أيضاً. بدأت المعارك العسكرية لكن المعارك الفكرية لم تبدأ بعد وربما لن تبدأ. وهذه هي النقطة الحساسة التي ما زالت جهود مكافحة الارهاب تتجاهلها او تتهرب من مواجهتها. «داعش» ليس جماعة مقاتلة فقط ولكنه امتداد فكري وفقهي له جذوره وامتداداته في التراث الاسلامي والمؤسسات الدينية القائمة.
هناك جذور مالية وفكرية تغذي «داعش»، وتجدد شبابه كلما تمَّ قطع بعض أذرعه. لهذا يتمتع بهذه القدرة على التجدد والتجنيد السريع. كما ان دعم وتمويل داعش ما زال يأتي من أفراد ومؤسسات في خارج سيطرته أيضاً. وهناك مساجد ومؤسسات «السلفية العالمية» المتناثرة في مدن وضواحي أوروبا، وتقوم بتجنيد الشباب مباشرة أو بشكل غير مباشر.
بعبارة أخرى لا يعتمد داعش في التجنيد والاقناع الفكري على مؤسساته الخاصة بقدر ما يعتمد على نفس المؤسسات والخطاب الفكري السائد للمؤسسات السلفية في نسختها الجهادية. لكي ينجح التحالف الدولي في مهمته القادمة يجب أن يفكر في استرتيجة متكاملة تركز على الجوانب التالية:
1ــ الحد من تدفق المقاتلين الأجانب من ضواحي المدن في أوروبا ومن الدول الاسلامية والعربية. خاصة أن داعش أصبح نموذجاً جذاباً جدا لعشرات الآلاف، إن لم يكن مئات الآلاف من الشباب المسلمين، نتيجة تشابه بعض «الأسس الفكرية»، التي يحملها المسلم العادي مع الجذور الفكرية لداعش.
2 ــ تقويض الخطاب الفكري لداعش. وهو نفس الخطاب الفكري للسلفية في صيغتها الجهادية. ويقتضي النفاذ إلى الخط الأحمر المسكوت عنه: الدعم المتطرف على المستوى العالمي عبر المساجد والجمعيات الخيرية والمطبوعات والمنظمات الخفية. ونقد الأسس الفكرية للارهاب والجهاد والحاكمية والولاء والبراء ونشر الإسلام بالسيف.
3 ــ مواجهة الفرز المذهبي المتزايد في العراق، والذي يساهم بدرجة كبيرة في توسيع الحاضنة الاجتماعية لداعش. فالمشكلة الآن ان الحرب ضد داعش داخل العراق ما زالت حرب الشيعة ضد داعش، وليس حرب العراقيين ضد داعش. هذا التهميش للسنة تزامن مع الانتهاكات الفظيعة للميليشيات الشيعية والتهميش المتزايد لهم في الأجهزة الحكومية، يدفع بالمنطقة السنية في العراق إلى التحالف الإجباري مع داعش، أو على الأقل عدم الجدية في محاربته باعتباره قوة نقيضة للخصم الطائفي الشيعي.
4 ــ الازدواجية في مواقف بعض الدول المشاركة في التحالف. فهي تحارب داعش في العراق، وتدعمه في سوريا أو تدعم جماعات إرهابية أخرى لا تختلف فكرياً أو تنظيمياً عن داعش، مثل «جبهة النصرة» وفصائل أخرى مثلها. كما ان تركيا لا زالت غير جدية في انضمامها للتحالف، وأغلب المقاتلين يتدفقون على التنظيم عبر تركيا، وبمعرفة الحكومة التي تغمض عينيها عن ذلك، من أجل دعم معركة اسقاط الأسد.
الجمهورية