عام من ثورة الفقراء
ياسين سويحة
تطلّ نوافذ الذكرى الأولى لاندلاع الانتفاضة على مشاهدٍ من الألم والدّم والموت تتجاوز، ببشاعتها، مقدار ما كان متخيّلاً عندما خرجت، في آذار الماضي، أولى المظاهرات في دمشق ودرعا. ما يقارب عشرة آلاف شهيد، عشرات، بل مئات، الآﻻف من الجرحى والمعتقلين والمهجّرين داخل وخارج حدود البلاد، اقتصاد مهشّم على شفا اﻻنهيار وأزمة اجتماعيّة مركبة تنذر بعواقب وخيمة إن تُركت جذورها تنهل من مناخ العنف المنفلت. لقد دفع الشعب السوري، كما نرى، ويدفع الغالي والرخيص، ويستحق، لذلك، بذل جهدٍ سياسي وفكري وأخلاقي يلائم فداحة هذه التضحيات الجسيمة، جهودٌ تصبّ في سبيل صناعة الأمل وتوفير كلّ الأدوات الممكنة واللازمة لكي يكون هذا الأمل واقعياً قابلاً للتحقيق. حتى هذه اللحظة تكاد تغيب هذه الجهود، السياسيّة والفكرية، لصالح نزاعات وصراعات حزبيّة وشخصانيّة من جهة، أو في سجالات إيديولوجيّة ضيّقة فيها من استراتيجيا التحالفات المحليّة والأقليمية والدوليّة أكثر مما فيها من العمل السياسي المنهجي الجاد.
في ظل هذا الفراغ السياسي، وبالاستفادة من مناخ العنف المنافي لأدنى درجات المنطق والأخلاق، يسهل لخيارات متطرّفة، شعبويّة الخطاب في الأساس، أن تشغل مساحةً كان يجب أﻻ تتركها المعارضة السياسيّة خاوية مهما كان السبب. هكذا، يسهل أن يرتفع صوت خطاب طائفي مقيت يرسّخ فرضيته في توصيف الأزمة السوريّة على أنها صراع بين علويين وسنّة، بدل أن تكون انتفاضة شعبيّة ضد سلطة مستبدّة فاشيّة، ويتمفصل هذا الخطاب، للأسف الشديد، مع خيارات تبحث عن ساحة صراع بين محورين إقليميين، دول الخليج من جهة وإيران من جهة أخرى، يشكّل الخطاب المذهبي والطائفي جزءاً من عقيدتهما السياسيّة. هذا الخطاب، الذي ﻻ يعرف التعبير عن نفسه إﻻ بصوتٍ عالٍ وعقلانيّة منخفضة، بجانب سهولة بالغة في اللجوء للشتم والتخوين والمزايدة، يستوجب المقارعة والمقاومة كمفرز من مفرزات الاستبداد السياسي أساساً، ويخطئ من يفصل بين الشأنين أو يضع أولويّة مقاومة أحدهما قبل إيقاف الآخر عند حدّه. كلاهما، تفتيت المجتمع طائفياً باستخدام العنف والاستبداد السياسي الفاشي، وجهان لعملةٍ واحدة ﻻ تشتري إﻻ عذاباً، كائنان سرطانيّان يتغذى أحدهما من الآخر، وتجفيفهما مهمة وطنيّة.
في الواقع، تحمل العودة إلى الأيام الأولى للانتفاضة الشعبية بعض العناصر التي يمكن استخدامها في مقارعة اﻻستبداد وإفشال خطاب التكسير الشاقولي لبنيان المجتمع السوري في آن معاً، ليس فقط بالعودة إلى شعارٍ “الشعب السوري واحد” الذي ﻻزم، ويلازم، مظاهرات الانتفاضة في كافة أرجاء الجغرافيا السوريّة، وإنما بالتمسّك بتعريف الانتفاضة السورية كـ “انتفاضة فقراء”، بأوسع تعاريف اﻻنتفاضة وأوسع تعاريف الفقر. نواجه، فعلياً، نظاماً قامت عقيدته في الحكم، على مدى كلّ العقود التي هيمن فيها على البلاد وما ومن عليها، على الإفقار: الإفقار اقتصادياً بضرب اﻻقتصاد الوطني وتحويله إلى شبكة علاقات سلطوية فاسدة تقتات، على هامشها، طبقات وسطى ودنيا تزداد فقراً كلما تجمّع المزيد من التكتّل الاقتصادي للبلد بيد نخبة الفساد واﻻستبداد، نخبة متنوّعة طائفياً ودينياً ومناطقياً بشكلٍ ﻻ يراه إﻻ من يرفض، لأسبابٍ إيديولوجيّة تخصّه، أن يراه. الإفقار سياسياً، بخنق الساحة العامة وقتل السياسة والفكر السياسي لصالح الهيمنة الشاملة على الدولة والمجتمع. الإفقار ثقافياً وإعلامياً باختصار اثنين من أسس المجتمع والدولة المعاصرتين إلى أدوات، كوميديّة في مأساويتها، مسخّرة فقط وفقط لعبادة الفرد الحاكم وتقديسه. الإفقار وطنياً بتقزيم الكيان الوطني الشامل وتحجيم الدولة إلى النظام والنظام إلى الفرد كممثل لطبقة حاكمة، سياسياً واقتصادياً وأمنياً، هي أعلى من الدولة وأعلى من المجتمع، ومحقّ لها أن تستخدمهما كما تريد، وبتهشيم الهويّة الوطنية لتكون، بدلاً من مظلّة يتسع ما تحتها لكل الاختلافات الأهليّة، الدينية والعرقيّة والمناطقيّة والقبليّة، عبارة عن اسم آخر للوﻻء الأعمى للفرد ومن حوله من الطبقة المعصومة.
إنها ثورة فقراء ضد نظامٍ إفقاري. والفقراء، كما الفقر، ليسوا ديناً وﻻ طائفة، بل طبقة تعاني من الاستبداد ومفرزاته. النظام الإفقاري، ككل هلوسة شموليّة عمياء تبحث عن التأبيد في السلطة المطلقة، ﻻ أخلاق وﻻ عقلانيّة تمنعانه من الدفاع عن استمراره في الحكم، حتى لو مرّ هذا الدفاع عن طريق اللعب على أوتار تمزيق المجتمع عمودياً وبناء حدودٍ من العنف والكراهية بين أجزائه. هذه الحدود، إن قامت، قد تكون أسساً لاستمراره وإعادة إنتاج نفسه.
نحتاجُ، بعد عامٍ من أول “الشعب السوري ما بينذل” إلى إعادة تعريف الذلّ بدلالة الفقر المضخوخ استبدادياً، الفقر الاقتصادي والسياسي والثقافي والوطني. نحتاج لضربٍ من خطاب الصراع الطبقي يساعد في إقناع فقراء جميع الطوائف والأديان بأنهم ليسوا أعداء بعضهم البعض، بل أن عدوهم هو اﻻستبداد الذي جعل من فقرهم وقوداً لسطوته ولسلطته. هكذا، إن استطعنا بناء هذا الخطاب ونشره وترسيخه ووضع الأسس السياسيّة المنهجيّة للعمل به، لن يدافع فقيرٌ عن نظامٍ إفقاري لأنه يخاف على نفسه ووجوده من فقيرٍ آخر، بل أن الفقر، هذا الفقر، سيكون خطاباً مؤسساً لوحدةٍ وطنيّة، جامعة، ومن طرازٍ جديد.
الطريق صعب وطويل، وما زال هناك الكثير من الألم والدّم بانتظارنا، لكن الأمل أكبر، التضحيات تستحق أملاً نعمل بكلّ جهودنا على تحقيقه. الغد، كما سوريا، لنا جميعاً..
http://www.alsabahsyria.com/index.php/opinion/204-2012-03-25-16-18-41