عبد الباري عطوان في عقل «داعش
معلومات قيّمة قدّمها الصحافي والكاتب الفلسطيني عن التنظيم السلفي. في «الدولة الاسلامية، الجذور، التوحش، المستقبل» (دار الساقي)، يقارب القواسم المشتركة كما الاختلافات بينه وبين «القاعدة»، متوقفاً ملياً عند زعيمه أبو بكر البغدادي
سمير ناصيف
كعادته، وكما في كتبه السابقة، قدّم الصحافي والكاتب الفلسطيني عبد الباري عطوان (1950) معلومات قيّمة في كتابه الجديد «الدولة الاسلامية، الجذور، التوحش، المستقبل» (دار الساقي) عن الإسلام السياسي الجهادي. هذه المرة، تناول عطوان ما يسمى «الدولة الاسلامية في العراق والشام» (يسميها بعضهم «داعش» ويرفض عطوان هذه التسمية).
وفي سعيه إلى اعتماد الموضوعية، مَرَّر الكاتب أفكاراً وتوجهات «اعتذارية» إلى حدّ ما إزاء تصرفات هذه المجموعة، كما فعل في كتبه السابقة في عرضه لنشاطات منظمة «القاعدة» وسياساتها الميدانية التي يصفها بعضهم بالـ «الارهابية». الأرجح أن نيّة عطوان تندرج في السعي الى عرض الحقائق والوقائع، لا الدعاية أو الترويج لأي جهة. وبما أنّه واحد من الصحافيين الذين يُعَدّون على الأصابع ممن قابلوا زعيم «القاعدة» الراحل اسامة بن لادن، واكتسبوا ثقة قياديين في الحركة الجهادية في الماضي والحاضر، فإنّ أطروحاته في كتابه الجديد أو كتبه الأخرى تكتسب أهمية خاصة للجميع. في مقدمة كتابه «الدولة الاسلامية»، يؤكد أنّ هذا التنظيم لم يكن نسخة جديدة من «القاعدة»، بل «يشكل نموذجاً مختلفاً من حيث الايديولوجية والنشأة والاولويات». «القاعدة» ـ برأي عطوان ـ حصرت أولوياتها بإخراج القوات الأجنبية من الأراضي العربية، وتجنّب خوض حروب ضد تنظيمات إسلامية أخرى، ولم تركّز على إقامة دولة تتمتع بمقومات السيادة. في المقابل، طرح قادة تنظيم الدولة الإسلامية مشروعاً واسعاً لانتشار هذه الدولة وتجاوز الحدود المرسومة حالياً بين دول المنطقة. كما أنّ «داعش» ركّز على استخدام «التوحش»، وعَرضه في شرائط وأفلام على وسائل التواصل الاجتماعي في الانترنت لترويع الخصوم ودفعهم الى تجنب مواجهته، الى درجة محترفة جداً فاقت الأشرطة التي كانت «القاعدة» توزّعها (بواسطة أشخاص) على الفضائيات التي قبلت تسلّمها.
ويعتبر عطوان أنّ القاسم المشترك بين «الدولة الاسلامية» و«القاعدة» هو اعتمادهما التيار السلفي الجهادي المستند إلى مبدأ تطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقاً محكماً، مثلما طُبّق في دولة المدينة (الاسلام الاول) وتكفير كل الأنظمة التي لا تطبق الشريعة والبراء من الكفار والمشركين والمرتدين والدعوة إلى الجهاد المسلح كأداة للتغيير. من الفوارق بحسب عطوان أنّ تنظيم «الدولة الإسلامية» نجح في تحقيق الاكتفاء الذاتي مالياً عبر غزواته وسيطرته على منابع نفط في سوريا والعراق واحتلاله مدينة الموصل العراقية والمناطق المحيطة بها والاستيلاء على ثرواتها، فيما اعتمدت «القاعدة» على أموال زعيمها أسامة بن لادن والأموال التي كانت تأتيها كتبرعات من مؤيدين لها في دول الخليج وبعض الدول العربية والإسلامية الأخرى.
ويرفض عطوان الفكرة القائلة بأنّ أميركا هي التي أسست «داعش»، بيد أنّه يعترف بأن السياسات الأميركية القصيرة النظر والعدائية والتدميرية في العراق وسوريا وفلسطين والمنطقة خلقت الحاضنة لنشوء التنظيم وامتداده. على رأس هذه السياسات، بحسب الكاتب، كان احتلال العراق عام 2003 ولاحقاً عمليات القهر والإقصاء والتهميش والإذلال التي مورست خصوصاً على أبناء الطائفة السنّية في العراق أثناء الاحتلال وبعده، ما أزكى الطائفية.
ويستشهد عطوان بما قاله له الشيخ أبو محمد المقدسي، أحد كبار منظري السلفية الجهادية، في لقاء بينهما في عمان. يومها، أشار المقدسي إلى أنّ اسلاميي «داعش» و«النصرة» كانوا في معظمهم من رجال الحرس الجمهوري العراقي في النظام السابق ومن فدائيي صدام، وقد تحولوا الى العقيدة الجهادية بعد معاناتهم في السجون العراقية تحت مظلة الاحتلال الأميركية. ويؤكد عطوان أنّه لم يكن من قبيل الصدفة أنّ أبرز مساعدي «الخليفة» أبو بكر البغدادي، قائد الدولة الإسلامية الحالي، كانوا من ألوية الجيش العراقي الذي حلّه الحكم الأميركي للعراق خلال الاحتلال بول بريمر. هؤلاء ساهموا لاحقاً في تدريب الجهاديين الذين أتوا من سائر أنحاء العالم للانضمام الى مقاتلي «الدولة الاسلامية» و«النصرة» ووضع الخطط العسكرية لجيشهما الجهادي. وهنا يبدأ التوجه الاعتذاري في الكتاب، فإذا كان هؤلاء العسكريون العراقيون المدربون في عهد صدام حسين هم الذين يقودون العمليات الميدانية لمقاتلي «الدولة الاسلامية»، فلماذا يمارسون التنكيل بالمجموعات الطائفية والإثنية الأخرى، بينما يُفترض أنّهم علمانيو التوجه كما دُرّبوا في الجيش العراقي السابق؟
لعل إصرار عطوان على تشبيه الأراضي التي احتلها «داعش» في سوريا والعراق عبر البطش والترغيب وتجاوز الشرائع الانسانية بالدولة، واعتماده على بعض ما وَرَدَ في المراجع الدينية يظهران معرفته الواسعة في هذه المواضيع. كما يساهم عرضه المفصل لانتقاء قائد «داعش» لاسم «أبو بكر البغدادي الحسيني القرشي» في توضيح الأمور، إذ يقول إنّ اسمه الحقيقي ابراهيم بن عواد بن ابراهيم البدري وهو ينتمي إلى مجموعة عشائر البوبدري، وهو من مواليد سامراء في العراق. وهذا من مميزات الكتاب، لكن استطراد عطوان في هذا المجال يمكن اعتباره كنوعٍ من التقييم والاحترام لشخصية هذا القائد، وخصوصاً عندما يقول ان اسمه اختير لكون «ابو بكر» هو الخليفة الأول ضمن الخلفاء الراشدين، والحسيني تشير إلى الأمام الحسين، حفيد الرسول، والقرشي هي القبيلة التي ينحدر منها النبي محمد. ويضيف أنّ «الرأي الشائع يقول إنّ الخلفاء الحقيقيين يأتون من هذه القبيلة وينتسبون الى نسب الرسول! وهنا أيضاً ربما قد يوجد تأثير إيجابي غير مباشر على نظرة القارئ الى ابراهيم بن عواد البدري قائد «داعش».
ويشير عطوان الى أنّ البدري درس في الجامعة الإسلامية في بغداد وحصل على دكتوراه في الفقه الإسلامي، وقد منحته مؤهلاته الدينية شرعية أكبر في سعيه إلى تثبيت نفسه كمرجعية إسلامية، إضافة الى كونه قائداً عسكرياً وسياسياً. وهذا شيء ـ
وفق عطوان ـ لم يتمكن حتى أسامة بن لادن (العامل سابقاً مع والده في مقاولات البناء) وأيمن الظواهري (الطبيب) من التوصل اليه. وهنا أيضاً، نشتّمُ توجهات شرعنة لقائد «داعش»، ربما تكون لها آثارها السلبية بالإضافة الى آثارها الايجابية في تعريفنا به من قبل الكاتب.
عن زوجات زعيم (داعش)، يقول عطوان بأنّ للبغدادي زوجتين على الأقل. تزوج الأولى عندما أنهى شهادة الدكتوراه وأنجب منها ابنه الأول. وزوجته الثانية (لا يقول المُطلَّقة) تدعى سجى حامد الدليمي اقترن بها عام 2010 -2011 وكانت أرملة عندما تزوجته بعد مقتل زوجها الأول فلاح اسماعيل جاسم على ايدي قوات الأمن العراقية عام 2010، في محافظة الأنبار. وتنتمي الدليمي ـ وفق عطوان ـ الى عائلة عشائرية معروفة بالتزامها الديني ويتبع جميع أفرادها الإيديولوجيا السلفية الجهادية. ويضيف أنّ عشيرة الدليم التي تتحدّر منها سجى تعتبر واحدة من أهم العشائر وأكبرها في العالم العربي إذ تضم قرابة سبعة ملايين شخص. لذلك فصلة قائد «داعش» بها وبالدليم من خلالها بالاضافة الى صلات عشيرته، تؤمن له الولاء الأكبر.
ويؤكد عطوان أنّه بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وبسبب استياء قائد «داعش» الحالي من احتلال جنود غرباء لبلاده، انضم أبو بكر إلى جماعة أبي مصعب الزرقاوي ومجموعته التي كانت تتمركز في الأنبار من دون مبايعة الزرقاوي. واعتقل أبو بكر البغدادي عام 2004، وسجنه الأميركيون من دون محاكمة في معسكر «بوكا» في الصحراء العراقية بعدما استجوب في سجن «أبو غريب» قبل إرساله الى «بوكا».
وبعد مقتل الزرقاوي عام 2006 وبعده أبو عمر البغدادي (2010)، اختير ابو بكر البغدادي «أميراً» للدولة الإسلامية في العراق. في هذا القسم، يبالغ عطوان في سرد قدرات أبو بكر البغدادي القيادية وقراراته الاستراتيجية، لكنه يعرض أيضاً الخلافات بين قائد «داعش» البغدادي، وزعيم «القاعدة» أيمن الظواهري بعد مقتل بن لادن في باكستان. يقول عطوان إنّ الظواهري فضّل حصر نشاط مقاتلي تنظيمه داخل العراق وليس في سوريا، وتجاهل أبو بكر البغدادي هذا القرار لأنه كان عازماً على انتزاع قيادة الحركة الجهادية العالمية من الظواهري. وتمثلت خطوة البغدادي الأكثر جرأة في إعلان جماعة البغدادي تنصيبه خليفة وإعلان قيام دولة الخلافة في بداية رمضان 2014 من المسجد الكبير في الموصل بعد احتلالها. ظهر البغدادي علناً للمرة الأولى وأصدر بيانات تشير إلى أنّ أهداف خلافته لا تقتصر على سوريا والعراق، بل تسعى إلى الهيمنة على الكرة الأرضية كلّها، بما في ذلك روما عاصمة المسيحيين الكاثوليك، ومكة والمدينة المقدستين للمسلمين. ويتساءل عطوان: هل الخليفة البغدادي صاحب رؤية مستقبلية أم أنّه مصاب بجنون العظمة؟
ويجيب بأنّ كثيرين في العالم العربي لم يحسموا أمرهم بعد حول هذا الأمر! وهنا أيضاً من المفيد التساؤل عن جدوى طرح هذا السؤال في ظل ما يحدث حالياً من تجاوزات للشرائع الإنسانية على الأراضي العراقية والسورية من قبل هذا التنظيم؟ كل ذلك لا يعني بأنّ عطوان يسهم في الترويج لمنظمات متطرفة، بل يقدّم معلومات قيمّة قلما نجدها في كتب أخرى، وخصوصاً عن الخلافات بين «داعش» و«النصرة».
يبقى أنّ مستقبل سوريا والعراق مرتبط بما سيحدث للتنظيمين المذكورين ولاستمرارهما في ساحات القتال في البلدين، وفي المنطقة برمتها، وبامكانية امتداد نفوذهما. كتاب عطوان مفيد للقراء ولأصحاب القرار في المنطقة لكنه يبالغ في الموضوعية ويضخم أحياناً إيجابيات وشرعية هذه المنظمات الجهادية على حساب سلبياتها وخطورتها على الإنسانية جمعاء.
الأخبار