عبد الكريم وحورية: عروسان لساعة واحدة
حسان العوض
المختار كرمو لقب عبد الكريم، فأبوه مختار قرية “تيرمعلة” على الرغم من أنه أبسط رجل فيها، وهو لا يعرف أن يكتب إلا اسمه للزومه في توقيع بعض الأوراق الرسمية. آلت إلى الأب “المخترة” بعد وفاة الجد بكل بساطة الريف، خاصة بعد أن رفضها الجميع بمن فيهم الأعمام الأكبر والأقل بساطة.
عبد الكريم عمره ست وعشرون عاماً، وهو وحيد أبويه، ولد بعد سبع سنوات من الانتظار والعلاج، لذلك يبدو مستغرباً ألا يكون متزوجاً حسب أعراف ريف حمص الشمالي، إلا أن العامل الاقتصادي كافٍ وإن لم يكن وحيداً.
كانت نية عبد الكريم أن يحتفل بزفافه بعيد احتفاله بانتصار الثورة السورية وإسقاط النظام الأسدي. ولأن ذلك طال حتى قارب السنتين، قررت أمه أن تجد له عروساً تزوجه بها شاء أم أبى، وبعد بحث استمر أياما وصلت إلى حورية التي رشّحها أبناء أختها المقيمين في قرية “الدار الكبيرة” المجاورة، فهي جارتهم الجميلة، والصبية التي بلغت الثامنة عشر عاماً منذ شهرين، وهي قريبتهم أيضاً فالجد الخامس أو السادس مشترك.
رفض عبد الكريم فكرة الزواج حالياً، لكن إصرار أمه جعله يسايرها في رؤية العروس على نية أن يعبر عن عدم إعجابه بها لاحقاً، وهذا هو السبب الأكثر إقناعاً للأم. ولكن الذي حدث هو أن عبد الكريم أعجب بحورية من أول نظرة إلى درجة أنه وافق أبويه على أن يكون عقد القران بعد أيام.
دعا المختار كل أقاربه، ودعت زوجته كل نساء الحارة، ودعا عبد الكريم كل أصدقائه إلى حفل خطوبته، فقد جرت العادات الاجتماعية أن تسمي عقد القران خطوبة، وكذلك فعلت عائلة العروس. ما حزّ في نفس الأم الاضطرار إلى شراء البقلاوة من محل الحلويات الوحيد في القرية، وليس من “أبو اللبن” كما كانت تخطط منذ سنوات، ربما منذ مولد عبد الكريم. وذلك بسبب إقفال “أبو اللبن” لفرعيه بعد حصار قوات النظام لأحياء حمص القديمة حيث يوجدان، وربما دمرا.
انتهز المدعوون فرصة الفرح هذه، فحجّوا إلى بيت العروس حيث جرت التقاليد أن يقام الحفل فيه، مشياً أو على درجات هوائية أو آلية أو بعض السيارات الخاصة، بالإضافة للحافلات القليلة التي استطاع أصحاب الدعوة تأمينها، والتي صارت أجرتها مرتفعة جداً بعد غلاء الوقود في حال وجوده.
في مضافة والد العروس اجتمع الرجال، وفي ساحة داره اجتمعت النسوة حيث يغنين ويرقصن حول حورية بفستانها الأبيض وهي تنتظر عبد الكريم الذي وضع كفه في كف أبيها، ووضع الشيخ فوق كفيهما منديلا، وشرع يلقنهما الكلام الذي يقال في هذا الطقس. عبد الكريم كان مشغولاً بحبات العرق التي بدأ يشعر بها على جبهته على الرغم من أن الجو ربيع، لذلك أخطأ في ترداد الكلام مرة أو اثنتين. ومع انتهاء عقد القران شرعياً صارت حورية زوجة عبد الكريم، وصار أبوها عمه الذي بارك له فتعانقا ثم قبّل عبد الكريم يد أبيه قبْل أن يصافح كل المدعوين ابتداء من الشيخ.
مسح عبد الكريم عرقه ثم أدخله عمه إلى ساحة الدار بينما كانت صحون البقلاوة توزع على الرجال.. كانت النسوة بزينتهن يبرقن كنجوم، بينما كانت عروسه حورية بفستانها الأبيض تنير كبدر عتمة المساء التي بدأت تحل رويداً رويداً.. تصافح العروسان، لأول مرة ربما. وما إن جلسا على كرسيهما حتى أحضرت أم كرمو علبة الذهب الذي انتقته لكنّتها، وعندما استغربت أم حورية من عجَلتها بررت لها بخوفها من انقطاع الكهرباء في أية لحظة.
ألبس عبد الكريم حورية سوارين وحلقتين وساعة وخاتماً، ثم ألبسته حورية ساعة وخاتماً، ثم طبع على خدها قبلته الأولى –نعم الأولى- بناء على طلب النساء وعلى موسيقى تصويرية من زغاريدهن التي لا تنتهي، ثم طلبن من العروسين أن ينزلا إلى الرقص، وبعد تمنع وخجل منهما سحبت الأمّان ولديهما غصباً.. وقف العروسان متقابلين، ثم رفعا أيديهما التي بدأت تتمايل مع إيقاع الدربكة المرافقة حتى وصل التمايل إلى الأكتاف ثم العنقين فالرأسين، ورويداً رويداً انتشرت عدوى الرقص في الجذعين حتى وصلت الأقدام. وما إن بدأ رقص كل واحد منهما ينسجم مع الآخر ومع الزغاريد وإيقاع الدربكة حتى طغى على أصوات الفرح صوت اعتيد عليه كسبب للحزن، كان الصوت لقصف ولكنه قريب جداً هذه المرة. هرع عبد الكريم مع بعض النسوة لاستطلاع الأمر، وقبل أن يتأكدوا مما خلفته القذيفة من إصابات، سقطت قذيفة ثانية في مكان قريب جداً أيضاً، ولكن من الجهة الأخرى.. شظية واحدة وصغيرة تطايرت بسرعة جنونية واستقرت في الجهة اليسرى من صدر حورية التي ما زالت واقفة بانتظار عبد الكريم لإكمال رقصتهما.. صار الفستان الأبيض أحمر، وصارت العروس شهيدة.
المختار كرمو رفض أن تدفن عروسه في قريتها، وأصر على أن تدفن في قريته/ قرية زوجها حتى وإن لم يمض على زواجهما إلا ساعة واحدة.
في اليوم التالي نشرت الصحف اليومية في صفحاتها الأخيرة عن سعودية طلبت الطلاق في ليلة زفافها من زوجها بعد أن خسر مليون ريال في المضاربة في أسواق الفوركس للأوراق المالية، وتحول من مليونير إلى مديونير على حد تعبيرهِ. أما حورية والرجال الثلاثة الآخرون الذين قضوا في قريتها إثر قصف من قبل قوات الأسد عليها، فلقد تم ذكرهم مع مئة وأربعين سوريا آخر كأرقام، ولكن على الصفحة الأولى، وربما في الصفحات الداخلية.
*استشهدت حورية العزو بتاريخ 2/3/2013