عبّارات” الموت/ صبر درويش
كل شيء في المدن المحررة يبدو صعباً وقاسياً ومعقداً، حتى أن المرء يحتاج إلى دعوات أصدقائه للقيام بأبسط المهام، كأن يخرج لشراء غرض ما من بقالة قريبة. ففي ظل القصف المستمر على هذه المدن، لا يستطيع الفرد التنبؤ بمكان سقوط القذيفة، أو من أين ممكن أن تأتي الشظايا؛ هنا كل شيء يخضع للمصادفة حتى الحياة ذاتها.
وفي ظل الحصار الخانق الذي تفرضه قوات النظام على مدن وبلدات ريف دمشق، يصبح التنقل بين بلدة وأخرى مخاطرة تُحسب لصاحبها، هنا حيث الموت يتربص عند كل منعطف، ويزرع الرعب في قلوب العابرين.
مدينة زملكا وحي جوبر يربط بينهما نفق لا يتجاوز طوله 50 متراً، بيد أن هذه الأمتار القليلة يشكل عبورها بنجاح أمراً أشبه بولادة جديدة. يطلق سكان المنطقة على هذا النفق اسم “العبارة”، وهو عبارة عن نفق منخفض يمر من أسفل المتحلق الجنوبي، غالباً ما يستخدمه العابرون للهرب من قناصة النظام المرابطين على مقربة من المكان.
تشكل الأمتار العشرة الأولى التي تسبق دخول النفق الخطر الأكبر، حيث على المرء العبور بأقصى سرعة ممكنة، وكذلك الأمر عند الخروج من النفق، بسبب تواجد جندي يقوم “بقنص” أي شيء يتحرك على مداخل النفق ومخارجه. في أغلب الأحيان تقع الإصابات هنا، في هذه الأمتار العشرة.
يروي أبو رامي، وهو أحد الناشطين الاعلاميين في المنطقة، تجربته مع هذه العبارة قائلاً: “يومياً يتوجب عليّ عبور النفق باتجاه زملكا، والعودة مساءً إلى جوبر. مع الوقت وكثرة التكرار اعتدت هذه المخاطرة، حتى أنني لم أعد أحسب لها حساباً”. وتابع “لكن في أحد الأيام كنت مضطراً للعبور ليلاً باتجاه زملكا، وما إن وضعت قدمي خارج العبارة، حتى قامت قوات الأسد بإطلاق النار باتجاهي، تعثرت ووقعت أرضاً وتأذى كاحلي الذي لم يشف حتى الآن، كانت لحظات من الرعب التي لا يشبهها شيء”.
رعب العبارة، لم ينته، وذلك على الرغم من تمكن الثوار من تحرير جزء كبير من المتحلق الجنوبي، حيث استعاضت قوات النظام عن القناصين بمدافع الهاون والدبابات. من على بعد كيلومترات، تقوم هذه القوات بتوجيه نيرانها باتجاه العبارة، التي يشير محيطها المليء بالركام والسيارات المحترقة، إلى نجاح قوات النظام في تحويل العبارة إلى معبر حقيقي للموت.
لا يختلف الأمر كثيراً في النفق الذي يصل بين جوبر والقابون، بيد أن الأمر هنا أكثر تعقيداً ومخاطرة. للعبور من جوبر إلى القابون، يحتاج المرء إلى تأشيرة، تتولى أمر منحها إحدى الكتائب التابعة للجيش الحر في المنطقة، يُسجل اسم الشخص على بطاقة يظهرها إلى حواجز الكتائب الأخرى، وهي محاولة لتنظيم حركة الدخول والخروج من المدينة.
تبدأ الرحلة بالدخول في نفق لا يتجاوز طوله 50 متراً، بعدها يفرض على العابرين أن يركضوا بسرعة لتجاوز مسافة 100 متر تقريباً، تقع على مرمى من نيران الجيش النظامي. المنطقة هنا مدمرة بالكامل، ورائحة الحرائق تعبق في الجو، بينما السيارات المتفحمة أشبه بمقبرة للآليات.
بعد قطع الـ100 متر، يدخل العابرون في نفق ثان، اطول من سابقه، ويمتد على طول مئات الأمتار تحت الأرض. لا يتجاوز عرض النفق 70 سنتمتراً، وارتفاعه نحو المتر ونصف المتر. في الشتاء ترتفع المياه في النفق حتى الركبتين، بينما في الصيف يصبح الأمر أكثر سهولة. يمر النفق تحت الأوتوستراد الدولي، حيث يمكن للعابرين أن يسمعوا أصوات السيارات العابرة من فوقهم، وما إن يتجاوزوا الطريق الدولي، في رحلة تستغرق عادة نحو النصف ساعة تحت الأرض، يتنفس العابرون الصعداء لان حياة جديدة كتبت لهم.
حياة لا أحد يدرك مرارتها سوى السوريين أنفسهم، اذ بات لديهم اليوم العشرات من الحكايات التي سيروونها للأجيالهم القادمة، كي يدركوا الثمن الذي بذل في اسقاط طاغيتهم.