عتمة فان غوغ المبهرة/ صبحي حديدي
هو معرض غير مألوف، هذا الذي تحتضنه القاعة الكبرى في مركز فنون «لافيليت» الباريسي؛ تحت عنوان «تَخَيُّل فان غوغ»، نسبة إلى الفنان الهولندي الشهير (1853 ـ 1890)، بتصميم من أنابيل موجيه وجوليان بارون. هنا يتاح للزائر أن يتأمل، أو بالأحرى يحملق في، ويتبصر ويتملى، معظم أعمال الفنان الكبير؛ ولكن ليس عبر لوحات معلقة على الجدران، كما يسير العرف في المعارض والمتاحف، بل بوسيلة رشق تلك الأعمال على شاشات عملاقة.
وفي فضاء مكاني يقارب 400 متر مربع، وسط عتمة تامة، بمصاحبة مقطوعات موسيقية من بروكوفييف وباخ وسان ـ ساين وساتي وشوبيرت وموتزارت وديليب؛ يتوالى عرض أكثر من 900 عمل، على نحو يغطي أسلوبية فان غوغ في كامل تبدلاتها وتقلباتها؛ على مساحات ضوئية، مختلفة الأحجام (بين 50 إلى 100 متر مربع)، ومتعددة الزوايا من حيث التوزّع داخل الصالة، تبلغ في مجموعها قرابة 4000 متر مربع!
وأياً كانت الزاوية التي يختارها الزائر لمتابعة المعرض، أو إذا شاء التنقل من موقع على آخر داخل الصالة، أو استقرّ على الصعود إلى إحدى دكتين توفّران رؤية علوية؛ فإنّ هندسة رشق اللوحات بين مختلف الشاشات، وإيقاعات تبادل الأعمال بين شاشة وأخرى، وحجم وآخر؛ سوف تتكفل بتوفير نطاق مشاهدة أقصى، وتنويع حيوي شيّق، ليس على امتداد دقائق العرض الثلاثين، فحسب؛ بل حتى إذا مكث الزائر فترات مضاعفة. صحيح أنّ الأعمال تُرشق وفق ترتيب موضوعاتي يراعي أطوار تنفيذها، أو مواقعها الجغرافية (آرل، سان ريمي، أوفيرـ سورـ واز…)، بما يمكّن الزائر من إدراك خصائص كلّ مرحلة؛ إلا أنّ خيوط التكامل، الظاهرة المباشرة أو الضمنية غير المباشرة، تفضي إلى خلاصة وافية وكافية حول تجربة الفنان الكبير.
المعرض، أو العرض بالأحرى، يتناول سلسلة الموضوعات الكبرى التي شغلت الفنان، في الطبيعة والعالم البشري والنفس، وعبر أكوان طافحة بضياء الشمس ودفء الحقول وحرارة الألوان، أو بالليالي الدامسة التي تستضيء بنجوم متلألئة وسماءات مترعة بالألوان الضاجة. ورغم ذلك، ولعله أمر طبيعي لا مهرب منه، لم يكن في وسع عشاق فان غوغ إلا أن يلحظوا غياباً لهذا الموضوع أو ذاك، أو معالجة أقلّ احتفاء بطور أسلوبي دون آخر. ومن جانبي، شخصياً، افتقدت موضوعة المرأة؛ ليس بمعنى حضورها في الأعمال، فقد حضرت بالضرورة وربما في غالبية الأعمال التي تتناول المجاميع البشرية؛ بل بمعنى علاقة فان غوغ العاطفية، أو اختلال تلك العلاقة على نحو أدقّ، بالمرأة الحبيبة بصفة خاصة، وبمفهوم الحبّ والمحبة عموماً.
«لقد آمنتُ على الدوام بأنّ أفضل الطرق لمعرفة الله، هي أن يحبّ المرء ما في وسعه: الصديق، الزوجة، أي شيء تحبه وتسعى إلى تعميق معرفتك به. غير أنّ على المرء أن يعشق متسلحاً بعاطفة مفعمة بالوفاء والقوّة، وأن يحاول معرفة ما هو أكثر عمقاً وثراء في الآخر. ذلك هو الدرب إلى الله، وهو الدرب إلى الإيمان الخالص»؛ هكذا كتب فان غوغ إلى شقيقه ثيو، في تموز (يوليو) 1880. بعد عام سوف يكتب، أيضاً: «لستُ سوى رجل، ورجل تتأجج في داخله المشاعر. إنني في حاجة دائمة إلى المرأة، ولا أستطيع العيش من دونها وإلا انقلبتُ إلى حجر أو جماد. لن يكون في وسعي العيش بغير عشق»!
فهل كانت الحياة شفوقة عليه في هذا، أو هادنته على الأقلّ؟ في لندن، ;وكان في مطالع العشرينات من عمره، بدأت حلقات إساءة الفهم لمعنى أي علاقة مع الأنثى، وذلك حين صارحته أوجيني لوير، ابنة مالكة المنزل الذي كان يقيم فيه، أنها لا تبادله مشاعره العاطفية، وأنها تحبّ الساكن السابق. في مسقط رأسه، غروت ـ زوندرت، وقع في غرام ابنة خالته كي فوس، الأرملة التي توفي زوجها تاركاً لها ابناً في الرابعة، لكنّ رسائله إليها ظلت مغلقة، بل رفضت أن تستقبله حين توسل أن يراها «خلال الزمن الذي أستطيع فيه إبقاء يدي في اللهب»، كما أنبأها. وفي لاهاي عطف على بغيّ، واسكنها معه. وفي آرل، يبلغ شجاره مع غوغان ذروة كبرى، فيجدع الجزء السفلي من أذنه، ولا يجد مَنْ تستحق الاحتفاظ بقطعة اللحم الدامية سوى البغيّ راشيل!
وكانت البغي كلاسينا ماريا هورنيك قد أثارت إعجاب فان غوخ انها «نموذج العاملة الشقية»، بدلالة يديها الخشنتين وشظف العيش وعناء تحصيل الرزق. وفي إحدى رسائله إلى ثيو، وصفها بجملة بليغة، تشكل مفتاح رؤيته لعمق علاقة الرجل بالمرأة: «أي امرأة في أي عمر، شريطة أن تحبّ وأن تعمر الطيبة قلبها، تستطيع أن تهب الرجل ليس أزلية اللحظة فقط، بل لحظة الأزلية ذاتها». وإذْ يتذكر المرء أنّ الفنان الكبير أطلق هذه الجملة في وصف بغيّ، فإنه يدرك كم كان موقفه من المرأة، بما عليه من قهر اجتماعي واقتصادي ونفسي وجسدي، متقدماً على أقرانه، وتقدمياً وإنسانياً بمنظورات عصره، وعصرنا أيضاً.
وليست فتنة تلك العتمة المبهرة، في معرض «لافيليت»، سوى بعض قبس من لحظة الأزلية التي خلّفها الفنان الكبير للأبدية.
القدس العربي