صفحات العالم

عجلة التغيير ماضية إلى غاياتها في سوريا


باسل أبو حمدة

كما هو حال أي حراك إجتماعي يسعى إلى التغيير، تدور عجلة الثورة السورية متسارعة بلا توقف منذ نحو عام ونصف العام، مجيبة على الكثير من الأسئلة المشروعة وغير المشروعة، الصادقة والمغرضة منها على حد سواء، مستبعدة عددا منها وكاشفة ومثبة عددا آخر في صيرورة تعنى في عضد القضية المحورية التي قامت من أجلها ثورة بقيت حلما يراود السوريين في قاع نفوسهم تجنبا لبطش نظام برع في إدخال الرعب في أفئدة الناس قبل عقولهم فحاولوا النأي بأنفسهم عن الاشتغال في الشأن العام تخوفا من كل ما من شأنه إثارة حفيظته.

هذه الخلفية قد تفسر حالة الانكار المرضية المزمنة التي يعاني منها النظام في سوريا فيما يتعلق بحق المجتمع السوري في أن يرفع صوته عاليا ويقول كلمته هو لا أن يردد كالببغاء مقولات زائفة بدت في شكلها وطنية وقومية وتقدمية في لحظة ما، لكنها رسخت في الحقيقة الحكم الشمولي في سوريا طوال 42 عاما، بينما تثبت دفاتر الثورة السورية الحالية عدم الحاجة إلى انتظار كل هذا الوقت الطويل زيادة عن اللازم ليقول المجتمع السوري بحراكه الثوري وقواه الفاعلة وفطرته السليمة كلمته في مجريات الأحداث الدموية الجارية على الأرض.

مرت الثورة السورية في العديد من المنعطفات الخطيرة والمضنية في آن، وتعرجت مساراتها وتلوت داخل البلاد وخارجها في مشهد راح يولد آليات تطوره بنفسه رغم محاولات لي عنق الحقيقة الساطعة فيما يتعلق بالطبيعة السياسية التغييرية المشروعة لهذه الثورة التي استهلت مشوارها سلمية صرفة قبل أن تدفع آلة النظام القمعية وممارساته الفظيعة غير المسبوقة ثلة من الشبان إلى تشكيل لجان مسلحة بما تيسر من الأسلحة الخفيفة كانت مهمتها حماية المظاهرين من بطش تلك الآلة الفتاكة.

كانت البداية من الداخل وها هي تعود إليه مجتازة العديد من حقول الألغام والأفخاخ السياسية التي وضعت في طريقها ولا تزال سواء من قبل النظام نفسه أو من قبل بعض القوى والشخصيات الانتهازية السورية أو من قبل العديد من القوى والدول العربية والاقليمية والدولية، وها هي النتيجة تتبدى مع كل ساعة ومع كل يوم يمضي من عمر الثورة السورية، وذلك من خلال قدرتها المذهلة على استبعاد كل العوالق والطفيليات التي إعترضت طريقها حتى الآن بدأ من المحاولات الحثيثة لمصادرتها لصالح هذه الجهة أو تلك وليس إنتهاء بمحاولات حرفها عن مسار ما تفترضه ضرورات التغيير السياسي المنشود، ومرورا بمحاولات جرها إلى أوكار الطائفية ومختلف صنوف التشدد.

بينما كانت قوى التغيير الفاعلة على الأرض مغيبة عن المشهد السياسي ومخرجاته بما فيها من مؤتمرات ومبادرات وتحركات، ها هي العجلة تدور وتقلع في كل مرة من الميدان ومن حرارة الدم النازف من عروق ضحايا المجازر والاعدامات اليومية التي ترتكبها آلة النظام الحربية ومن نواح نساء مفجوعات وأطفال يسألون عن مصير طفولتهم وعن نظراء لهم لم تستثنهم آلة القتل تلك، فبات ذلك الميدان مربط الفرس ومبتدأ الكلام على كل لسان وفي كل تحرك بعد أن ثبت بالملموس أنه ثمة عملية سياسية تتشكل في سوريا وأن ملامحها النهائية لم تتكشف بعد وأنها قادرة على غربلة نفسها بنفسها وأنها تولد آلايات عملها بصورة طبيعية لا مكان فيها للنزعات الفردية والأطماع الأجنبية.

في الدعوة إلى تشكيل حكومة سورية مؤقتة أو انتقالية التي أطلقها المجلس الوطني السوري أخيرا، على سبيل المثال، يتراءى ذلك الميدان جليا سواء من خلال انضمام كوكبة من المنشقين العسكريين والأمنيين والدبلوماسيين والقضاة وأعضاء مجلس الشعب إلى الحراك الثوري أو من خلال التركيز على إدراج شخصيات وقوى من الداخل في هذه الحكومة، فضلا عن الدعوة إلى جعل مقرها في المناطق المحررة في سوريا وتحديدا في المنطقة الشمالية منها، الأمر الذي بات بالفعل واقعيا إلى حد كبير بعد المكتسبات التي أنجزها الحراك الثوري في تلك المناطق، التي باتت تحفل بأذرع مدنية تعنى بشؤون حياة الناس اليومية وتسير أمورهم. يرتقي هذه الملمح من دفاتر الثورة السورية إلى مستوى جديد ومغاير يعد مفصلا نوعيا سيكون له ما بعده في حركة حلزونية متصاعدة لا مكان فيها للتراجع إلى الخلف، حيث تتلاشى تلك التخوفات الصادقة أو المغرضة منها والتي يروج أصحابها عن حسن أو سوء نية إلى أن الثورة السورية ماضية إلى أمكنة مظلمة على غرار التدخل الخارجي أو وصول قوى إسلامية متشددة إلى سدة الحكم في سوريا، لكن ألم تثبت مجريات الأحداث أن هذا الحراك الثوري قادر على استيعاب جميع التيارات والشخصيات السياسية والعسكرية بما فيها تلك الخارجة للتو من عباءة النظام نفسه؟

ألا يعني اتساع الرقعة الجغرافية والديموغرافية بمختلف مشاربها شيئا لأصحاب تلك التخوفات التي ثبت بطلانها؟ ثم ألا يدرك هؤلاء أن المجتمع السوري يتحلى بمستوى من الوعي يكفيه لإدراك أن مسألة إسقاط النظام السوري ما هي إلا رأس حربة التغيير في سوريا وأن هناك جبهات عديدة مفتوحة على مصاريعها أمامه وعليه التصدي لها جنبا إلى جنب مع تغيير رأس الهرم السياسي المتعفن؟ ألم يقتنعوا بعد بعبثية محاولات خلق الذرائع لبقاء هذا النظام وأن لا شيء في الدنيا يتسحق كل هذا السيل الجارف من دماء السوريين وعذاباتهم؟

صحيح أن كل دقيقة تمضي من عمر الثورة السورية تعني مزيدا من التضحيات، لكن هذه التضحيات ليست بلا ثمن، ليس بإتجاه تقريب اللحظة الحتمية لإسقاط النظام فحسب، وإنما بإتجاه مراكمة عناصر ضرورية لبلورة تشكل الحياة السياسية الجديدة في سوريا ، فكلما طال عمر الثورة، تمظهر مزيد ومزيد من تلك العناصر التي لا غنى عنها في بناء مستقبل البلاد، لا بل إن ذلك يشكل ضمانة لعدم تسلل شخصيات وقوى سياسية طفيلية إلى هذا البناء، خاصة وأن هذه لديها من الامكانيات والدعم اللوجستي ما يفوق بكثير ما تتلقاها قوى التغيير الحقيقية الفاعلة على الأرض والملتصقة بصورة تلقائية بمصالح الناس العاديين، ما يعني أنه على الرغم من توق السوريين إلى لحظة الحسم المتمثلة في التخلص من نظام جثم على صدورهم طويلا، إلى أن تلك اللحظة، على أهميتها، ليست هي نهاية المطاف في البنيان السياسي السوري الجديد وليست هي الأخيرة ولا الوحيدة في حياتهم السياسية.

ثمة الكثير من الملفات العالقة على كافة المستويات وفي مختلف الميادين، التي لا تشكل قضية التخلص من الأمراض المستفحلة التي زرعها النظام في صميم النسيج الاجتماعي وعلى رأسها الفساد والتسلط والتشبيح وغياب الحياة الديمقراطية وتواري العدالة الاجتماعية بما فيها القضاء النزيه سوى نقطة في بحر مستنقع نتن ليس من السهل التخلص من تبعاته ورائحته النتنة، كما تتطلب عملية بناء سوريا الجديدة ، قبل هذا وذاك، التحضير الجيد لعملية المصالح الوطنية الشاملة، التي تعد من أهم وأخطر تلك الملفات العالقة، لأنها لا يمكن أن ترى النور إلا إذا أستبعدت عقلية الانتقام التي زرعها النظام في عضد النسيج الاجتماعي السوري أيضا، الأمر الذي يجعل هذا الملف يتقدم بإمتياز على سواه.

‘ كاتب فلسطيني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى