عدوّ أساسيّ للربيع العربيّ: اللاسنّية!
وسام سعادة
إنّه قدر الشعب السوريّ أن يتحمّل كل “الردّات” التي لم يكن مفترضاً أن تعنيه أساساً:
الردّة على الديموقراطية الليبرالية في روسيا، أيضاً بسبب انقشاع أوهام كثيرة رُبطت بها، والحصيلة المحبطة للموجة الأخيرة من التوسع الليبرالي باتجاه الشرق، في أوكرانيا وجيورجيا.
الردّة على مجمع الفاتيكان الثاني ضمن الكثلكة العالمية، أيضاً بسبب انتفاء الحاجة الكنسية على مزاحمة التقدميين على تقدميّتهم، والاجتماعيين على اجتماعيّتهم، وإيثار سياسات “الحفاظ على الهوية”، ولو كان باتباع فقه الصلاة خلف سلطان جائر.
الردّة على منطق “حروب التدخّل الإنسانية” في الغرب، أيضاً بسبب النتائج الوخيمة للتدخّل في العراق، ولدواعي الأزمة الاقتصادية العالمية، وأساساً لانعدام الشهوة “الامبريالية” إلى الحذف السريع للنظام البعثي الفئوي من المعادلة في المنطقة.
والردّة المزدوجة على الربيع العربي، إنما من ضمن دينامياته الداخلية. فهي، في قسم منها، ردّة علمانية على الربيع العربي في شموليته، وتبرز في عدم إنصات “المتنوّرين” و”العلمانيين” من العرب لعذابات الشعب السوري، متأثرين بمجرى صراعهم المحتدم مع الحركات الإسلامية الاستئثارية سياسياً، والفظّة أمنياً، والجبانة تاريخياً، وصولاً إلى اعتبارهم ثورة الشعب السوري “مؤامرة صهيونية” بخلاف ثورات ربيعية أخرى، علماً أنّه سواء في تونس أو في مصر أو في اليمن، لم يصنع التغيير إلا شراكة بين الإسلاميين وغير الإسلاميين، بصرف النظر عن التباين والتصادم إثر ذلك، كما أنّ المشكلة مهما تعقدّت مع الأخوان المسلمين فليس حلّها أبداً في إعادة سوقهم إلى السجون، بل في بلورة أطر دستورية لإدارة الخلاف تكون قابلة للعيش والتجدّد والتفاعل.
وهنا لعبت بقايا الأيديولوجيا القومجية العربية دورها، إذ هي لا ترى الصراع مع الاسلاميين بعيني مصطفى كمال أتاتورك أو حتى بعيني سعد زغلول والحبيب بورقيبة، أي من موقع الانتصار للدولة الوطنية كدولة أمة، وإنما من موقع مواجهة الأمة الرسالية الدينية للإسلاميين، بأمة رسالية أخرى، كتلك التي يكتبها تاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي بعاره المديد. إنهم يتوعدون الإسلاميين بنوستالجيا جمال عبد الناصر وصدام حسين، وحين لا تنفع النوستالجيا، يستعينون بـ”صديق من الحاضر”: السفّاح بشّار الأسد الذي يشنّ حرب إبادة ضد “تنظيم القاعدة” بقصد تنوير الشعب السوريّ وحقنه بفلسفة كانط وروسو.
والردّة على الربيع العربيّ تكمن في قسمها الآخر في اتضاح الابتعاد الشديد للحركات الإسلامية العربية عن مآل الأردوغانية (مع عدم النية لتصنيم هذه الأخيرة، خاصة وأن محاكاتها اللفظية الجزئية سمحت للإسلاميين العرب بممارسة أصناف من التحايل). فتخلفت عن السبيل الدستوري لتأطير الاختلاف والتداول على السلطة، وجنحت بدلاً من ذلك إلى تركيب معادلات قمعية مع ما أوتي من أجهزة أمنية، بالضدّ من المجتمع المفتوح ومن المواطنية الحديثة، وبذريعة مكافحة “الثورة المضادة” (وهنا أيضاً يبدو إكثار الحديث عن ثورات مضادة كاريكاتورياً سواء في خطاب الإسلاميين أو أخصامهم).
كل هذه “الردّات” كُتِبَ على الشعب السوريّ مواجهته في وقت واحد. ردّات لا ناقة له فيها أو جمل، غير أنها تتكامل مع الحرب التدميرية التي يشنّها النظام البعثي منذ عامين ضد المجتمع السوري، والتي تستفيد من عناصر الضعف الموضوعية في الثورة السورية التي كان لا مفر منها، والأخطاء السياسية التي كان من الممكن تفاديها، وفي طليعتها عدم مبادرة الثورة السورية لتبني منظار تعدّدي جريء لحل المشكلة القومية والدينية في سوريا، بحيث تكون سوريا للجميع ومنسجمة مع نسيجها الأكثري، دينياً أو لغوياً، في وقت واحد (التعاطي مع الأكراد لا يمكن أن يشكّل إلا تطبيقياً على هذا).
وفوق كل هذه الردّات، ما كان ينقص الشعب السوريّ إلا خطاب الحقد والكراهية والعقد التاريخية التي ترد خصوصاً من فئات لبنانية، والتي يمكن اختصارها باصطلاح واحد: “اللاسنّية”. فبعد أن كانت الكراهية تتستّر بالعداء “الأيديولوجي” للنيوليبرالية، والبترودولار، وحقوق الإنسان، ولبنان أولاً، وتنظيم القاعدة، والسلفية، صارت الكراهية سافرة، نافرة، وقحة، خسيسة: العداء للسنّة كسنّة، التحريض عليهم كقوم، “صادف” أنه قوم أكثري في سوريا، وأن حرباً تدميرية ذات طابع إباديّ تشنّ ضد هذا النسيج الاكثري للمجتمع السوريّ. وطبعاً، تتداخل “اللاسنيّة” في سياقها العراقي (الانتقامية المذهبية في مواجهة الإرث الصدّامي الثقيل) مع السياقين السوريّ واللبناني لها، وان كان يقتضي ذلك تحدّيات مضاعفة من سنّة لبنان وسوريا والعراق. فإذا كانت السنّة تُتهم من “حلف الأقليات الدمويّ” بأنها تمارس الكتمان والتقية فتتستر على تكفيريتها، بمسميات وطنية وليبرالية، في حين أن التسنّن قام أساساً على رفض بناء الجماعات على أساس تأصيل وتوزيع مستويات التقية والكتمان، فإن الحلّ لا يكون أبداً بجرّ أبناء المجتمعات السنيّة الأهلية إلى دوامة المظلومية والعاشورائية “السنّية” والكربلائية، أو إلى التمثّل بمركّبات النقص والاحتقان والانتقامية الأقلوية.
بإيجاز شديد أنه التحدّي السنيّ في البلدان الثلاثة، لبنان وسوريا والعراق، لرفع رايات لبنان أولاً وسورياً أولاً والعراق أولاً، ولرفع لواء التعددية السياسية واللغوية والجغرافية القصوى بحسب مقتضيات كل بلد، وبالقطع مع الإيديولوجيا القومية العربية التي مهّدت قبل كل شيء لنكبة أهل السنّة والجماعة في بلدان المشرق العربيّ، مرة في العراق، حين قهر صدام حسين جموع الأكراد والشيعة، ومرة في سوريا، حين عطّلت “العروبة القومية” النخب التقليدية المخضرمة عثمانياً وكولونيالياً، ووضعت السلطة في سلك الضبّاط الأقلويين، ثم فئة منهم، لننتهي الى ما لا بدّ له أن ينتهي.
المستقبل