حسان عباسصفحات سورية

عدوّ عدوّي../ حسان عباس

 كان يبدو واضحاً في الأشهر الأولى لقيام الانتفاضة السورية أن موازين القوى الفاعلة على الأرض تميل يوماً بعد يوم إلى جانب الحراك المدني، رغم الغياب المطلق لأي تناسب بين القوة العسكرية، المعدومة آنذاك ولوقت ليس بالقصير، لهذا الحراك والقوة اللا متناهية للمنظومات العسكرية وشبه العسكرية العاملة تحت إمرة النظام. لكن ثمة سلاحاً افتقده النظام وامتلكه الحراك وكان بمثابة عامل التثقيل الذي جعل كفة هذا الأخير راجحة باضطراد: إنه سلاح الحق بكل ما يحمله من أبعاد أخلاقية، أو معنوية أو رمزية. فالانتفاضة كانت ضد الاستبداد وما ينتجه من إذلال مستمر للمواطن وهذا ما جعلها انتفاضة للحرية. والانتفاضة كانت ضد الفساد وما يسببه من تهتك في أخلاق وهذا ما جعلها انتفاضة للكرامة.

هذا السلاح هو ما كان يحرك ملايين المواطنين في المظاهرات والاعتصامات رغم العنف المتصاعد للنظام وأجهزته. وهو ما كان يدفع بالعسكريين الرافضين للامتثال للأوامر بمواجهة المظاهرات بالرصاص إلى الانشقاق، وهو ما كان يجمع رأياً عالمياً مناصراً للانتفاضة ورافضاً للنظام ولآلياته القمعية، وهو ما كان يقض مضجع النظام لأنه يعلم، ليس لذكائه وإنما لأنها من بديهيات السياسة ومن تعاليم التاريخ، أن السلاح لا يقوى على احتواء روح المقاومة عندما تتملك الشعب.

والحال هذه، كان لا مفر أمام النظام من  العمل على أمرين: سحب الحراك من أرض النضال السلمي إلى أرض الصراع المسلح، من جهة، واختلاق عدو على شاكلته، يشبهه في توحشه وتغوّله، من جهة أخرى.

تكفّل العنف العاري الموجّه إلى المتظاهرين والمعتصمين، وإلى حاضنتهم الشعبية، وإلى الناشطين السلميين، بإنجاز الأمر الأول تبعاً لمتوالية ردود الفعل التصاعدية. ولم تقصّر قوى خارجية، ومنها قوى سورية تعيش في الخارج، في سكب الزيت على النار لمآرب وغايات لم تكن مبيّتة بل مُعلنةً في وضح النهار.

أما الأمر الثاني فقد كان العدو جاهزاً في الحقيقة، وخلال سنوات طوال لم يكن النظام بعيداً عن المساهمة في تغذيته وتشغيله، لكن كأداة يتلاعب بها ويوظفها في سياسة تصدير العنف. وهي السياسة التي سعى من خلالها إلى زعزعة استقرار الإقليم المحيط لاكتساب مظهر النظام المستقر (لطالما قرعت أبواق النظام “الأكاديمية” آذاننا بأن سورية من أكثر الدول أماناً في العالم، دون أن تشير البتة إلى السياسات الخارجية والداخلية التي كانت تحقق ذاك الأمان الصوَري؟؟). والشواهد على الأمر ليست بقليلة بدءاً من دور أجهزة النظام في لبنان وانتهاء بعمليات تسهيل عبور “المجاهدين” إلى العراق، مروراً برعاية حزب العمال الكردستاني، والقائمة تطول.

ومع بداية الانتفاضة قام النظام بالإفراج عن عشرات آلاف المعتقلين (باعتراف الأسد) كانوا في غالبيتهم العظمى من المتورطين بجرائم تهريب السلاح والمخدرات الذين سرعان ما عادوا إلى نشاطهم التهريبي الذي يصعب على المرء تصديق ازدهاره وتضخمه بدون مشاركة من الأجهزة المسؤولة عن مراقبته وضبطه. وكان من بين المُطلق سراحهم جهاديون من وهابيين وغير وهابيين، سرعان ما وجدوا الطرق اللازمة لتشكيل بنى جهادية مقاتلة، مستفيدين من رعاية تنظيم القاعدة وتفرعاته، ومن رغبة الحكومات المتصارعة مع الجهاديين بالتخلص منهم في بلادها، ومن تمويل عدد من شيوخ النفط السلفيين، ومن تساهل الرقابة الحكومية، كي لا نقول تواطؤها، في تواجد هذه البنى.

ساهمت هذه العوامل مشتركة في ظهور الوحش الجديد الذي لن تكون فائدته في محاربة النظام أكبر منها في منح هذا النظام شكلا من أشكال الشرعية الدولية المتمترسة وراء الخوف من انتشار الإسلام الجهادي. وهكذا صار لدى النظام عدو الشعب عدوا صنوا له، لا يقل عنه شراسة، بل وتتفوق أفعاله في وحشيتها على وحشيته. عدو لا يوقف خراب البلد بل يزيد من خرابه ناهيك عن أنه يمنح النظام المبرر لحرقه.

أمام حلبة المصارعة بين هذين العدوين، يقف الشعب السوري المنتفض من أجل كرامته، الرافض للاستبداد وللإرهاب، المنهك مما أصابه من مآس وشرور، المحبط لمشهد الأفق المظلم، يقف ليقول: ليس صحيحا أن عدو عدوي هو صديقي، إن عدو عدوي هو اليوم عدوّي أيضا.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى