“عزاء”بوئثيوس و”عزاءات” بوتون.. الفيلسوف كمُعالج نفسي/ أسامة فاروق
كان يمكن أن يكون عنوان هذا الكتاب: الفلسفة كعلاج نفسي
كان أنيكيوس مانليوس بوئثيوس سليل عائلة رومانية مؤثرة، ولد لأسرة أرستقراطية عريقة تحولت إلى المسيحية في القرن الرابع، كان واسع الاطلاع، فاكتسب مكانة رفيعة أوصلته إلى منصب الوزارة في عهد ثيودريك ملك القوط الشرقيين في إيطاليا، على أن ثيودريك لم يلبث أن اتهمه بالخيانة فغدر به وأعدمه.
في أثناء انتظاره لتنفيذ عقوبة الإعدام كتب بوئثيوس “عزاء الفلسفة”. حقق الكتاب صدىً واسعاً وتأثيراً كبيراً في القرون الوسطى وعصر النهضة، انشغل به الفلاسفة والمؤرخون والشعراء ودرسوه بشكل مكثف. وما زال الكتاب حتى اليوم يحظى بأهمية كبرى بين القراء.
اتخذ “عزاء الفلسفة” شكل حوار بين بوئثيوس و”السيدة فلسفة”، وناقش مختلف القضايا ذات الثقل الاجتماعي مثل الأخلاق، وطبيعة الله، وعلاقته بالعالم، الخير والشر، الحرية والحظ، والطبيعة الحقيقية للسعادة.. الحياة الإنسانية بشكل عام.
محتوى الكتاب لم يكن وحده المدهش، بل أيضاً الشكل الأدبي الذي صيغ فيه، فهو ليس رسالة ولا مقالة، ولا دراسة أو مجرد تأملات، ولا حتى شِعراً، هو مزيج من هذا كله في شكل عمل أدبي يفيد بدراية مؤلفه بأشكال أدبية عديدة، بالإضافة إلى “تعازي سينيكا” و”محاورات أفلاطون”، وغيرها.
القارئ في العصور الوسطى وجد في “عزاء الفلسفة” خلاصة إيمانه، أو بالأحرى وجد المبرر الفلسفي لهذا الإيمان، بحسب مترجم العمل للعربية عادل مصطفى. جوهر العزاء هنا هو محاولة العلو إلى رؤية الأحداث كما يراها الله، بقدر المستطاع، وبقدر ما يمكن أن يتاح للبشر: “مهمة الفلسفة أن ترتفع ببصائر الإنسان وأن تهبه شيئاً من الرؤية الإلهية. وما دام للفلسفة مثل هذه القدرة فإنها أمل الإنسان في العزاء”.
لكن في العصر الحديث تراجع “العزاء” كشكل كتابي، ربما لاستقلال الدين عن الفلسفة، وأيضاً لأن الفلسفة أوغلت في النظرية والحرفية، ونأت بجانبها عن هموم الحياة العملية، “ولأن الناس ألهتها أكاذيب أخرى وأضلتها آلهة جديدة”.
من هنا تأتي أهمية طرح آلان دو بوتون في كتابه الذي صدر للمرة الأولى مطلع الألفية الثانية، وصدرت ترجمته العربية مؤخراً، تحت عنوان “عزاءات الفلسفة”. إذ يبدو كما لو كان محاولة لإحياء الفلسفة مجدداً، واستدعائها في الواقع الجديد. فأبرز ما يقدمه بوتون هو إعادة طرح الرؤى الفلسفية وتطبقيها على واقعنا الراهن.
ولد آلان دو بوتون في زيورخ العام 1969، لكنه يعيش ويكتب الآن في لندن. وبالإضافة إلى اهتمامه بالفلسفة فهو يكتب الرواية ويعمل في الصحافة وينشر المقالات. تتمحور كتبه وبرامجه حول مواضيع متعددة، أبرزها التركيز على صلة الفلسفة بالحياة اليومية.
الفكرة الأساسية التي يطرحها هي أن الفلسفة توسع رؤية الإنسان للحياة، تجعلها أبسط وممكنة، بل وفي المتناول، تستطيع أن تعيش حياة كريمة وسعيدة، لكن فقط عليك معرفة معنى الكرامة وحقيقة السعادة، ووحدهم الفلاسفة يقدرون على إيصال هذه المعاني وشرحها، حتى إذا ما ألمت بك ضائقة معينة فإن الفلاسفة قادرون على تعزيتك ومواساتك. فالفلسفة تعني أساساً حب الحكمة والتدرب عليها. وبالتالي فإذا خالفت الناس ونقصت شعبيتك، فإن سقراط يعزيك. وإذا ما شحّت نقودك فإن الفيلسوف اليوناني أبيقور يعزيك. وحتى إذا أصبحت عاجزاً جنسياً فإن مونتين يعزيك. وإذا ما غلبك الإحباط فإن سينيكا يعزيك، وإذا تعبت في مواجهة صعوبات الحياة ومشاكلها فإن نيتشه يعزيك. أما إذا ما أصابتك جرثومة الحب فإن شوبنهاور يعزيك.
هل يعنى ذلك أنه لا يمكن الحياة بدون فلسفة؟ يجيب بوتون: من الممكن بالطبع، التوصل إلى الحقائق من دون تفلسف، ومن دون اتباع منهج سقراط.. لكننا قد نجازف في الوقوع في جهل كيفية الرد على الأشخاص الذين نخالفهم الرأي، لو لم نعمد بداية إلى التدقيق في الاعتراضات التي قد تعتري موقفنا على نحو منطقي.
وكما يرى أبيقور مثلاً، فإن وظيفة الفلسفة هي تخليص الإنسان من معاناة العقل. الفلاسفة برأي أبيقور هم أطباء الروح، يُفسرون أسباب اليأس والإحباط لدى الإنسان، كما تنقذنا الفلسفة من نماذج السعادة الخاطئة “اللذة هي المنطق وغاية الحياة السعيدة”، إذ ينفي وجود طريقة أُخرى غير اللذة لإدراك الخير.. هذه طريقته، وهناك بالطبع طرق أخرى يقدمها الكتاب عبر فلاسفة آخرين.
لكن، رغم ذلك، ربما يكون من الظلم طرح كتاب بوتون مع كتاب بوئثيوس في سياق واحد بما يحمله ذلك من مقارنه واجبة. فصحيح أن كتاب بوتون لا يغرق في ألغاز الفلسفة، يبتعد عن المصطلحات المعقدة، ويحاول تبسيط الأفكار وتطبيقها على الواقع قدر الإمكان، ويستعيد روح الفلسفة مع الواقع الحالي الأكثر تعقيداً، لكنه في الوقت نفسه يحمل سمة الأعمال الأكثر مبيعاً، إذا صح التعبير. لا أريد أن أتهمه بالخفة، لكنه ليس عميقاً أيضاً. كما أن أراء الفلاسفة تبدو في بعض المواضع كدروس التنمية البشرية، أو كتب “المساعدة الذاتية” (self help)، ربما في محاولة لتسلية القارئ، أو بحثاً عن قارئ جديد. كلمة ظهر الغلاف تعزز هذا الانطباع: “كان يمكن أن يكون عنوان هذا الكتاب: الفلسفة كعلاج نفسي. فهذا الكتاب اللافت سيُشعرنا على نحو رائع بالتحسُّن بطريقةٍ جيّدةٍ، بمعيارَين متساويَيْن من الذكاء والحكمة.. من مؤلّف كتاب “كيف يمكن لبروست أن يغيّر حياتك”، هذا عملٌ مبهجٌ يُثْبتُ أنّ الفلسفة يمكن أن تكون مصدرًا أسمى للمساعدة على التفكير في المشكلات الأكثر تسبُّبًا للألم”.
حتى العنوان الفرعي للكتاب يوحى بالأمر نفسه “كيف تساعدنا الفلسفة في الحياة”. في حين أن الأنسب ربما هو “كيف يعيش الفيلسوف”.
بوتون نفسه يشير إلى ذلك بشكل غير مباشر حين يحذر من الوقوع في شهوة المعارضة، يقول إن ثمة مجازفة أن يحركنا موت سقراط لأسباب خاطئة، إذ قد يعزز إيماناً عاطفياً بصلة قوية بين أن تكون مكروهاً من الأغلبية، وأن تكون على حق: “قد يكون قدر العباقرة والقديسين أن يعانوا حالات سوء فهم مبكرة، ثم يكرس لهم تمثال برونزي على يد ليسيبوس. قد لا نكون عباقرة أو قديسين (أو فلاسفة) وقد نكتفي –ببساطة- برفع شأن موقف التحدي فوق الأسباب الموجبة له”.
(*) “عزاءات الفلسفة.. كيف تساعدنا الفلسفة في الحياة”، صدر مؤخراً عن دار “التنوير”، ترجمة: يزن الحاج.
المدن
لتحميل الكتاب من الرابط التالي
عزاءات الفلسفة.. كيف تساعدنا الفلسفة في الحياة
صفحات سورية ليست مسؤولة عن هذا الملف، وليست الجهة التي قامت برفعه، اننا فقط نوفر معلومات لمتصفحي موقعنا حول أفضل الكتب الموجودة على الأنترنت
كتب عربية، روايات عربية، تنزيل كتب، تحميل كتب، تحميل كتب عربية.