عزلة المنكوبين/ راتب شعبو
يتكرّر الحال دائماً. في طوابير الجوعى وقوافل المهاجرين واللاجئين وأهل الخيام ومعاقي الحرب وأيتامها ومفجوعيها.. تلبس الوجوه مصائرها، أو يستخرج المصير من الوجوه الملامح التي تناسبه وتشبهه.
تتمكن النكبة من ضحاياها حين يُعزلون في دائرة النكبة ويُشار إليهم كضحايا. حينها لا يجد المنكوبون المعزولون سوى الاستسلام، من يجوع سيقف متهالكاً في الطابور، ومن يهدم بيته سيتشرّد ويحمل ملامح التشرّد في عينيه ووجهه.
هذا الاستسلام الذي لا محيد عنه، يشبه السقوط في حفرة، فهو يجعل الآخرين ينظرون إليك من الأعلى حتى وهم يتعاطفون ويتضامنون. هذا الاستسلام القهري يمرّر إلى النفس الخارجية الرائية رسالة مسمومة تطابق بين المصير وصاحبه، وكأن هذا المصير ينتمي لصاحبه كما تنتمي له جيناته وملامح وجهه.
للاعتياد دور في هذا بلا شك. العاهة تصبح من ملامح صاحبها مع الوقت حتى يصعب تخيّله دونها. وفي غرفة المرضى المزمنين قد تبدو الوجوه وكأنها مخلوقة لتناسب هذه الأسرة الكئيبة، وإذا ما تنافر وجه من الوجوه مع هذا الاعتبار، فإن القليل من الزمن سوف يكفي لتطويع هذا التنافر وردّ الوجه إلى تلاؤمه مع مصيره، كوجه لمريض، هنا مكانه ولا عجب.
لكن في الخدعة النفسية التي تخلق الملاءمة بين المنكوبين ومصائرهم ما هو أبعد من موضوع الاعتياد. إنه بالأحرى آلية نفسية للابتعاد، لرسم خط فاصل بين أهل المصير وبينك، مهما تكن الروابط التي تجمعك بهم.
من الأفضل أن يكون هذا الخط الفاصل “طبيعياً”، ألا يكون لك يد فيه، فيبقى ضميرك حراً، ويمكنك أيضاً أن تعزز من “إنسانيتك” بالتعاطف، وأن تتهم ضمائر الآخرين غير المتعاطفين. وينبغي لهذا الفاصل أيضاً أن يكون متيناً بما يسمح لك بالتعاطف والتضامن دون أن يتحطم فتصبح في مصير من تتعاطف معهم. أي ينبغي لهذا الفاصل أن يسمح لك بالتضامن من الخارج، وبالحفاظ على خارجيتك مصانة ثم مشبعة بالرضى الذي يجلبه التضامن مع بؤساء.
بعد قليل، تنزلق العلاقة بين المنكوبين ومصائرهم في نفوس الخارجيين، إلى مستوى أدنى، فتعزو النفس، بطريقة ما، مسؤولية غامضة للبؤساء عن مصيرهم. تميل النفس، دون حاجة إلى أي تماسك منطقي، إلى ابتكار علاقة موضوعية بين البائسين ومصيرهم. شيء ما يشبه الكارما. كالاعتقاد بأن البؤس لا يختار ضحاياه اعتباطاً. لسبب ما، لا يمكننا إدراكه، استحق هؤلاء مصيرهم. لكننا نتعاطف معهم ونقدّم ما نستطيع، فضمائرنا وإنسانيتنا ومبادئنا تقود سلوكنا.
بعض المعتقدات تعتبر الإعاقة الخلقية عقاباً سماوياً، وتعفي معتنقيها حتى من التضامن مع المعاق باعتبار أنهم ليسوا أرحم من الله الذي خلقه على هذه الصورة، أو الذي قدّر أن يفقد بصره أو يُشل أو تبتر يده. محاكمة من هذا المستوى تتسلل إلى النفس فيما يخص المنكوبين. هناك علاقة خفية يصعب أو يستحيل إدراكها جعلت هؤلاء ضحايا على يد قوة محددة (سلطات مستبدة مثلاً أو قوى عظمى أو تنظيمات عسكرية) سخّرتها تلك العلاقة الخفية لإنفاذ إرادتها، وبقينا نحن للتعاطف والتضامن، أو للتشفي وإدارة الظهر. ألا توحي ملامحهم بأنهم أهل لهذا المصير؟!
يتدحرج هذا التسلسل النفسي الذي ينبغي وصفه بغير الإنساني، رغم أنه غير واع، إلى مستوى تبرئة النفس من الكوارث السياسية التي هي من صنع أنفسنا، وكأنها كوارث طبيعية. هكذا تبعد النفس عن نفسها المسؤولية عن اختلال التوازن، وهكذا نرضي أنفسنا بالتعاطف والتضامن مع ضحايا، معتبرين أن لا يد لنا في مصائبهم.
يمكن لهذا التسلسل أن يتحطم دفعة واحدة فيما لو انكسر ذلك الفاصل الوهمي بين أهل المصير ومراقبيهم الخارجيين. مثلاً، ماذا لو تكرّس في الثقافة العامة أن من شرّدوا من بيوتهم لهم حق متساوٍ في البيوت الباقية، وأن على غير المنكوبين تقاسم المساحة معهم؟ وماذا لو اعتبر من حرموا من موارد عيشهم أن لهم الحق في موارد العيش المتاحة لمن لم تدمر موارد عيشهم وأن على هؤلاء تقاسم العيش معهم، وأن مساحة الحياة المتبقية في بلد منكوب، هي حق للجميع؟ ماذا لو نظرنا إلى نكبة جزء من البلاد أو من العالم على أنها نكبة لكل البلاد ولكل العالم؟
عندئذ لا يصبح التعاطف أو التضامن فضلاً أو إراحة للضمير بل واجباً مفروضاً لا مهرب منه. عندئذ، وهذا هو الأهم، تغدو مواجهة مصدر الشر والنكبات مسؤولية الجميع، لأنه عندئذ سوف يغدو الشر نَفوذاً إلى حياة الجميع، وبذلك سوف تستبدل علاقة التعاطف والتضامن بعلاقة المساواة والمشاركة والوحدة.
عندها تصبح النكبة شأناً عاماً وليست شأن المنكوبين، وينمحي الخط الذي يعزل المنكوبين في دائرة النكبة، لأن هذه الدائرة سوف تتسع لتشمل الجميع، وعندئذ فقط يكف المنكوبون عن التماهي بمصائرهم البائسة.
العربي الجديد