عزيز العظمة: علاقة الإٍسلام بالديمقراطية إشكالية وهمية والعلمانية تعرضت للخيانة من قبل منظّريها
حسن سلمان
تونس – «القدس العربي»: يرفض المفكر السوري عزيز العظمة مقولة «الدولة ضد الأمة» التي يعتمدها بعض المفكرين، ومنهم برهان غليون، مشيرا إلى أنه ليست هناك دولة لا تمتلك في الأساس جذورا اجتماعية، كما يؤكد في المقابل أن الحراك القائم في العالم العربي أثر سلبا على عدد من الدولة العربية وحول بعضها إلى دول فاشلة أو «دولة ميليشيات» كما هو الحال في سوريا وليبيا.
ويرى أنه من الخطأ الحديث عن وجود إشكالية حول علاقة الإٍسلام بالديمقراطية، على اعتبار أن الديمقراطية لا يمكن أن يُفكر بها بأسلوب ديني، مشيرا إلى أن هذه الإشكالية تم افتعالها من قبل بعض المثقفين العرب الذي أصبحوا في نهاية المطاف بمثابة الرديف للدعاوى الإيديولوجية الإٍسلامية التي روجت لهذا الأمر، ويدعو في المقابل إلى إعادة التفكير بعلاقة الدين بالشأن العام ومنح العلمانية أهمية كبيرة لأنه «بدونها ليس لدينا حلول مُرضية تؤدي بنا إلى الانخراط مجددا في التاريخ بدلا من الخروج منه».
○ تؤكد في إحدى مقالاتك الأخيرة أننا نعيش زمن أصوليات واردتداد نحو قرون وسطى، هل يعني ذلك أنك لا تعترف أساسا بمقولة «الربيع العربي»؟ أم أنك كبعض المثقفين العرب أُصبت بخيبة أمل بعد استحالة هذا «الربيع» إلى خريف أصولي؟
- في الواقع لا هذا ولا ذاك، أنا مثل كثيرين غيري استقبلت «الربيع العربي» بكثير من التفاؤل ولكن مع قدر كبير من الشعور بعدم الراحة والحذر، وهذا مرده أمران، الأول يتجلى بإدراك شراسة العدو الداخلي وخصوصا الدولة في سوريا، والثاني يتمثل بإدراك القصور التنظيمي واللوجستي والسياسي للمعارضة، وهناك أيضا أمر آخر لا يبعث على التفاؤل وهو قناعة قديمة لدي وتتجلى في أن القوى المؤثرة في الخارج كانت راغبة منذ زمن بعيد بتسليم أمورنا إلى الحركات السياسية الإسلامية، فبالتالي كانت لدي شكوك حول نضج أدوات التحول مع معرفة وإدراك عميق للأزمة الموجودة في كل الدول العربية وخاصة في دولة مثل سوريا. أزمة استبداد وإهانة للمواطن وأزمة اقتصادية بالغة الحدة، وبالتالي وضع متفجر، والانفجار حصل على ما يُرى.
○ عندما تشكك بنضج أدوات التحول والتغيير فهذا يعني أنك توافق جورج طرابيشي عندما يقول إننا استعجلنا «الربيع العربي» كرها بالأنظمة الاستبدادية الموجودة، أليس كذلك؟
- نعم، لم يكن هناك نضج في أدوات التغيير وهذا طبعا ليس قصورا في السوريين أو المصريين أوغيرهم (التونسيون مثلا أكثر نضجا من غيرهم وأدواتهم أكثر تكاملا) ولكن القضية هي أن قوى المعارضة في مصر وسوريا مثلا لا تمتلك تجربة سياسية منظمة، بمعنى أن تجربة التفكير السياسي كانت شبه معدومة وهذا ما يدعوني للقول إن تجربة التغيير لم تكن ناضجة.
○ تحدثت عن تحضير القوى الخارجية أو الغربية لوجود حكومات إسلامية في العالم العربي، هل هذا يعني أنك تؤمن بنظرية «المؤامرة» في هذا المجال؟
- هذه ليست مؤامرة، بل سياسة مبنية على تقدير، والتقدير الأمريكي والأوروبي أن القوى القادرة على فرض شيء من التوازن والانتقال السلمي والضبط الاجتماعي في منطقتنا هي القوى الإسلامية، وهناك تأييد ودعم غربي قديم للقوى الإسلامية في المنطقة، بدأ منذ اجتماع سعيد رمضان بآيزنهاور في منتصف الخمسينيات، وهذا الحلف القديم أصبح أكثر أهمية خلال الحرب الباردة، على أساس أن الإسلام كان من السبل الأيديولوجية لمقاومة القومية العربية والاتجاهات اليسارية والصديقة للاتحاد السوفييتي في المنطقة، يعني هو تحالف قديم وليس مؤامرة على الإطلاق.
○ لكن الإسلاميين الذين كانوا مؤهلين بطريقة أو بأخرى للحكم، أثبتوا فشلهم في تجربة الحكم في تونس ومصر رغم تلقيهم دعما كبيرا في البداية (شعبيا وماليا من دول كبيرة)، كيف تفسر ذلك؟
- أفسره بعدة أمور، تتجلى في وجود وهم كبير عند القوى الإسلامية يتلخص في اعتقادهم بتمثيل الشعب عبر دعوتهم إلى تأسيس دولة إسلامية في المنطقة، ومن ثم وجود اعتقاد قديم لديهم بأن أي شخص ولد مسلما فهو بالتالي إسلامي الهوى في السياسة، وتبين لاحقا أن هذا غير صحيح وخطأ كبير في التقدير، أضف إلى ذلك وجود قدر كبير من التعطش للسلطة وتبني خطاب «المظلومية» لديهم.
ويبدو أن الإسلاميين التونسيين أظهروا وعيا أكثر وتداركوا الأمر قبل فوات الأوان. أما في مصر فكان ثمة جمود لا حد له من طرف مرسي الذي كان ممثلا لحركة الإخوان المسلمين في رئاسة الجمهورية المصرية.
○ في رأيك لماذا لم تتكرر تجربة الإسلام السياسي التركية في مصر وتونس؟
- يجب أن لا ننسى أن تركيا أكثر تطورا من جميع الدول العربية، وأنعم الله عليها بتحولات اجتماعية قادها أتاتورك أدت إلى تغييرات فعلية في المجتمع الذي أصبح أكثر تفتحا وتطورا وأكثر مقدرة على ممارسة السياسة والتفكير فيها مما هو الحال عليه لدى الإسلاميين العرب، ويمكن القول، بدون مبالغة، إن ثمة فرقا حضاريا كبيرا بين تركيا والعالم العربي.
○ هل يعني ذلك أنك توافق على مقولة «تعلمن الإسلاميون فنجحوا في الحكم» في بلد مثل تركيا؟
- فعلا الإسلاميون تعلمنوا وخاصة حزب العدالة والتنمية الذي دمج نفسه في سياق الدولة العلمانية، وبهذا السبيل هو الآن يحاول أن يعالج الوضع على صورة تعود فيه للدين الأهمية التي كانت له منذ قرن، أي أن هناك نظرة تراجعية قليلا ولكن بالأساليب التي ورثوها عن أتاتورك.
○ أعود للعالم العربي، كيف تفسر ظهور حركات إسلامية متطرفة جدا كـ«داعش» و«النصرة» في سوريا و«أنصار الشريعة» في تونس وليبيا، هل هي نتيجة طبيعية لعقود من الاستبداد (كما يؤكد سعيد ناشيد)؟
- أرى أن الاستبداد هو أحد العناصر التي وفرت ظروف نشأة قوى من هذا النوع، الاستبداد ليس فقط بمعناه المجرد أو الأخلاقي، وإنما بمعنى ممارسته للسياسة القمعية بشك ل يومي وتدخل أجهزة الأمن والمخابرات في كل صغيرة وكبيرة وإهانة الناس ومصادرة الأرزاق، ولكن علينا الإشارة إلى أمر في غاية الأهمية وهو جنوح الكثير من فاعليات الدولة، حتى في دولة مثل سوريا، إلى نشر خطاب إسلامي محافظ إضافة إلى أن الفضائيات والنظم التربوية والإعلامية الإسلامية المدعومة ماليا بشكل غريب وغير مسبوق، وفرت جوا من التفكير الأصولي في الأمور العامة، وأعتقد أن هناك رابطا بين ما يقول به ما يسمى «الإسلاميين المعتدلين» و»الجهاديين المتطرفين» وما يجمع كل هذه القوى هو الاحتكام إلى النصوص القديمة.
أي أن ما يفعله «داعش» بغض النظر عن الأمور الموغلة في الوحشية، كله موجود في الكتب التراثية والدينية المعتمدة، فبالتالي هذا النوع من التفكير في شؤون الدولة وفي صلاحية القرآن والحديث والتراث لكل زمان ومكان جعل الناس قادرين على تقبل أفكار من هذا النوع، وفي وضع التأزم وغياب القيم والصلات العادية بين الناس، لا يصبح الأمر عصيا على الفهم.
○ هل تريد القول إن «داعش» لم يهبط من السماء، بل هو نتيجة خطابنا التكفيري على مدى عقود؟
- نعم هو كذلك، والفرق بين «داعش» وما يقوله بعض العلماء الوهابيين هو أنهم (الوهابيون) يتكلمون عن طاعة ولي الأمر، ولكن البرنامج الاجتماعي والأيديولوجي واحد.
○ هل تعتقد بوجود «تواطؤ» بين بعض الحكومات الإسلامية وهذه الحركات المتطرفة؟
- من المعروف أن كثيرا من هذه الحركات المتطرفة ممولة من قبل دول عربية معروفة، وهذا ليس أمرا جديدا، خصوصا أن هذه القوى تُستخدم حاليا ضد سوريا، ولكن يجب أن لا ننسى أن الدولة في سوريا خلقت أيضا «فتح الإسلام» وبعض القوى الأصولية الأخرى وأرسلت بها إلى لبنان والعراق، وأخرجوهم لاحقا من السجون في بداية الأزمة، دائما كل من لعب هذه اللعبة، إن كانوا الأمريكان في أفغانستان أو الدولة السورية أو أنور السادات، كلهم لُدغوا في النهاية من الجحر نفسه ولم يتعلموا من هذا الأمر.
○ أين هي النُخب العربية مما يحصل حاليا، ولماذا انخرط بعضها في الدفاع عن الأنظمة المستبدة بعد سنوات من تبنيه خطابا «معارضا»، فيما تخلى آخرون عن خطابهم المعتدل وتبنوا خطابا طائفيا يعتمد على إقصاء الآخر بشكل كلي، ولم تتهم أنت المثقفين السوريين بالتعالي والشعبوية؟
- الإتهام بالتعالي والشعبوية مبني على أساس واحد، فعندما يُفتي المثقفون السوريون وغيرهم بأن الجمهور لديه تشوه خلقي يجعله عصيا على التنمية وغير قابل للتطور وبالتالي حبيس الخطاب القرآني أو الخطاب الديني، فهذا أعتقده تعاليا، كما أن هناك تخليا عن مهمة أساسية هي المهمة التعليمية والتربوية التي كانت أساسية جدا لدى المثقفين العرب قبل ثلاثة عقود، عندما بدأوا في التخلي عن هذه المهمة وأصبحوا إما بيروقراطيين بشكل أو بآخر أو فضلوا الإنزواء والخروج من المجال العام، وهذه أيضا قضية تعالٍ.
أما أين النخبة العربية، فعن أي نخبة تتكلم؟ هناك نخب فاعلة في السياسة وهناك نخب ثقافية لها مواضع مختلفة، أنت أشرت إلى اثنتين منها، وهناك طبعا مواضيع أخرى، وأعتقد أن دور المثقفين في العمليات السياسية القائمة اليوم، إذا استثنينا تونس، شبه معدوم، أما لماذا نحا الكثير منهم إلى الانتصار للنظم الاستبدادية فهو بكل بساطة بسبب الخوف من الإسلاميين، أما تبني خطاب طائفي فهو نوع من الانحراف وعدم استعمال العقل والإنجراف نحو ما هو حاصل في سوريا من اصطفاف طائفي، وهذا الإنجراف لا عذر له، أي أنه لا يمكن أن نجد عذرا لمن انتقل إلى الموقع الطائفي في سوريا.
○ إلى أي مدى أثر الحراك الحالي في العالم العربي على تماسك «الدولة العربية» التي تدافع دوما عنها وتؤكد أنها متقدمة على المجتمع؟ وهل نحن اليوم أمام دول عربية فاشلة أو «دولة ميليشيات» كما في الحالة الليبية أو السورية مثلا؟
- ليست كلها، سوريا مثلا تسير في هذا الاتجاه حيث تم تحويل جهاز الدولة إلى جهاز ميليشياوي، والدولة أيضا أنشأت ميليشيات طائفية داخل سوريا تقاتل إلى جانب الجيش باسم «قوى الدفاع الوطني» أو «الشبيحة»، واستجلبوا بعض الميليشيات من لبنان والعراق وغيره، أما في تونس ومصر فأعتقد أن الدولة استعادت زمام المبادرة، وأعتقد أن الوضع الذي تنهار فيه الدولة هو وضع شنيع جدا، نرى ما هو حاصل في ليبيا، وحرف الدولة تجاه مآرب خاصة كما هو الحال في سوريا، وأعتقد أن لهذا الأمر نتائج وخيمة جدا على المدى البعيد.
ولا بد من التأكيد أنه دون الدولة ليس هناك من ناظم للإجماع الوطني، ولكن إذا انحرفت الدولة أو حُرف بها من قبل فئة متسلطة عليها فطبعا الوضع سيكون مفتوحا على جميع الاحتمالات والأرجح أن تكون النتائج وخيمة وهذا الأمر ينطبق على سوريا.
○ البعض يقول إن الأنظمة العربية ساهمت في تحجيم مفهوم الدولة وابتلاعها بحيث تحولت بعض الدول إلى «مزارع عائلية» أو «دولة ضد الأمة» كما يعبّر برهان غليون، ما رأيك في ذلك؟
- مقولة «الدولة ضد الأمة» ليس لها في الواقع معنى، أولا ليست هناك دولة، ومنها دول عاتية في الاستبداد مثل الدولة السورية، لا جذور اجتماعية لها ويمكن أن نشير إليها بكثير من الوضوح، فبالتالي الحديث عن «الدولة» دون تعيين و»الأمة» دون تعيين غير جائز، ويجب أن نكون واضحين حول الموضوع الذي نتكلم فيه، أما تغول الدولة كما في سوريا، فهذا ناتج عن الإستئثار من قبل فئة صغيرة ومحدودة بالقدرة على القمع والاستغلال الاقتصادي لكل الموارد.
○ البعض يحذر من محاولة تفكيك الأنظمة المستبدة لأنها ستقود إلى انهيار الدولة كليا، ما رأيك بذلك؟
- هذا ممكن، وقد حصل في العراق وقد يحصل في سوريا في المدى البعيد وهذا خطر، ولكن في اعتقادي أن الرد على ذلك ليس بمواصلة الاستبداد القائم، بل يجب البحث عن طريق آخر.
○ في ظــل الوضع الكارثي الذي يعيشه العالم العربي، هل نحن في حـــاجة لإعادة النظر بمسلماتنا الفكرية السابقة وخاصة فيما يتعلق بعلاقة الإسلام بالديمقراطية مثلا؟
- علاقة الإٍسلام بالديمقراطية إشكالية غير قائمة بل وهمية، فالديمقراطية لا يمكن أن يُفكر فيها بأسلوب ديني، وأعتقد أنه كانت هناك عملية افتعال لقضية الإسلام والديمقراطية من قبل الكثير من المثقفين العرب الذي أصبحوا في نهاية المطاف بمثابة الرديف للدعاوى الأيديولوجية الإٍسلامية وقد تكلمت في بداية المطاف عن الإسلام والديمقراطية، فقضية الإسلام والديمقراطية عندي ليست بموضوع، بل هي موضوع وهمي.
أما قضية المسلمات، فأعتقد أننا مقبلون على وضع بالغ الجدة، يتجلى في تنامي سطوة الحركات التفكيكية داخل الدول وتنامي سطوة العناصر اللاحكومية في ممارسة العنف، يعني لو أخذنا مثلا «داعش» وكولومبيا وبعض المواقع في جنوب شرق آسيا حيث نرى الكثير من العناصر التي لا صلة لها بالدولة ولكنها مسلحة وشبه دول وعلى قدر كبير من الاستقلال الذاتي وفي علاقة صراع مستمر، فهناك وضع جديد قائم على التفكك ليست لدينا حتى الآن الأساليب الكافية للتفكير فيه على نحو جدي، وهذا باعتقادي أمر بالغ الأهمية. علينا أن نفكر في الوضع الذي استجد، حيث أصبح للدولة توصيف آخر وللحركات الاجتماعية توصيف آخر عما ألفناه قبلا.
○ إلى أي مدى نحتاج للعلمانية التي يعتبرها كثيرون ومنهم جورج طرابيشي الدواء الشافي للداء الطائفي؟
- أعتقد أن العلمانية في العقود الثلاثة الأخيرة تعرضت للكثير من الهجوم ولكثير من الخيانة من قبل علمانيين لا يريدون الكلام في العلمانية، ونحن نرى نتائج الخطاب ضد العلمانية من خلال «داعش». وفي تقديري علينا الآن كمثقفين أن نعيد التفكير في قضية علاقة الدين بالشأن العام (السياسي أو القانوني أو الاجتماعي) وأن نعمّق من التفكير بالعلمانية وأهمية العلمانية، لأنه فعلا بدونها ليس لدينا حلول مُرضية تؤدي بنا إلى الإنخراط مجددا في التاريخ بدلا من الخروج منه.
○ إذا اعتبرنا أن أغلب الحركات الفكرية في العالم كانت نتيجة كوارث أو حروب، ما هي نوعية الفكر الذي يمكن أن ينتجه «الربيع العربي»؟
- ما أنتجه «الربيع العربي» هو رضة أو شق أو هزة، وطبعا الرضات أو الهزات ممكن أن تؤدي إلى تفكير سليم وقد تؤدي إلى تفكير مَرضي، وعند الكثيرين الآن هي تؤدي إلى تفكير مَرضي على طريقة «داعش»، ولكن هناك أسلوبا آخر أرجو أن يقبل به أكثرية من يحبون أو يحاولون التفكير في العالم العربي.
أنا لست منجما، لكن من موقعي أرى أننا مقبلون على فترة وضع غير مستقر ومفتوح على كثير من الإحتمالات، ليس بإمكاني أن أجزم بأي شيء.
القدس العربي