عشائر النعيم: من الجولان..إلى أيد عاملة في لبنان والخليج/ عبد الله حنا
1 المصادفة جمعتني بتلميذي لتقديم هذه الدراسة
عندما انتهيت من إلقاء محاضرة في خريف عام 2000 في المركز الثقافي في بصرى الشام، بعنوان: “هل من سبيل إلى نهضة جديدة للعرب؟”.. تقدَّم مني شاب معرّفا عن نفسه: أنا صيتان فَلَاح العلي معلّم ابتدائي وخريج دار المعلمين الابتدائية في درعا، ومن تلاميذك في العام الدراسي 1969 – 1970. وأثناء تبادل الحديث معه تبيّن ما يلي:
– قدم والده وعمه من الجولان عام 1946، وهما من عرب (بدو) النعيم. [1] وكان الشيوخ يجمعون المشيخة من أعضاء العشيرة، والآن لم يبق لشيوخ النعيم إلا الوجاهة والسلطة المعنوية. ويرى محدثنا صيتان فَلَاح العلي أن بدو النعيم قبل ثلاثينيات القرن العشرين كانوا يَرَون في الاستيطان ذُلاّ وبيوت الشعر هي رمز العز. والطريف أنهم عندما بدأوا في الاستقرار وبناء البيوت في بصرى نقلوا حجارة البناء على الجمال.
– عمل الأخَوان (أي والد صيتان وأخوه) في رعي مواشي أهل بصرى واستوطنا فيها.
– قسم من ذرية الأخوين هاجر للعمل في بلدان النفط (الخليج). وعن هذا الطريق تمكنوا من بناء بيوت إسمنتية على الجنوب من بصرى في حارة لهم.
– وجدْتُ في حالة صيتان العلي وأهله صيداً ثميناً للدراسات الاجتماعية. ولهذا اتفقت مع صيتان على زيارته والاجتماع بأبيه وعمه والاستماع إلى ما تختزنه ذاكرتهما من معلومات عن حياتهما.
***
بتاريخ 30/ 8/ 2001 يممت شطر بصرى للقاء صيتان وأبيه وعمه. وما سنورده فيما يلي هو نقل حرفي أو خلاصة لما تحدثوا به: [2]
2 حياة عائلة من عشيرة النْعيم مستهل القرن العشرين
جدّ الأسرة محمد الظاهر من عرب النعيم المترحلين في الجولان. في السنوات الأولى من القرن العشرين قتل أحمد الظاهر، أخ محمد، بدوياً من نعيم إلى الشرق من قرية الحارّة. فاضطر الإخوة للرحيل من الجولان هربا من ثأر أهل القتيل. التجأ الإخوة في البدء إلى بَرْيّة صلخد لمدة قصيرة من الزمن، ثمّ شدوا الرحال باتجاه قرية البارحة بالقرب من إربد. وهناك عمل الجد محمد الظاهر راعيا لغنم شيخ البارحة، وفق مبدأ أن حصة الراعي في نهاية السنة “ربع الحلال” وربع صوف “الغنم الحايل”. [3]
بعد مرور فترة من الزمن وتصفية قضية الثأر مع أهل القتيل عاد عام 1920 الجد محمد الظاهر ومن بقي من إخوته حيّا إلى موطن رَبْعِهم في الجولان. عمل صيتان (الكبير) بن محمد الظاهر [4] بعد عودته مع أبيه إلى الجولان راعيا لغنم الدمشقي ممدوح حتاحت وفقا لمبدأ الفلاج. [5] بعض العائدين عمل فلاحا محاصصاً عند الإقطاعي عناد سمير في قرية عين دكر التابعة لقضاء الزوية. وكان المحصول الرئيسي حنطة وذرة بيضاء وللفلاح خمس المحصول.
3 نزوح العائلة البدوية من الجولان إلى بصرى الشام والعمل كرعاة
عام 1946 قرر صيتان مع ولديه فلاح وحسين ترك الجولان والانتقال إلى بصرى الشام للعمل فيها رعاةً لحلال أهلها. واختيار بصرى جاء بسبب سمعتها الطيبة، فقد عمل أقرباء لهم رعاة في بصرى في ثلاثينيات القرن العشرين ونقلوا انطباعاتهم عن حسن معاملة أهلها للرعاة من البدو. [6]
تألفت قافلة الراحلين من الجولان إلى بصرى الشام عام 1946 من:
1 – صيتان بن محمد الظاهر، الذي توفي بعد عدة سنوات من إقامتهم في بصرى.
2 – عوض بن محمد الظاهر (أخ صيتان) الذي لم ينجب ذرية، وتوفي في بصرى.
3 – فلاح بن صيتان، الذي قدم إلى بصرى مع زوجته وسيرد ذكره مع ذريته بالتفصيل. وهو من مواليد 1925 وأحد الثلاثة الذين أجرينا معهم اللقاء.
4 – حسين بن صيتان من مواليد 1928 أتى أعزب وسنتحدث عنه وعن ذريته، وهو أحد الثلاثة الذين أجرينا معهم اللقاء.
5 فلحة بنت صيتان وجاءت عزباء إلى بصرى، ثم تزوّجت ابن عمها المقيم في الجولان في عين دكر وكان “عنده حلال 400 رأس غنم” وله أربعة إخوة. وأنجبت فلحة من زوجها وابن عمها “أربع صبيان وست بنات”.
استأجر الراحلون ثلاثة جمال لنقلهم مع أمتعتهم من الجولان إلى بصرى. استغرقت الرحلة ثلاثة أيام و”نزلوا إلى الشرق من بصرى قرب إحدى البُرَكْ” وعندما سألت محدثي فلاح عن نوعية طعامهم في تلك الأيام أجاب: “من حواضر البيت قمر الدين، جبنة، كشك، برغل، عدس”. بعد يومين من إقامتهم جاءهم أحد وجهاء بصرى [7] وسألهم: “هل يسرحون بالحلال لأهل بصرى؟”. وكانت هذه أمنيتهم التي رحلوا من أجلها.
جرت العادة في بصرى بتقسيم “الحلال” بين غنم وماعز. قطعان الغنم “يسرح” [8] بها رعاة، غالبا من البدو، بعيدا عن القرية بحثا عن المرعى الجيد وفق مبدأ “الفلاج” وهو ربع الفطايم مع ربع مدّ قمح عن كل نعجة. أما الماعز فكان يسرح بالقرب من بصرى، حيث ينطلق الراعي بقطيع الماعز صباحا إلى المرعى ويعود به مساء ليُسَلِّمه إلى مالكيه. وكان كل رب أسرة في بصرى يملك من ثلاثة إلى عشرة رؤوس من الماعز، ونادرا من ملك 15 رأسا. معنى ذلك أن قطيع الماعز كان ملكا لعدد كبير من الأسر والراعي يأخذ أجرته مبلغا زهيدا عن كل رأس من الماعز.
اختار صيتان رَعِيْ الماعز بدلا من الغنم حتى يبقى قريبا من بصرى والاستفادة من حسنات المعمورة ومراكزها الحضارية. وكان لهذا الخيار أثره الواضح فيما بعد، حيث تمكّن، كما سنرى، أولاد فلاح وحسين من دخول المدارس والحصول على الشهادات العلمية التي غيّرت مجرى حياتهم وحررتهم من مهنة الرعي.
بعد وفاة صيتان (الكبير) عام 1947 استمر ولداه فلاح وحسين في السريحة بماعز أهل بصرى مدة عشرين عاما. وفي هذه الأثناء ملكا قطيعا من الغنم سرح فيه راعٍ من البدو وفق مبدأ “الفلاج” المذكور سابقا. وبقي الأخوان يعملان في رعي الماعز ليكونا قريبين من بصرى لتعليم أولادهما.
عاش الأخوان مع أسرتيهما حياة الأسرة الأبوية (البتريركية) حتى عام 1968. وجرى تقسيم العمل بين الأخوين على النحو التالي: “فَلاح يعمل في تجارة الحلال وحسين يرعى الحلال”. والإدارة في يد فَلَاح وهو الذي يدير الشؤون المالية. وفي عام 1960 استأجر الأخوان فلاح وحسين بيتا في بصرى للسكن في الشتاء مع بقاء بيتَي الشعر للصيف.
4
العمل في بلدان النفط وتفاعلاته
من حياة حسين .. عام 1978 ترك حسين “الحلال”، حسب تعبيره أي مهنة راعي الغنم والماعز، وهما “الحلال”، وذهب للعمل في السعودية في مهنة “صب الباطون”. وبعد سنة عاد إلى بصرى ومكث فيها شهرين لزيارة عائلته، ثم سافر إلى أبوظبي حيث عمل حارسا في بنك أبوظبي مدة 18 سنة وشهر وثلاثة أيام. وكان يزور عائلته سنويا. وفي عام 1985 بنى بيتا إسمنتيا. وبعد عودته النهائية اشترى سيارة بيك آب ومحضرين زراعيين.
تتصدر مضافة حسين بن صيتان صورة له وهو في الخليج لابسا العباءة المقصّبة لباس شيوخ البدو. قال حسين: إنه “لا يتفرّج في التلفزيون إلا على مسلسلات البدو، ولا يحب المفرّعات [9] والمسلّخات [10] وحرام على المسلم أن يتفرّج عليهم [11]”. وعندما حان وقت صلاة الظهر قام الأخوان للصلاة. وبعد انتهاء الصلاة سألت حسين: هل كنتم تصلّون سابقا؟ فأجاب: “أول ما طبّينا هون ما كنا نصلّي”. [12] وهذه حال أكثرية البدو إن لم نقل كلهم لم يكونوا يعرفون من الإسلام إلا لفظ الشهادتين. أما بعد عصر النفط وتأثيراته المتعددة فجرى تحوّل تدريجي في موقف البدو من الدين وسَارت مجموعات كبيرة منهم باتجاه التدين، وأحيانا المتزمت منه في العقدين الأخيرين من القرن العشرين.
الراعي البدوي حسين بن صيتان العلي، الذي حط الرحال أعزب عام 1946 في بصرى تزوّج من إحدى قريباته في موطنهم الأول في الجولان (عين دكر) وأنجب الذرية التالية:
1 – خالد حاز شهادة الدراسة المتوسطة (بروفيه) وذهب سنة 1982 إلى الشارقة وعمل ولا يزال شرطي مرور فيها.
2 – عبد الله حاز إجازة في الرياضيات، وعمل مدرسا للرياضيات مدة من الزمن. ثمّ سافر عام 1999 للعمل في الخليج ولا يزال هناك.
3 – أحمد وصل في تَعلُمه إلى الصف التاسع ولم يحز الشهادة. ذهب إلى الخليج وعمل في إحدى الشركات ثمّ انتقل للعمل في مكتب لتأجير السيارات.
4 – محمد خريج المعهد المتوسط الهندسي لعام 1998. بعد أن أنهى “خدمة العلم” عمل سائقا على سيارة بالأجرة. وهو يسعى للحصول على وظيفة، وإلا فإنه سيسافر إلى الخليج.
5 – بالإضافة إلى الذكور الأربعة أنجب حسين ست بنات منهنّ خمس متزوجات بتاريخ اللقاء عام 2001. ثلاثة من المتزوجات يُقِمْنَ مع رجالهنّ في الخليج، والرابعة مع زوجها في الأردن، والخامسة مع زوجها في الجولان. والجدير بالذكر أن اثنتين من بنات حسين متزوجات بأبناء عمهما فَلاح. والزواج يجري في دائرة عشيرة النعيم المبعثرة في مناطق عدة. وهم لا يزوجون ولا يتزوّجون من أهالي بصرى ولا يزوّجونهم، مع العلم أن الجميع سُنّة.
من حياة فلاح: الراعي البدوي فلاح بن صيتان العلي من مواليد 1925 والمتزوج من قريبته قبل الانتقال بقليل من الجولان إلى بصرى عام 1946 أنجب الذرية التالية:
1 – علي مواليد 1949، حاز شهادة الدراسة الثانوية وانتسب إلى قسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة دمشق لمدة سنتين، ولم يتم دراسته فيها. وأثناء الدراسة وبعدها عمل معلما وكيلا في المدارس الابتدائية. سافر عام 1974 إلى عجمان حاملا رسالة توصية من شيخ النعيم في الجولان إلى أمير عجمان [13] لمساعدته على توفير عمل له. أمير عجمان أراد تعيينه شرطيا فرفض علي باعتباره يحمل شهادة الدراسة الثانوية ودرس لمدة سنتين فلسفة. وكان علي يرى أن إمكاناته تؤهله لوظيفة أفضل. ولهذا ذهب إلى أبوظبي وعُيّن موظفا في بنك أبوظبي الوطني براتب جيد. عام 2000 افتتح علي مكتبا لبيع الأدوية الزراعية ولا يزال يعمل فيه.
أثناء تردده لزيارة أهله في بصرى تزوج علي ابنة عمه حسين وأنجبا، حتى تاريخ اللقاء، صبيّين وست بنات. الابن الأكبر لعلي درس “حسابات مصرفية”. والابنة الكبرى لعلي موظفة في بنك أبوظبي الوطني، والابنة الثانية تخرجت من معهد متوسط في أبوظبي لتعليم اللغة الإنكليزية.
يأمل علي أن يحصل على جنسية الإمارات. ويُلاحظ أن علي يرسل شهريا مساعدات مالية لوالده وللأقرباء المحتاجين. كما يرسل شهريا لأخيه صيتان مبلغ 5 آلاف ليرة سورية مساعدة لسببين: لأن راتب أخيه كمعلم في مدرسة ابتدائية لا يكفيه، والسبب الثاني يَكْمُن في أن صيتان يهتم بوالديه وهو المسؤول عن العائلة وتدبير أمورها.
2 – صَيتان من مواليد 1951 حصل على شهادة الدراسة الثانوية سنة 1969، ودرس لمدة سنة في دار المعلمين الابتدائية (صف خاص لتأهيل المعلمين) في درعا للعام الدراسي 1969 – 1970، حيث تعرّف إلى كاتب هذه الأسطر مدرس التاريخ في دار المعلمين، كما أسلفنا.
تزوّج صيتان، مباشرة بعد تخرجه من دار المعلمين، من فلحة ابنة عمه حسين، وهي غير متعلمة، وأنجبا خمس بنات وصبي. والبنت الكبرى في الصف الثاني عشر (بكالوريا) بتاريخ اللقاء.
انفصل صيتان عن أهله وبنى بيتا إسمنتيا بالقرب منهم. بمعنى أن الأسرة الزوجية وليس الأبوية هي السائدة بينهم.
3 – خَلَف تخرج من معهد إعداد المدرسين (فرع العلوم). وبعد أن درّس سنة في سورية سافر إلى الخليج ويعمل مدرساً هناك. متزوج وله ثلاث صبيان وخمس بنات.
4 – عوض مهندس ميكانيك ويحتل منصب معاون مدير النقل في محافظة درعا. تزوّج من ابنة عمه حسين وأنجبا صبيا وبنتا. “والتوقف عن الإنجاب فسيولوجي” كما ذكر صيتان. وبعد أن خدم في الدولة مدة 16 سنة غادر صيتان سورية عام 1995 للعمل في الخليج.
5 – يحيى تخرج من كلية طب الأسنان 1995 ونفقات دراسته الجامعية تمّت “من كيس الكوم” حسب تعبير صيتان. وهو الآن متردد بين البقاء في سورية والعمل فيها أم السفر إلى الخليج للعمل طبيبا للأسنان إذا حصل على الموافقة.
6 – عبد الكريم معاق بعاهة مرض “المغولي” … [14]
7 – البنات كُثُرْ وجميعهن متزوجات من أقربائهنّ [15]
محطات من حياة هذا التجمع العشائري تلخيصا أو نقلا حرفيا
– كان الزواج يتم ضمن هذه العشيرة الصغيرة أو في إطار الفخذ التي تنتمي إليه من عشيرة النعيم. والزواج خارج العشيرة لا يتم إلا “بالقهر” حسب تعبير صيتان. وذكر صيتان أن أخاه خلف “أراد الزواج من فلسطينية فأجبروه على عدم الزواج منها وتزوج قريبته”. وأضاف “يعللون الزواج من الأقارب بأنه قدوة بالرسول. ففاطمة الزهراء تزوجت ابن عمها علي بن أبي طالب”.
– عندما جرى توزيع الأراضي المستولى عليها من ملّاك الأرض في الجولان بموجب قانون الإصلاح الزراعي، قام شيخ عشيرتهم، وهو قريبهم، بتسجيل اسمي الأخوين فلاح وحسين كفلاحَين يحق لهما الانتفاع من الإصلاح الزراعي في الأراضي المستولى عليها “من الإقطاعي عناد سمير في قرية عين دكر” مكان تسجيل نفوسهما. وعندما جرى البحث الاجتماعي ذهب الأخوان فلاح وحسين مع أسرتيهما وسكنا في كوخ كي يبيّنوا للجنة البحث الاجتماعي أنهما مقيمان في المنطقة ويحق لهما الحصول على أرض الانتفاع. وهكذا حصل فلاح على 88 دونماً وحسين على 44 دونماً من الأرض البعلية في عام 1968. وبما أن الأخوين بقيا مقيمين في بصرى فإنهما يؤجران الأرض إلى فلاحين آخرين.
– يلاحظ التدرج في السلم الاجتماعي. فالبدوي الراعي فلاح بن صيتان تحوّل في خمسينيات القرن العشرين إلى مالك لقطيع من الغنم يسرح به أحد البدو من “عرب بصرى”. وهو، أي فَلَاح، ينال حصته من واردات القطيع من دون أن يسرح به. مبدأ العلاقة بين البدوي الذي لا يزال راعيا والبدوي فَلاح، الذي طلّق حياة الرعي، تسير بتاريخ اللقاء على النحو التالي: للراعي “الفلاج” أي ربع الفطايم. للراعي عشرة كيلوغرامات من القمح عن كل رأس غنم يسرح به، فيما يُعرف بمونة الراعي. إذا لم يتوفر المرعى في الشتاء وجرت تغذية الغنم بالعلف فصاحب القطيع يدفع ثمن العلف. يأخذ الراعي مئة ليرة عن كل رأس غنم حلوب أجرة حلب الغنم في الربيع وأوائل الصيف. إذا جرى نقل الغنم بالسيارات إلى أماكن المرعى فأجرة السيارة على صاحب القطيع. وكذلك الأمر في ما يتعلق بنقل الماء في السيارة لسقاية القطيع في أماكن المرعى. وفي رأي صيتان (تلميذنا والمعلم الابتدائي وابن البدوي والراعي السابق فلاح)، والذي قدّم لنا هذا العرض، “إن الراعي النشيط يمكنه بعد ثلاث سنوات من الوصول إلى ملكية قطيع من الغنم”. ولا نعلم رأي الرعاة الحاليين في هذا التقدير.
– أصبح الأخوان بفضل الإصلاح الزراعي مالكين لأرض في الجولان يؤجرانها ويحصلان على دخل إضافي من دون أن يبذلا أي جهد. وأصبح أولادهما متعلمين من دون أن يعملوا في الرعي أو الزراعة. وجاء عامل آخر في رفع سوية فلَاح إذ عمل بعض أولاده في بلدان النفط (الخليج) مما زاد في دخل أسر ذرية فلَاح، الذي استفاد من المعونات المالية لأولاده.
– عندما سألت تلميذي فَلاح: ماذا ستفعلون إذا توقف تدفق النفط وانتهى العمل في الخليج؟ فأجاب: “الله يدبّرها كل الأمم تسير بإرادة رب العالمين”. مظاهر التدين واضحة المعالم لدى الأخوين ومعهما المعلم خريج دار المعلمين الابتدائية في درعا صيتان. ولم أدخل معهم في نقاش لتتبع مراحل تطور تدينهم. فهم كما قال فلاح الكبير: “أول ما طبّينا هون ما كنا نصلي”، والآن لا يقطعون وقتا من أوقات الصلاة.
– الزواج عندهم يكلّف بتاريخ اللقاء 150 ألف ليرة سورية، منها مئة ألف مُقَدّماً و17 ألفاً تلبيسة العروس والبقية جهاز داخلي. وذكر صيتان أن كل زواج يكلّفهم من 30 إلى 40 ذبيحة لطعام المدعوين من أقربائهم في عين دكر والبدو بجوار بصرى ووجهاء بصرى ومعارفهم فيها.
– طقوس العرس تسير على النحو التالي: تعليلة مساء مع عشاء للضيوف. زفّة [16] في اليوم التالي مع غذاء لجميع المدعوين وعندما يذهب الغرباء تُعقد الدبكة بمشاركة النساء والرجال. في التعليلة والدبكة لا يستخدمون الأجهزة الموسيقية الكهربائية. ولا يزال “المِجْوِزْ” [17] سيد الحفل بموسيقاه التي تأسر قلوب البدو منذ زمان بعيد. وعلى العكس من ذلك فأهل بصرى يستدعون فرقة موسيقية متخصصة من المدن مع المغنين والمغنيات. وهنا نلاحظ كما قال صيتان أن العادات عند بدو النعيم لا تزال متأصِّلة أكثر من أهل بصرى. ويعلق صيتان: “العادات مُكَبِلَتنا، والذبيحة ثمنها 3000 ليرة سورية، والعادات أصبحت عبئا ثقيلا علينا”.
– لم يتم اندماج هذه المجموعة من عشيرة النعيم بأهالي بصرى رغم مرور أكثر من نصف قرن على مجيء الأخوين واستقرارهم في بصرى، على الرغم من أن الإسلام دين أهل بصرى والقادمين إليها من بدو النعيم. وهذا الأمر بحاجة إلى بحث معمّق يستمع إلى الآراء المتعددة. ويبدو عدم الاندماج جليّا في انغلاق البدو على أنفسهم في ما يتعلق بالزواج.
– لا يزال العرف العشائري سائدا في عشيرة النعيم في ما يتعلق بعدم توريث البنات. مع أن الشرع الإسلامي أعطى المرأة نصف حظ الذكر. ولم يتح لنا الوقت لمناقشتهم في هذا الأمر، على الرغم من حرصهم على تطبيق فرائض الدين الأخرى بطريقة صارمة، كما بدا لي ومن خلال شروح تلميذي فلاح، الذي لم يخف سرا.
– وقصارى القول لقد أثّر عاملان جديدان في حياة الرعاة البدو القادمين من الجولان إلى بصرى: العامل الأول اكتساب الجيل الجديد للمعارف العلمية. وهنا لا بد من دراسة مدى تغلل الثقافة وتأثيرها في الوعي الاجتماعي للجيل المتعلم. والعامل الثاني المتمثل بالعمل في بلدان النفط والمكانة التي يحتلها مالك “البترودولار” والسير حثيثا إلى منزلة الوجاهة من مَضَافة وما تجود به نفسه لمساعدة من حوله. وتبقى أسئلة كثيرة مطروحة حول الأدوار الإيجابية والسلبية لهذا “البترودولار” في تأثيره على المفاهيم والعادات والسلوك والأخلاق. وإذا كان المجال غير متسع هنا للحديث عن سلبيات الدولار النفطي فلا بد من الإشارة إلى أن هذا “البترودولار” نقل المجموعة من بيوت الشعر أو البيوت الطينية البدائية إلى البيوت الإسمنتية الحديثة نسبيا. كما حرّر الأجيال الشابة من حياة الرعي القاسية والشقاء الملازم لها.
– معدّل الأمطار في بصرى لا يتعدى 200 مم. ومع توالي سنوات الجفاف توقفت الزراعة البعلية وانتهى عهد الرعي، ولم يبق لأهالي بصرى إلا عدد محدود جدا من قطعان الماشية. ولهذا اتجه الشباب نحو الهجرة إلى المدن أو للعمل في بلدان النفط. فَهمْ في الكويت يبيعون في البقاليات، وفي السعودية عمال ومعلمو مدارس، وفي دولة الإمارات عمال صب الإسمنت ونجارون وبعضهم معلمو مدارس. ويقدّر صيتان عدد المهاجرين (من أهالي بصرى الأصليين ومن البدو أقرباء صيتان) من بصرى إلى بلدان النفط بزهاء 3 آلاف رجل. وجميع المهاجرين يطمحون إلى بناء بيت في بصرى، والأغنياء بينهم قلة. وأغلب السكان المقيمين في بصرى يعيشون تحت خط الفقر.
***
مع الغروب ودّعتُ من قضيت عندهم يوما كاملا وغادرتُ بصرى الشام إلى بلدة الطيبة الواقعة إلى الغرب من بصرى وحللت ضيفا عند صديقي محمد علي خلف، الذي زوّدني بمعلومات عن الطيبة وسكانها. وصباح اليوم التالي يممت شطر درعا لزيارة صديقي الدكتور مصطفى أبا زيد، بناء على موعد سابق واعدا إياي بجمع عدد من أصدقائه للقاء بي في مضافته. عدد الحضور كان عشرة أشخاص تحدثنا في مواضيع متعددة. ثمَ طرحت للنقاش قضية هجرة الحوارنة للعمل في حيفا قبل 1948، وهجرتهم إلى دمشق ومن ثمّ إلى لبنان. ولا تزال هذه الأحاديث مدوّنة في أحد دفاتري وهي تنتظر الفرج كي ترى النور.
بعد أسبوع التقيت في دمشق بصديقي مصطفى، وضحكت عندما أخبرني أن المخابرات في درعا عرفت بمبيتي هناك، وظنّت أن هناك هدفا سياسيا للزيارة، إلى أن أعلمهم عبد الرحيم غزلان رئيس ديوان المحافظة المتقاعد، وكان من ضيوف السهرة، فطمأنهم إلى حقيقتها …
هوامش:
[1] النعيم عشيرة كبيرة، كثيرة الفروع والمنازل، تجدها موزعة في كل مكان من بلاد الشام … وهم قسمان، أحدهما مستقر أهل زرع، والثاني رحّل أهل ضرع، وهذا القسم من الرحّل ذو نجعة قصيرة لا يتعدى شرقي قضاء وادي العجم ودوما… ويقدر عدد بيوت النعيم في قضاءي الجولان ووادي العجم بنحو 3 آلاف بيت، وعدد ماشيتهم بـ 40 ألف شاة وألفي بقرة وألف بعير. ومن هذه الماشية ما هو ملك للعشيرة، ومنها نحو الثلث للدمشقيين من أهل الميدان، ولملاكين عرب وشركس ونصارى…”. نقلا عن وصفي زكريا أحمد “عشائر الشام” ط ثانية 1983، بدون مكان الطبع، ص 52.
[2] المتحدثون هم: فَلَاح بن صيتان العلي مواليد 1925 الجولان، ومقيم في بصرى بتاريخ اللقاء به في 30 / 8/ 2001. حسين بن صيتان العلي، مواليد 1928 الجولان، ومقيم في بصرى بتاريخ اللقاء به في 30 / 8 /2001. صيتان فلاح العلي تلميذي في دار المعلمين في درعا أواخر ستينيات القرن العشرين، وهو الذي بادرني بالسلام بعد انتهاء محاضرة بصرى الوارد ذكرها، ونظّم اللقاء في بصرى بناء على موعد على الهاتف.
[3] “الحلال” المقصود بها الفطايم المولودة حديثا من الغنم. أي أن للراعي ربع الفطايم المولودة في الربيع، وربع صوف الغنم الذي لم يلد في تلك السنة، وتُعرف بالغنم الحايل.
[4] سنطلق عليه صيتان الكبير تمييزا له عن صيتان معلم الابتدائي وتلميذي في دار المعلمين في درعا.
[5] الفلاج حصة الراعي وهي ربع الفطايم (ربع الحلال)، إضافة إلى ربع مُدّ قمح عن كل نعجة.
[6] وعندما سألت عن الأمتعة أجاب حسين “فرشات بُسط لُحف” ولم يذكر بيت الشعر وأدوات الطبخ، وهو ما فاتني السؤال عنه.
[7] كانت الوجاهة في بصرى معقودة لآل المقداد. كما احتلت عائلة البلخي مكانة مرموقة في البلدة، ويوجد في بصرى أقلية شيعية نزحت في ثلاثينيات القرن العشرين من جبل عامل في جنوب لبنان، وعملت في أرض آل المقداد وفق مبدأ المحاصصة.
[8] سرح: سار بالماشية إلى المرعى. وجاء في المنجد في اللغة والإعلام (بيروت ط 27 1984): رعى الماشية: سرّحها في الكلأ. ورعت الماشية الكلأ: سرحت فيه وأكلته.
[9] النساء المفرّعات اللواتي أزلن غطاء الرأس وخفّفن من ثيابهنّ بصورة تظهر فيها مفاتن الجسم. وكان الشخص في قريتنا دير عطية إذا خلع الكوفية والعقال وسار حاسر الرأس، يقال إنه “يسير فرع” أو “مفرّع”.
[10] جاء في المنجد في اللغة والأدب: سلخ الخروف: كشط جلده. وسلخت المرأة درعها نزعته. وانسلخ من ثيابه: تجرد منها.
[11] الصحيح يتفرّج عليهنّ.
[12] “طبّينا” تعني نزلنا أو وصلنا. و”هون” تعني هنا في المكان المتحدث منه.. ومجيء هؤلاء البدو حصل عام 1946 حيث لم يكونوا يصلّون كسائر البدو… متى بدؤوا يصلّون؟ غاب عني سؤال محدثي فهو يتحدث وأنا أكتب مصغياً بكل جوارحي.
[13] ثمّة صلة قرابة قبلية بين النعيم وحاكم عجمان، كما ذكروا.
[14] كثيرا ما يسبب الزواج من الأقارب هذا المرض.
[15] بسبب طول مدة اللقاء والتعب من تدوين المعلومات لم أدون أسماء البنات ومدى القرابة بأزواجهنّ. كما أنّ تديّنهم (حديث العهد) دفعني للابتعاد عن هذا السؤال.
[16] جاء في المنجد الأبجدي: زفّة العروس أو العريس: الطواف بالعريس أو العروس في الشوارع مع الرقص والغناء إظهارا للسرور.
[17] المِجْوِزْ قصبتان بطول معيّن، ملتصقتان ببعضهما وتتخللهما فتحات لخروج الهواء المنبعث من فم من ينفخ في المجوز ووجنتاه منتفختان، وذلك كي يستطيع دفع كمية كبيرة وبسرعة من الهواء في المجوز، بينما أصابعه تتلاعب في ثقوب القصبتين محدثة أنغاما شجيّة تحمّس الراقصين في الدبكة وتوجههم في كيفية الحركة أثناء الدبكة. وكاتب هذه الأسطر كان يُطربْ عند سماع المجوز.
ضفة ثالثة