عشرة أعوام على غياب سمير القصير
لا نفهم ولا نريد أن نفهم/ سمير قصير
(النهار ، 7 كانون الثاني /يناير 2005 )
في علم النفس يسمى الداء انطواءً او توحداً حين يصبح المريض عاجزاً عن التواصل مع كل من حوله وغير قادر على تعلم اي شيء. في السياسة يسمى حكم البعث في عصر انحداره. وكأن العوارض الصدّامية راحت تتكرر عند المتبقي من البعثَين في دمشق حيث عنوان المرحلة رفض عنيد لـ… الواقع بلغ اوجه هذا الاسبوع في مناسبة الزيارة غير الودية التي قام بها نائب وزير الخارجية الاميركي ريتشارد ارميتاج الى قصر قاسيون.
في ما مضى كان يمكن الاكتفاء بتشخيص انتفاخ للذات البعثية، مثلاً عندما اعتبر الحكم السوري ان الاستغناء عن فاروق الشرع في وزارة الخارجية، بعد كل ما راكمه من اخطاء وعقم سياسي، واستبداله بديبلوماسي آخر معروف بسعة علاقاته الغربية، والاميركية تحديداً، يتطلب ان تقبض دمشق ثمناً ما، كمن يقول انه لا يريد ان يحسّن وضعه الا اذا كوفئ مسبقاً على رداءته. كذلك كان يمكن رصد تباطئ في الحركة، مثلا في تأخير الاصلاح السياسي والاقتصادي، او تشوّش في المنطق يفضي الى تقديم حسابات زبائنية قصيرة الاجل على مصلحة الدولة والمجتمع، مثلما حصل ويحصل في التعيينات لمناصب اساسية لعملية الاصلاح.
لكن الداء بلغ الآن مبلغاً اكثر خطورة، اذ لم يعد يتجلى في رفض ما يقال، بل صار في رفض سماعه. والحق ان العوارض المشيرة الى مثل هذا التدهور ظهرت الصيف الماضي عندما خاض الحكم البعثي “ام المعارك” من اجل التمديد لرئيس الجمهورية اللبنانية المنتهية ولايته والفاشل عهده. فهو لم يكتف بما اعتاده من احتقار للطبقة السياسية اللبنانية، بدءاً بمَواليه، بل ذهب الى حد تجاهل كل التحذيرات الآتية من الخارج أكانت باللغة الفرنسية ام الانكليزية ام حتى الاسبانية. ثم سُجل تدهور اضافي امكن رصده من خلال اداء وزير الاعلام وقتئذٍ احمد الحسن، الذي حاول ان يقنع نفسه ان القرار 1559 يعني الاحتلال الاسرائيلي وليس القوات السورية المرابطة في لبنان.
الوزير الحسن لم يعمّر في وزارته وجاء من يدعي عقلنة الاعلام السوري الرسمي. الا ان عدواه انتقلت في هذا الوقت الى دوائر دمشقية اوسع (وأرفع)، على ما يبدو من السجال الغريب العجيب حول ما قاله ارميتاج في دمشق وما تقول دمشق انه لم يقله. السجال مريب فعلاً، او لنقل ان المريب هو موقف الحكم السوري وابواقه فيه. فبالافتراض ان ارميتاج لم يقل في لقاءاته مع المسؤولين السوريين ما تدعي دمشق انه لم يقله، ما الذي يكون قد تغير؟ في النهاية قال ارميتاج في العلن ما تقول دمشق انه لم يقله. والاهم ان عدداً من المسؤولين الاميركيين الآخرين رددوا في الايام التالية، وايضاً في العلن، ما تقول دمشق ان ارميتاج لم يقله.
للتذكير، ما قاله ارميتاج وادّعت دمشق، ولا تزال، انه لم يقله يرقى الى تهديد غير مبطن للحكم السوري، سواء في ما يتعلق بإيواء مسؤولين سابقين في مخابرات صدام حسين (وكأنه لا يكفي السوريين في كنف البعث المتبقي ما يحوطهم من مخابرات)، او بتنفيذ القرار 1559 القاضي بانسحاب القوات السورية من لبنان ووضع حد لهيمنة حكم البعث عليه. انه تهديد، ليس الا. يمكن استهجانه، وما اكثر الذين ينزعون الى استهجان لهجة التهديد الاميركية في عصر الشرق الاوسط الكبير. يمكن ايضاً الخضوع له، وان جزئياً، سعياً للسلامة. ويمكن حتى الاستخفاف به. ولكن ما لا يعقل هو الادعاء ان التهديد غير موجود. فمثل هذا الادعاء لا يفيد حتى لشراء الوقت.
ولكن ماذا لو كان الحكم البعثي يتبع خطة يعدها اكثر ذكاء؟ فقد يكون قرر مثلاً تيئيس من يصر على محاورته. ترون؟ نحن لا نفهم ولا نريد ان نفهم، فلا تضيعوا وقتكم معنا.
الخطة قد تكون ذكية لو ان المحاورين هم من الزبائن المعتادين في لبنان. لكن ما يصلح مع من لا يتنفس الا برضى الحكم البعثي، لا يفيد مع الجبار الاميركي في عز صلفه. فعنده ان عدم تضييع الوقت بالكلام، يعني الانتقال الى وسائل اكثر نجاعة.
واكثر ايلاماً.
الاستبداد لحظة انكشافه/ سمير قصير
(النهار ، 19 شباط / فبراير 2005 )
سنفترض ان الحكم البعثي في دمشق بريء من دم رفيق الحريري. سنفترض لحظة ان “الخبراء السويسريين” الذين سيستعين بهم النظام الامني اللبناني سيتمكنون من اثبات تورّط ابو مصعب الزرقاوي بنفسه في عملية الاغتيال. سنفترض لحظة ان عباقرة المخابرات في سوريا ولبنان سينجحون، مثلما نجحوا عام 1994 بعد تفجير كنيسة سيدة النجاة، في فرض رواية قابلة للتحوّل قراراً ظنياً، وإن سقطت لاحقاً خلال المحاكمة (اذا كان هناك من محاكمة). هل يكفي كل ذلك لوقف المسار الانحداري للحكم السوري في لبنان وخارجه؟ هل يكفي كل ذلك لستر ما كشفه حدث بيروت اول من امس عن الخلل المستجد في الهيمنة البعثية؟
اول من امس، سقط في بيروت الخط الاحمر الاخير الذي كان يحمي منذ مطلع التسعينات اكذوبة “وحدة المسار والمصير” ويغطي منذ انهزام كمال جنبلاط واغتياله عام 1977 ادعاء الحكم السوري النطق باسم قسم من اللبنانيين.
هذا الخط الاحمر كان حتى اول من امس متمثلاً بالسكوت، الطوعي او القسري، الذي التزمه الرأي العام الاسلامي في لبنان حيال الحكم السوري منذ اكثر من ربع قرن، والذي تجدد في اكثر من مناسبة قمعية او “اغتيالية” حتى بات الاقتناع راسخاً ان الثمن الذي يدفعه المسلمون إن ارادوا الاعتراض، اكبر بما لا يقاس من الثمن الذي يدفعه المسيحيون. ولعل القهر الذي تعرضت له مدينة طرابلس، كما لو كانت مدينة من الداخل السوري، ابلغ دليل على فداحة الثمن. وجاءت القسوة التي ووجه بها وليد جنبلاط، سواء عام 2001 او في الاشهر الاخيرة، لتؤكد صواب هذا الاقتناع. بل ان هذه الخلفية هي تحديداً ما صوّب الانظار واصابع الاتهام نحو الجهاز المخابراتي السوري اللبناني في اللحظة نفسها التي علم بها الرأي العام اللبناني باغتيال رفيق الحريري.
اما وقد حصل هذا الاغتيال ونُسب الى من نُسب، ومهما تكن شطارة النظام المخابراتي في حياكة روايته التبريرية، فيبدو ان مبلغ الكبت جعل من انكسار الصمت ليس فقط سقوطاً للخط الاحمر الاخير، بل انقلاباً رمزياً وسياسياً قد تتعدى مفاعيله حدود لبنان. اذ تشاء سخرية القدر ان تنقلب مقولة “الشعب الواحد في دولتين” في وجه من اطلقها. فعندما تصدح شوارع بيروت بشعارات عفوية تحمل طابعاً دينياً او طائفياً، يعرف الحاكم السوري ان صداها يصل الى دمشق وحلب. وعندما تُسمع من على شاشات الفضائيات ادانات كالتي سمعناها، من نوع “لا إله الا الله والاسد عدو الله” (“النهار” 17/ 2/ 2005ومطالبة بالثأر من أعلى المسؤولين في الدولتين، تصبح المحاولات الآيلة الى اثبات براءة الحكم البعثي في دمشق من دم رفيق الحريري بلا جدوى.
وكذلك اضحت بلا جدوى محاولات المتبقي من البعثَين توزيع الناس بين فسطاطين، فسطاط العملاء والخونة وفسطاط “الوطنيين” المعنيين بالقضية القومية. فعندما يكون جاك شيراك الرئيس الوحيد الذي جاء لينحني امام ضريح رفيق الحريري، فيما تخلف كل الملوك والرؤساء العرب، وبعد ثلاثة اشهر على تكريمه التاريخي للرئيس الراحل ياسر عرفات في باريس، يصبح صعباً استخدام ادوات القراءة القومجية العتيقة، كما طاب للبعض ان يفعل بالامس بالقول ان الشعارات التي رفعت في التشييع طارئة على تاريخ بيروت لأن تراث الشارع البيروتي لا يحتمل التعبئة الجماهيرية الا للدفاع عن القضايا القومية.
ربما كان هذا صحيحاً حين كان هناك من يستحق ان يثير الحمية القومية في جوار لبنان. اما اليوم، فقد اصبحت القضية القومية تكمن في التخلص من انظمة الارهاب والانقلاب واستعادة حرية الشعوب كمدخل الى نهضة عربية جديدة. فإذ يمشي في جنازة رفيق الحريري مئات الآلاف من المواطنين الاحرار، فيما لم يجمع تشييع حافظ الاسد قبل اعوام سوى قوافل سيّرها الحزب الواحد ومخابراته من دون ان ينجح في حشد اعداد مماثلة، فهذا اسطع برهان على انتهاء اكذوبة اخرى لازمت “وحدة المسار والمصير”، وهي الاكذوبة القائلة بأن الاستبداد هو درع العروبة. اول من امس، كانت بيروت القلب النابض لعروبة جديدة، عروبة وان شابتها بعض اعلانات الولاء الطائفي او العشائري، تقوم على الارادة الحرة للمواطنين والمواطنات. وهذا اكثر ما يتوجب على نظام الاستبداد خشيته اذا تأخر في انهاء هيمنته على بيروت ولبنان.
إلى متظاهر سوري/ سمير قصير
(النهار ، 11 آذار / مارس 2005 )
ثمة اجماع داخل المعارضة اللبنانية اليوم على انه سيكون من الخطأ مقاربة المسألة السورية مباشرة. الموقف حكيم ولا ريب، باعتبار انه يتوجب الامتناع عن تجفيل الحكم الاسدي القلق على ديمومته، بالاضافة الى الحرص المشروع على عدم التدخل في الشؤون الداخلية لدولة شقيقة. غير ان هذا الحذر يصعّب ايضاً على المعارضة القيام بواجب ملح في اتجاه جمهورها، وهو الدعوة الى التمييز بين الشعب السوري وسلطته، منعاً لبعض الهتافات السخيفة.
فأي دعوة من هذا النوع لا تستقيم اذا بقيت في حدود الهم الانساني، على اهميته، ولا بد تحديداً من لفت انتباه المتظاهرين الى ان العمال السوريين في لبنان ضحايا مرتين: فهم ضحايا نظام فشل في تأمين فرص العمل لجميع السوريين ولم يقدم اليهم من الرعاية غير سطوة المخابرات التي تلحقهم احياناً الى اماكن عملهم في لبنان، وهم ايضاً ضحايا عنصرية كامنة تتغذى هي الاخرى من الصورة البائسة التي يعطيها النظام السوري نفسه عن رعاياه.
بيد ان المحظور السياسي، وان يكن في محله، قد ازاله هذا الاصرار للحكم البعثي ومواليه من اللبنانيين والسوريين على انتاج رواية رسمية لا تمت بصلة الى التاريخ، ولا الى السياسة. وجاءت خطبة الرئيس السوري الاخيرة، رغم طابعها المفكك المضعضع، اسطع دليل على ارادة التحريف التي تقوم عليها دعاية المتبقي من البعثَين، ثم تبعتها الخطابات “المتلازمة” الصادرة عن المنتفعين من الوصاية السورية خلال تظاهرة “الوفاء” لتضخّم التحريف.
لو كان الامر يتعلق فقط بكتابة التاريخ، لما كان من مشكلة ولأمكن ترك حسم حقيقة هذه الرواية لمؤرخّي المستقبل. لكن التحريف الحاصل في الخطاب البعثي وتوابعه يهدد بالاساءة الى العلاقات بين سوريا ولبنان بعد الانسحاب. اذ ان تصوير اللبنانيين شعباً ناكراً للجميل، الصادر عن فاعل خير هو الحكم السوري، من شأنه وضعهم على تضاد مع السوريين ولا بد تالياً من محاولة لفت نظر المواطنين السوريين الى الوجه الآخر للعملة، وهو وجه اسود.
طبعاً، لا معنى من توجيه هذا الكلام الى المعارضة السورية التي كان لها موقف اعتراضي على السياسة السورية في لبنان منذ لحظة دخول جيش حافظ الاسد اليه برعاية اميركية متمثلة بحسن التدبير الكيسنجري، ولا الى المثقفين الاحرار في سوريا الذين يصعب عليهم تصديق اي رواية يخرج بها النظام. كذلك لا معنى من توجيهه الى هؤلاء اللبنانيين المتحدرين من اصل سوري والذين كان آباؤهم واجدادهم ممن ساهموا في ازدهار بيروت الاقتصادي والثقافي قبل ان يلحقهم اليها حافظ الاسد لـ”يحميها” بالحديد والنار. ومن يتوجب التوجه اليهم هم أولئك الذين لا يملكون خطاباً سياسياً آخر غير خطاب السلطة المكرور، والذين يُقتادون الى تظاهرات “الوفاء” للسلطة، سواء في دمشق او في بيروت.
الى هؤلاء يجب القول، بكل محبة، ان خطاب سلطتهم هراء في هراء، وان الحكم السوري في لبنان لم يكن لا فاعل خير ولا حكماً حيادياً تدخّل بدافع المروءة من اجل التفريق بين المتحاربين واحلال السلام في ما بينهم. الى هؤلاء يجب القول ان القوات السورية في لبنان كانت طرفاً في الحرب: في البدء كطرف ضد الحركة الوطنية بقيادة كمال جنبلاط والمقاومة الفلسطينية، ثم بعد حين كطرف ضد الاحزاب المسيحية. وفي الحالين، لم تكن حرب ملائكة. فكل الاطراف لوّثوا ايديهم بالدم وكلهم دخلوا في مغامرات مدمرة، وهذا يشمل الطرف الرسمي السوري، بل لعله يشمله في المقام الاول لأنه طرف يمثل دولة، والدولة السورية بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي لم توّفر وسيلة في حربها اللبنانية، اياً يكن خصمها، من القصف العشوائي للمدن، الى الاغتيال السياسي. فعلامَ تُشكر السلطة السورية؟ على دك الاشرفية وزحلة بالنار؟ ام على معاملتها طرابلس كمدينة في الداخل السوري يتم الاقتصاص منها على مدار الايام؟
الى هؤلاء المتظاهرين السوريين يجب القول، بكل محبة، ان ممارسة الحكم السوري في لبنان لا تسمح له بأن يعطي دروساً الى احد في الوطنية والنضال ضد “الامبريالية”، فهو دخل لبنان بتدبير من هنري كيسينجر وعاد ومدّ سيطرته على اراضيه كاملة بضوء اخضر من خلفه جايمس بايكر، عربون وفاء لمشاركة الجيش العربي السوري في الحرب على العراق من اجل تحرير الكويت. واذا كان حافظ الاسد قد خاض معركة ضارية ضد الولايات المتحدة غداة الاجتياح الاسرائيلي، فهذه المواجهة التي بدأتها ادارة اميركية عقائدية في عهد رونالد ريغان لم تكن الا الاستثناء الذي يبرر القاعدة: عامان على الاكثر من اصل ثمانية وعشرين! فعلامَ تهنّأ السلطة البعثية؟ أعَلى بحثها الدؤوب عن تسوية مع “الامبريالية”؟
الى هؤلاء المتظاهرين السوريين يجب القول، بكل محبة، ان سوء تسليح الجيش السوري لم يخوّله لحظة الوقوف في وجه اسرائيل، بل منعه من ان يكون درعاً للبنان يوم بدأ الاجتياح الاسرائيلي، وان استبسال الجنود السوريين في عين دارة والبقاع جاء على خلفية سحبهم من الجبهة الامامية. الى هؤلاء الذين يصدقون الاساطير يجب القول ان بيروت اطلقت المقاومة من دون مساعدة من الخارج، بل ان المقاومين الذين نجحوا في اخراج العدو المحتل من بيروت وصيدا وصور والنبطية كوفئوا بالملاحقة واحياناً بالقتل على يد حلفاء الحكم البعثي، فإذا جاء موسم جديد يتيح استخدام المقاومة ورقة، وجدت السلطة السورية من يجيّر لها انتصاره. فعلامَ تمجيد “سوريا الاسد”؟ أعَلى فشلها في منع الاستباحة الاسرائيلية للبنان؟ ام على حرمان لبنان طعم الانتصار يوم كان الانتصار على العدو؟
الى هؤلاء المتظاهرين السوريين يجب القول، بكل محبة، ان السلام في لبنان جاء بتوافق اللبنانيين ودعم العرب، وان ما فعلته سوريا كان افقاد هذا السلام دعامتيه حين رفضت تطبيق اتفاق الطائف وحولت وجود قواتها العسكرية ومخابراتها اداة للهيمنة، فحرمت اللبنانيين امكان استخلاص دروس الحرب وطوقت الديموقراطية التي وحدها كانت تصلح للمحاسبة عن المسؤوليات. فعلامَ “تربيح الجميل”؟ أعَلى انتاج طبقة سياسية مطواعة؟ ام على استخدام لبنان لتجديد النخبة الاقتصادية السورية؟
لا، لا شكر، اللهم الشكر على طي هذه الصفحة السوداء، عندما تطوى، والى غير رجعة.
ثمن أن تنسحب سورية من لبنان/ سمير قصير
( صحيفة النهار ـ 25 آذار / مارس 2005 )
انحبست الانفاس منذ ايام في انتظار لحظة عدّها الجميع مفصلية، وكادت ان تعطل الحياة السياسية، حتى في بعدها المعارض الجارف، في انتظار صدور “التقرير”، والمقصود طبعاً الوثيقة التي اعدتها اللجنة المنتدبة من الامم المتحدة لتقصي الحقائق حول اغتيال رفيق الحريري. لكن ما حصل في الاسابيع الخمسة الاخيرة، وخصوصاً في مطلع الاسبوع الماضي، لا يتوقف عند التقرير، مهما تكن مفاعيله الكبيرة المتوقعة. فالتخريب الامني الذي بدا اخيراً في حركة تصعيدية، لن يمحو التقرير، اياً يكن محتواه واياً تكن لهجته.
ما شهده لبنان في الشهر الاخير سوف يتطلب ربما سنوات لاستخلاص دروسه بشكل عملي في اتجاه التأسيس على هذه اللحظة التاريخية التي بلغت فيها المصالحة الوطنية ارقى تجلياتها. الا انه يمكن منذ الآن، ومهما تكن التطورات المقبلة، الاستنتاج ان “انتفاضة الاستقلال” نجحت في انجاز مكسبين هائلين: طي صفحة الهيمنة “الخيّرة” التي مارسها الحكم البعثي في دمشق على الحياة العامة في لبنان، وتعرية النظام الامني اللبناني كمدخل لتفكيكه.
فأياً تكن توجهات الايام المقبلة، فقد بات اكيداً ان النظام الامني غير قابل للاستدامة، وان رهانات اسياده على امكان تبييض صورتهم، وآمالهم في المحافظة على مكانتهم في اي تركيبة باطلة، قد سقطت جميعها. فحتى اذا افترضنا ان قادة الاجهزة الامنية نجحوا في اقناع العالم بأنهم براء من دم رفيق الحريري، فان فتح السجال حول النظام الامني فتح باب استعادة المسؤوليات الوخيمة التي تحملها هذا النظام برموزه القضائية والميدانية في عدد من الجرائم منذ نهاية الحرب، من كنيسة سيدة النجاة الى اغتيال رمزي عيراني، مروراً بالتلاعب بقضية الشبكات الاسلامية السنية. ولن يغير شيء الابتزاز السافر الذي يخيّر اللبنانيين بين الاستقلال والامن بحجة موجة الحوادث الامنية الحاصلة منذ ثلاثة اسابيع، من اطلاق النار في ساحة ساسين الى تفجير الكسليك. على النقيض من ذلك تماماً، فإن من يقف وراء هذا الابتزاز، سواء اكان سياسياً ام مسؤولاً في جهاز امني، يلغي اي امل له في ان يبقى له اي حضور في الحياة العامة اللبنانية، اللهم في السجن. فهؤلاء يضعون انفسهم في موقع من يخطف رهينة، واي رهينة؟ ذلك ان من يراد خطفه صراحة هو الشعب اللبناني ليس الا.
وبالطريقة نفسها، فقد بات اكيداً ان هيمنة الحكم البعثي على السياسة اللبنانية باتت من الماضي. فحتى اذا افترضنا ان الحكم السوري نجح في اقناع العالم بانه براء من دم رفيق الحريري، فان الاعتراض الشعبي العارم على الجريمة قد فتح باب استعادة المسؤوليات الوخيمة التي تحملها المتبقي من البعثين في كبت الحريات العامة في لبنان، وفي ابقاء حياته السياسية وحياة السياسيين فيه تحت التهديد الدائم للمقصلة، من اغتيال كمال جنبلاط الى سجن سمير جعجع، مروراً بقتل سليم اللوزي والشيخ حسن خالد ومهدي عامل وحسين مروة والكثيرين غيرهم. كذلك لن يغيّر شيئ الابتزاز المفضوح الذي تفوّه به عدد من المسؤولين السوريين الذين يقولون صراحة للبنانيين ان مصيرهم من دون الهيمنة هو الخراب، وعلى رأس هؤلاء بشار الاسد نفسه، من دون ان ننسى الوزيرين اللامعين فاروق الشرع ومهدي دخل الله. على العكس تماماً، فان هذا التهديد بالكاد المبطن يمنع نهائياً الحكم السوري من ان يدعي بعد الآن انه يحمي السلم الاهلي في لبنان، هذا الادعاء الباطل منذ البداية.
اما وقد صدر التقرير، فقد صار جلياً ان الحكم البعثي الذي طالما سعى الى ان يدفع اللبنانيون ثمن الضغوط من اجل انسحاب قواته من لبنان، انما صار هو في موقع من يدفع الثمن، وانه قد يدفعه ابتداء من الآن اضعافاً اضعافاً مما كان سيكلفه الانسحاب لو اقر به طوعاً.
————
الذكرى العاشرة لاغتيال سمير قصير: خمس دلالات راهنة/ صبحي حديدي
كثيرة هي الدلالات الراهنة التي يُتاح للمرء أن يتلمسها، حتى إذا عفّ عن استخلاصها كدروس وعِبَر، في هذه الذكرى العاشرة لاغتيال سمير قصير (1960 ـ 2005)؛ المؤرّخ، والأكاديمي، والكاتب، والناشط السياسي والحقوقي؛ شهيد الحرّية والديمقراطية والتقدّم، باسم لبنان، أوّلاً، ثمّ فلسطين وسوريا أيضاً. ولعلّ الدلالة الأولى هي أنّ دمه لم يذهب هدراً، رغم كلّ المعطيات التي أشارت إلى العكس، بعد أشهر قليلة أعقبت اغتياله، أو تشير إلى هذا اليوم كذلك؛ ورغم أنّ الحركة التي تصدّر الراحل قيادتها، بل اليسار اللبناني إجمالاً، طوت الكثير من سماتها النضالية، أو طُويت في صفتها التكوينية على الأقلّ.
ولم يذهب دم قصير هدراً لأنّ المنظومة التي اغتالته، أي النظام السوري بالتضافر مع الأخطبوط الأمني اللبناني متعدد الرؤوس ـ الذي يبدأ من «حزب الله»، ويمرّ بحلفاء النظام السوري الأقلّ شأناً وليس الأقلّ فاشية، دون أن ينتهي بسلسلة الأجهزة «الرسمية» الملحقة بمكونات طائفية ومذهبية شتى… ـ لا تتخبط اليوم، وتُفتضح، كمنظومة أطلق عليها الراحل تسمية «اللبنانية ـ السورية للتلازم والعلاقات المميزة، شركة غير محدودة اللامسؤولية»، فحسب؛ بل تتهددها أخطار الانقراض على إيقاع انهيار النظام السوري، كبير السَحَرة ورأس القَتَلة.
شتان، في مستوى أوّل من هذه المعادلة، بين حسن نصر الله هذه الأيام ـ قائد ميليشيا مرتزقة، لا تكتفي بقتال السوريين دفاعاً عن نظام مستبد قاتل آيل إلى سقوط حتمي، بل صارت تكفّر كلّ شيعي لا يرتزق معها ويشايعها في الجريمة ـ وحسن نصر الله السابق، أو حتى الأسبق: «سيّد المقاومة» لدى شرائح واسعة من العرب، السنّة قبل الشيعة.
ومن المأساوي حقاً أن الراحل، مثل عشرات الآلاف من اللبنانيين والسوريين، مثلنا جميعاً ربما، داعبته الآمال في أنّ الأقنعة قد سقطت، يومئذ، عن تلك المنظومة الأمنية؛ فباتت مكشوفة ظاهرة للعيان، أضعف من ذي قبل، بل أضعف كثيراً، دون أن يعني هذا أنها فقدت تماماً قدرة الضرب بشراسة، والانتقام أيضاً. ولاحظوا استخدام الراحل لهذا الخيار تحديداً: الانتقام! ففي مقال بعنوان «وسقط القناع»، نُشر أواخر نيسان (ابريل)، سنة الاغتيال، اعتبر قصير أن «بعض رموز الطوفان المخابراتي» سوف يحاولون «شراء المزيد من الوقت»، و»قد يسعى النظام الأمني مرّة جديدة إلى الإنتقام»، و»لكن شيئاً لن يقدر على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. لقد ذهب النظام الأمني. فليكن ذهاباً من دون رجعة».
وبالمعنى العريض لحركة التاريخ، لم تعد عقارب الساعة إلى الوراء في لبنان ما بعد اغتيال قصير، بالقياس على ما تمّ إنجازه على أكثر من صعيد سياسي، بما في هذا انسحاب النظام السوري عسكرياً من البلد؛ وهذه دلالة ثانية.
غير أنّ الصعيد الأمني لم يشهد تحرّك عقارب الساعة إلى الأمام على نحو يكفي لكي يُقال إنها لن تعود إلى الوراء في عشرات الملفات، وبينها بالطبع عودة الاغتيالات، وإحكام قبضة «حزب الله» العسكرية والأمنية أكثر فأكثر، ليس دون جرّ البلد والجيش اللبناني إلى حروب الحزب في عرسال والقلمون. ولقد اتضح أنّ ما يشبه «الهجوع» الأمني قد طبــــع الفترة التي أعقبت الاغتيال، لأسباب التقــــاط الأنفــــاس وامتصاص الصدمات قبل تنظـــيم القوى من جديد؛ الأمر الذي تُرجم في استفاقة مباغتة للوحش الأمني، قبل أن تنفلت الوحشية من كلّ عقال، ليس ضدّ خصوم الداخل في لبنان فقط، بل في سوريا أيضاً، أو بادىء ذي بدء.
في دلالة ثالثة، لم يكن اغتيال قصير قد استهدف رمزاً سياسياً أو أمنياً أو اقتصادياً أو طائفياً، في الأصل؛ بل أُريد للضرية أن توجّه رسالة مدوية داخلياً وخارجياً (إذْ كان الراحل معروفاً على نطاق واسع في الغرب، وفي فرنسا بصفة خاصة)؛ وأن تتفجّر، بالضبط، في قلب تلك الأوساط التي لن يكفيها انسحاب قوّات النظام السوري (وبقاء منظومته الأمنية مهيمنة، هنا وهناك، نافذة السطوة والقرار)؛ ولن يرضيها قرار يستبدل هذا المسؤول الأمني أو ذاك (دون أن يُجتثّ تماماً ممثّلوه في باطن الجهاز، أو تُفكك بما يكفي وشبكات الولاء التي ما تزال تدين له بالطاعة). الجريمة قالت، بوضوح بربري أقصى، إنّ إسكات قلم جسور قد يرتدي من الأهمية الستراتيجية ما يعادل، أو حتى يفوق، كلّ حسابات التكتيك الصغيرة، هنا وهناك؛ في الداخل أو في الجوار والعالم، على جبهة اليسار مثل اليمين، والثقافة أسوة بالسياسة… وهكذا فإنّ الاغتيال لم يكن تمريناً في الثأر أو التأديب أو تلقين الدروس، فحسب؛ بل كان تذكرة للجميع بأنّ الإطاحة برأس أمني هنا، أو تبديل آخر هناك، لا يعني أنّ الوحش قضى أو تمّ ترويضه أو همد مؤقتاً. الوحش، في الواقع، ظلّ حيّاً يسعى ويفخخ ويقتل، في توقيت محسوب يُراد منه أن يبعث أبلغ الرسائل، وأن يلحق أفدح الأضرار حيث ينبغي.
والسذّج وحدهم، في تلمّس دلالة رابعة، هم الذين تجاهلوا مقدار حاجة النظام السوري إلى إسكات هذا الصوت، تحديداً، يومذاك؛ وحاجة المنظومة الأمنية، ذاتها، إلى إسكات أمثاله اليوم، في ذروة المآزق. ففي آخر تعليقاته على الأوضاع السورية، مقاله «الخطأ بعد الخطأ»، كتب قصير: «وكنّا اعتقدنا أن الحكم السوري استخلص العبر مما جرى له في لبنان، جراء أخطائه المتراكمة، وأنه سوف يخرج من الهزيمة التي تلقاها بعزم على انتهاج سياسة توفّر عليه هزيمة أكبر، فيبادر إلى تغيير جذري في أدائه يحول دون وقوع مواجهة مع شعبه تكمل ما عاناه في المواجهة مع الشعب اللبناني (…) ولكن عبثاً. فما تفيده الاعتقالات الأخيرة هو أن الإصلاح عند أهل البعث لا يعني القبول بالرأي المعارض. والتحولات الإقليمية الهائلة، من العراق إلى لبنان، لا تدفعهم سوى إلى التهويل من الخطر الأمريكي، من دون التفكير لحظة بالوسائل الأنجع لدرء هذا الخطر». قبل هذا، تحت عنوان «حين تغامر سورية… بالديمقراطية»، تساءل قصير: «أهو السقوط المدوي لنظام البعث في العراق بما كشفه من جرائم لصدام حسين تتفّه فداحتها سجلات كلّ أنداده؟ أم هو توهّم البعث الآخر أنه لا يزال يستطيع التستّر بتشاطره في اللعبة الاقليمية للإيحاء أنّ لا شيء تغيّر؟».
وأمّا الدلالة الخامسة فإنّ منطقها يزداد جلاءً اليوم، أكثر من ذي قبل: استهداف قصير بُني، أيضاً، على ربطه الصائب، والشجاع تماماً، بين استعادة وتطوير الديمقراطية اللبنانية، واستعادة وإطلاق الديمقراطية التي عرفتها سورية في أكثر من مرحلة على امتداد تاريخها الحديث، قبل وقوع البلاد أسيرة استبداد حزب البعث سنة 1963. كان المطلوب، إذاً، ليس رأس ذلك اللبناني، الديمقراطي، اليساري إجمالاً، الناقد للنظام الأمني، أسوة بالأنظمة الطائفية والإقطاعية والعائلية، الداعي إلى قطيعة صريحة مع الماضي المريض الفاسد المتهالك، فحسب؛ بل أيضاً ذلك اللبناني الذي بات يرى الصلة، كلّ الصلة، بين شعبين واستقلالين وديمقراطيتين: في لبنان، كما في سوريا.
ويبقى، في الخلفية الأعمق من هذه الدلالات الخمس، أنّ انتفاضات العرب، أياً كانت مآلاتها المفتوحة، في آلامها وآمالها، إخفاقاتها ونجاحاتها؛ هي بعض ذلك الحلم النبيل لأحد أنبل شهداء العرب في أحقابهم المعاصرة: سمير قصير، «قِران الفتوّة والوعي، واقتران الرأي بالشجاعة»، كما عبّر محمود درويش.
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي
تأويل الموت/ الياس خوري
منذ عشر سنين قتلوك يا صديقي، سمعت صوت الانفجار وركضت صوب بيتك، كنت أشعر أنني في سباق مع موتك وموتي، وعندما وصلت رأيت وجهك ملتصقا بالمقعد الذي إلى جانبك في السيارة.
كنت جميلاً كطفل وبريئاً كوردة.
ابتسامتك الساخرة ارتسمت على شفتيك، وطنين الصمت الذي أعقب انفجار سيارتك احتلّ المكان.
المكان الذي تظلله اليوم زيتونة سمير قصير، كان مليئا بالناس، لكنني لم أسمع سوى الصمت.
كنت الشهيد الأول يا سمير، لأنك أردت أن تسبقنا دائما. سبقت طفولتك إلى النضج المبكر، وسبقت الحب إلى عشق مواز للحياة، وسبقت شبابك إلى الموت.
اعتقدنا يا أخي الصغير أن موتك جزء من زمن البدايات التي تبدأ، كان ربيع لبنان يصنع انتفاضة الاستقلال، وكنت مع رفاقك اليساريين والديموقراطيين والعلمانيين، ترون في الانتفاضة استكمالا للانتفاضة الفلسطينية وبداية ربيع تزهر فيه دمشق بالحرية. راهنت مع رفاقك ورفيقاتك الذين احتلوا ساحة الشهداء أو ساحة الحرية، على أن النضال الطويل قد وصل اليوم إلى محطة أولى اسمها استقلال لبنان وحرية سورية، فاندفعتم تعانقون الحلم، رغم شعوركم بخيانة الطبقة السياسية اللبنانية الملوثة بالطائفية وعجزها عن قيادة معركة الاستقلال والأفق الديموقراطي.
قبل موتك صرخت برفاقك «عودوا إلى الساحات»، لأنك كنت تعلم، أن الثورة التي تتوقف في منتصفها تنتحر.
اليوم في الذكرى العاشرة لمقتلك وتتويجك شهيداً لبنانياً وسورياً وفلسطينياً، أي بيروتياً، أشعر بوحدة قاتلة، ليس لأنك مت، وأنت الأخ والصديق والحبيب، بل لأنني أتأمل موتك وموتي المحتمل بصفته لحظة لا تكتمل إلا بالتأويل. ومع التأويل الذي يتغير بتغير الأزمنة، يصير الموت حقلاً لاحتمالات شتى، وينضم إلى أسرار الحياة بصفته أحد ألغازها الكبرى.
أكتب عن موتك يا صديقي كأنك لم تمت، وهذا هو درس الموت الأول. فالموتى لا يموتون إلا إذا ماتت أماكنهم في قلوبنا وعيوننا، وأنت تحتل عين القلب، لأنك كتبت التاريخ الأجمل لمدينتك التي تعيش على حافة بركان، ولأن شعورنا بالشقاء بعد موتك، أدخلك في كتاب «الشقاء العربي»، الذي كتبته.
كنت أعتقد أن الزمن يعلمنا النسيان، لكن زمننا اللبناني- السوري- الفلسطيني يا صاحبي زمن عجيب، لأنه يمر كأنه لا يمضي، ويسرع كأنه يبطئ، ويتقدم كأنه يتراجع. أشعر ان 2 حزيران 2005، هو اليوم، وان دمك لا يزال طازجاً على رصيف «الجبل الصغير»، كما أشعر أنك مت من زمان، وان غبار الدم والقهر يحجبك عن عيني.
كنت أتمنى أن أناقش معك مسألة تؤرقني كثيرا، وهي مسألة تتعلق بك وبي وبكل رفاقنا وأصدقائنا الأموات والأحياء، لكن للأسف صار الكلام معك مستحيلاً أو مجرد تأويل لاحتمالات الكلام، لذا أعتذر منك، لأنني أكتب ما أكتب، مفترضاً أن تأملاتي هي حصيلة حوار معك لم يجرِ الا في الخيال.
وسؤالي هو كيف نستطيع تأويل موتك اليوم؟
قبل أن ألجأ إلى احتمالات التأويل أريد أن أعترف لك بذنب أشعر به حتى لو لم اقترفه سوى كافتراض. كنت في جلسة مع بعض قدامى الأصدقاء، حين تكلمنا عنك وعن عدد من أصدقائنا الراحلين، ولا أدري من أين جاءني نزق الجرأة كي أقول إنني أغار منكم، فأنتم متم قبل أن تعصف بمنطقتنا رياح هذا الموت الجارف، وهذا الانحطاط المروع. نعم، قلت انني أغار من الأموات، لأنهم مضوا قبل أن تنطفئ شعلة الأمل في عيونهم، ماتوا وهم على اقتناع بأننا محكومون بالأمل، مثلما كتب صديقنا سعدالله ونوس. ماتوا قبل أن يصير الأمل سراباً، وتدخل منطقتنا في ما بعد اليأس.
أعتذر، لم يكن يحق لي أن أقول ما قلت، فنحن الأحياء محكومون بأن ننزل إلى قعر الشقاء العربي، وندفع ثمن نهضة عربية أجهضها الانقلابيون والضباط، ويأتي الأصوليون اليوم من أجل إيصالها إلى القعر.
نعم يا صديقي، موتك منذ عشر سنين، كان بداية الموت الذي يلف منطقتنا، ولا أستطيع تأويله اليوم أو اكتناه معناه العميق إلا في هذا السياق. كنت يا صديقي طليعة الضحايا، لذا نجوت من التهميش الذي يخنق اليوم الديموقراطيين واليساريين والعلمانيين من أمثالك. موتك اغتيالاً، كان إشارة إلى قدرة قوى الاستبداد والظلامية على تدمير حلم الملايين الذين احتلوا ساحات المشرق العربي من بيروت إلى تونس والقاهرة ودرعا وحمص… انفجرت مجتمعاتنا بالحرية، واشتعلت الثورات من دون أن تجد الثوريين الذين يستطيعون حمايتها والانتقال معها من الاحتمال إلى التحقق.
تعال معي إلى تأمل هذا الشقاء، ليس من أجل أن نيأس، بل من أجل أن نحلم من جديد. الأمل ليس نقيض اليأس، بل قد يكون أحد أشكاله. لذا لا أدعوك إلى الأمل الساذج، بل إلى الحلم. قل لي هل صحيح أن الموتى حين يخرجون من الحياة يدخلون في حلم طويل لا نهاية له. يتحولون من بشر يبحثون عن حلم إلى حلم لا يبحث إلا عن نفسه؟
قل لي كيف نصنع حلماً جديداً، وكيف نحمي حياتنا من الوحش الذي ينهش مجتمعاتنا، ويدفع بها إلى الهاوية؟
اتخيل ابتسامتك التي تمزج الذكاء بالمكر وأنت تدعوني إلى تأمل مصائر المستبدين والطغاة والغزاة، وكيف هزمتهم المدن التي اعتقدوا انهم هزموها.
عشر سنين يا صديقي، والدم الذي سال في بيروت يغطي اليوم المشرق العربي، ويكتب ملحمة بحث عن الحرية ستكون بواباتنا للعبور من ضحايا التاريخ إلى صانعيه.
نتعلم من موتك وكل هذا الموت الذي نعيشه فضيلة التواضع، فالموتى هم الأكثر تواضعا، لأنهم الأكثر حكمة، وفي مدرسة التواضع هذه علينا أن نكتب حكاياتنا من جديد، وهي حكايات لا تصنعها سوى مقاومتنا للاستبداد والاحتلال.
القدس العربي
عشر سنوات على غياب سمير قصير/ زيـاد مـاجد
في مثل هذا اليوم قبل عشر سنوات في بيروت، اغتال النظام السوري وعملاؤه اللبنانيّون المؤرّخ والصحافي والناشط السياسي اليساري سمير قصير.
وفي مثل هذا اليوم، افتدى سميرٌ رفاقاً وأصدقاء له سوريّين، كافحوا وكتبوا وقارعوا الفاشيّة وسُجنوا على مدى عقود. وافتدى أيضاً رفاقه وأصدقاءه اللبنانيّين الذين عملوا معه لسنواتٍ مواجهةً لهيمنة الفاشية إياها على لبنان.
عقدٌ إذاً مرّ منذ انحنى سمير لآخر مرّة، بقميصه الأزرق المضرّج بالدم، على مِقوَد سيارته التي دمّرها الانفجار. عقدٌ حصلت خلاله تطوّرات يصعب على إنسان هضم مُجرياتها ومؤدّياتها وأهوالها بيُسر: من جرعات الموت اللبناني حرباً وانقلاباتٍ واغتيالات واجتياحات ميليشياوية لبيروت، الى تهتّك ما كان قد نجا من عُرى الدولة اللبنانية ومؤسّساتها ودستورها، وصولاً الى الخيبات والتراجع الذي أصاب المشاريع السياسية المُواطنية التي سبق لسمير أن وضع كثير الجهود فيها.
الأخطر والأعمق أثراً، هو ما حصل في المحيطين الجغرافيّين القريب والأقلّ قرباً في السنوات الخمس الماضية من ثورات على الطغيان وعلى “الشقاء العربي”، ومن ثورات مضادة وانقلابات عسكرية وحروب متواصلة وصعود بربريّات وأصوليّات تمزّق النسيج الاجتماعي، وتُنافس في حالة “داعش” نظام الأسد همجيّةً، ولو أنه وحلفاؤه ورُعاته ما زالوا يسبقونها في أعداد الضحايا وفي صناعة الموت والقدرة على تعميمه.
لكنّ العقد المنصرم حمل أيضاً الكثير من البهاء والأمل. فالحيوية الثقافية في بيروت والفنّ والدفاع عن حرّية التعبير ظلّت تقاوم الموات، ولم تقوَ عليها حملات التخوين والتهديد وطلقات الرصاص. ووصول فنّانين وكتّاب وصحافيّين سوريّين وفلسطينيين من سوريا خلال السنوات الأربع الماضية ضاعف من الحيوية المذكورة وأغناها.
كما أن الثورات العربية التي انتصرت أو هُزمت أو نجحت في خلع الدكتاتور من دون أن تنجح بعدُ في إقامة حكم “ديمقراطي” على أنقاض سلطانه، كشفت طاقات مجتمعية هائلة في تونس ومصر والبحرين وليبيا واليمن، يُخشى أن القتل قد يُخمد بعضها لكنه حُكماً لن يتمكّن من إطفائها.
هكذا، تزاحمت في سنوات غياب سمير أحداثٌ وتسارعت ديناميّات، وبقي طيف الرجل حاضراً بين صحبه، يتخيّلونه معلّقاً أو مساجلاً أو مراقباً، أو يُحيّون مجلسه إن مرّوا أمام تمثاله في وسط بيروت حيث صار لبنانيّون وسوريّون وفلسطينيّون يتجمّعون دوريّاً لقضية أو لمناسبة. وفي هذا شيءٌ من عزاء، خاصة إذ يرفده تخيّلُ قتَلةِ سمير يكتمون غيظهم وهم يمرّون أمام التمثال والمجتمعين في حديقته.
على أنّ العزاء الحقيقي ما زال مؤجّلاً. ما زال في انتظار إحقاق بعضٍ من العدالة. وبعضُها يعني محاكمة السفّاحين الذين أمروا وخطّطوا ونفّذوا وغطّوا عملية الإعدام، في دمشق وفي بيروت. وبعض العدالة يعني كذلك انتصار السوريّين على السفّاحين هؤلاء وتحرير بلادهم من احتلالهم المتواصل لها منذ ذلك اليوم المشؤوم في تشرين الثاني قبل خمسة وأربعين عاماً…
موقع لبنان ناو
خطر سمير قصير المستمر/ يوسف بزي
رغم مرور عشر سنوات على غيابه ودخوله في الصمت الأبدي، لا أتخيل سمير قصير إلا مسرعاً لاهثاً، مستعداً للانطلاق. بطل سينمائي جذاب كهذا، لا يعرف التعب. وطوال عقد كامل من معرفتي به، كان هكذا متوثباً، كمن يخوض سباقاً مع دوران الأرض. على هذا المنوال كان يباشر السياسة يومياً، أي الانهماك بالتحضير لحدث ضخم وتاريخي، ولا مجال أمامه للتقاعس أو الملل. إنه «منذور» لمهمة جليلة كهذه. ولا شيء يوقفه إلا الموت.
ربما أصدقاؤه عرفوا ذلك، لكن أعداءه أيقنوا أن هذا الرجل شديد الخطورة ولا سبيل أمامهم سوى اقتراف جريمة قتله في وضح النهار. كان ذلك في العام 2005، اغتالوه ليس فقط بسبب دوره الاستثنائي في «انتفاضة الاستقلال» اللبنانية، كمثال واضح على الأدوار الفائقة الأهمية التي لعبها «المثقفون» اللبنانيون حينذاك.. لكن اغتياله كان أيضاً «ضربة استباقية» للأثر الذي سيتركه دوره المذكور في الجوار العربي، والسوري منه، خصوصاً. إنه دور ملهم وفعّال، خصوصاً في بلد الديكتاتورية البعثية ـ الأسدية. فهذا النظام الذي حطم الحياة السياسية، وأفرغ الأحزاب من مضمونها وجدواها، وسحق التعبئة الشعبية التي جربتها حركة «الإخوان المسلمين» في مطلع الثمانينات، وعمّم الخوف والخواء في المجتمع.. رأى فجأة أن مصدر «الخطر الجديد» هو في أولئك الأفراد، القلة الذين لديهم تفكيرهم المستقل، النقدي والحر، أي في أولئك المثقفين الذين يملكون مبادرة الاعتراض، ولديهم أفكارهم الخاصة بمستقبل أفضل لبلدانهم وشعوبهم.
ما فعله سمير قصير، فكراً وعملاً، هو محو ذاك الفاصل المزيّف بين الثقافة والسياسة، بين ممارسة الأدب والفن والفلسفة والتأريخ والتدريس الجامعي والعمل الميداني والإعلامي والحزبي. بمعنى آخر كان يقترح ويعيش نمط حياة يتماثل تماماً مع طموحات الثقافة وواجبات السياسة. كان ينفذ أجندة «مسؤوليات المثقف».
هو نفسه حدد تلك «الواجبات»: التخلص من الشقاء في العالم العربي. وإذا راجعنا مجمل طروحاته في هذا الشأن، يمكن تلخيصها في مطلب الحرية والعدالة الاجتماعية. وعلى مستوى أعمق، كان يزيل التناقض المصطنع بين اليسار والديموقراطية، وبين التراث الديني وشروط النهضة، بين الحداثة والهوية الحضارية..
هذا كله، كان منغمساً فيه، كتابة وممارسة، في مكتبه وفي «ساحة الشهداء»، حتى لحظة اغتياله. وهذا كله، سنراه في آلاف الشبان «الناشطين« عملاً وثورة وكتابة وتعبيراً وأدواراً ميدانية في ساحات القاهرة وطرابلس الغرب وصنعاء ودمشق وحمص وحماة وحلب.. بل سنراه في أقاصي الريف السوري كقرية كفرنبل وبنش.
بمعنى آخر، ساهم سمير قصير في كسر العزلة الطوعية التي كان مثقفو العالم العربي يعيشون فيها، وفق صيغة «العجز عن معارضة الأنظمة» من جهة، و»اليأس من الشعوب المستكينة والجاهلة» من جهة أخرى. كانت تلك الصيغة مريحة وتبريرية، وأنتجت في نهاية المطاف مثقفين منعدمي الأخلاق، لا يتصفون إلا بالنرجسية المتورمة والانتهازية.
المثقف ـ الناشط الذي عرفته بيروت عام 2005، كان يولد في الوقت نفسه بدمشق. هذا ما عرفه قتلة سمير قصير. وهم لاحقوا أنداده وأشباهه في كل سوريا، ومستمرون حتى اليوم في المطاردة، اعتقالاً وقتلاً. هذا يحدث في عموم البلدان العربية أيضاً (لنتذكر هنا مقتل شيماء الصباغ في وسط القاهرة).
خطر سمير قصير مستمر و»الشقاء العربي» أيضاً.
المستقبل
سمير قصير: ذكرى شهيد سوري/ صبحي حديدي
منذ 2/6/2005، تاريخ اغتيال سمير قصير، المؤرخ والكاتب والصحافي اللبناني (الفلسطيني الأصل، لأمّ سورية)، لا تمرّ هذه الذكرى المشؤومة إلا وتضيف جديداً، أو لعلّها تشدّد على قديم يُعاد إنتاجه، أو ترتبط على نحو أوثق، بالسياقات التي اقترنت بتلك الجريمة؛ ليس لبنانياً، فحسب، بل عربياً أيضاً، وفلسطينياً وسورياً بصفة أخصّ. كذلك فإنها ذكرى يندر أن تمرّ دون مقدار من الاصطراع الجدلي بين تحقُّق بعض أحلام قصير وآماله، من جهة؛ وانكسار بعضها الآخر، أو الردّة فيها وعليها أحياناً، من جهة ثانية.
سمير قصير: من قتله؟؟
وها أنّ سنة ثامنة على غياب قصير، تبدأ اليوم في غمرة مشهد لبناني بائس، سياسياً أوّلاً (ليست أسوأ مظاهره حكاية التمديد للمجلس النيابي، واستدارة بنادق ‘حزب الله’ من الجبهة مع العدوّ الإسرائيلي إلى قتال الشعب السوري دفاعاً عن نظام آل الأسد)؛ ثمّ على أصعدة أخرى، اجتماعية وثقافية وأخلاقية وطوائفية (ليس أسوأها، هنا أيضاً، مشروع قانون اللقاء الارثوذكسي، أو المواقف العنصرية تجاه النازحين السوريين في لبنان). غير أنّ نهار اغتيال قصير كان قد انقضى والآمال ضئيلة في صعود معارضة عربية، جديدة ومستنيرة، مثقفة وعصرية؛ و’أوان الورد’، الذي ترقبه الراحل بشغف ولهفة وثقة، بدا مؤجلاً حتى إشعار آخر طويل، ليس في بلدان مثل تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين، وحدها، بل في سورية أوّلاً، وربما أساساً من وجهة نظر قصير. فهل انكسرت الأحلام، حقاً؟ وهل تبددت الآمال، كلّها؟
هي ذكرى تذكّر، أيضاً، بأنّ درس الاغتيال الأوّل ـ الأكبر والأبسط، في آن ـ كان إسكات قلم جسور ترتدي كتاباته، وما تصنعه من أواليات وعي واحتجاج ومقاومة، أهمية ستراتيجية تعادل، أو لعلها تفوق، كلّ منتجات التكتيك الصغيرة. لهذا لم يكن اغتيال قصير محض تمرين في الثأر أو التأديب أو تلقين الدروس، بل كان تنبيهاً بربرياً إلى حقيقة أنّ الإطاحة برأس أمني هنا أو تبديل آخر هناك، لا تعني أنّ الوحش قضى أو تمّ ترويضه. الوحش، في الواقع، ظلّ حيّاً يسعى ويفخخ ويقتل، في توقيت محسوب أُريد منه أن يبعث أبلغ الرسائل، وأن يلحق أفدح الأضرار حيث ينبغي؛ وبقي سؤال ‘عسكر على مين’، عنوان كتاب شهير للراحل ضدر مطلع 2001، يفيد التالي: عسكر على الآمنين!
هي، ثالثاً، ذكرى آمال داعبت الراحل، مثل كثير من اللبنانيين والسوريين، بأنّ الأقنعة قد سقطت عن الوجوه، فباتت مكشوفة ظاهرة للعيان، أضعف من ذي قبل، بل أضعف كثيراً؛ دون أن يعني هذا أنّ النظام الأمني لن ينتقم، ولا حظوا استخدام الراحل لهذه المفردة تحديداً: ينتقم! ففي مقال بعنوان ‘وسقط القناع′، نُشر قبل أسابيع قليلة من جريمة الاغتيال، اعتبر قصير أن ‘بعض رموز الطوفان المخابراتي’ سوف تحاول ‘شراء المزيد من الوقت’، و’قد يسعى النظام الأمني مرّة جديدة إلى الانتقام’، و’لكنّ شيئاً لن يقدر على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. لقد ذهب النظام الأمني. فليكن ذهاباً من دون رجعة’.
وبالمعنى العامّ لحركة التاريخ، لا ريب في أنّ عقارب الساعة لن تُعاد إلى الوراء، بالقياس إلى ما تمّ إنجازه على أكثر من صعيد سياسي، بما في ذلك انسحاب النظام السوري عسكرياً من لبنان. غير أنّ الصعيد الأمني لم يشهد تحرّك عقارب الساعة إلى الأمام، لكي يُقال إنها لن تعود إلى الوراء في عشرات الملفات، وبينها بالطبع مسلسل التفجيرات وعودة الاغتيالات. وإذا كان ما يشبه ‘الهجوع′ الأمني قد طبع الأسابيع القليلة التي أعقبت اغتيال قصير، لأسباب التقاط الأنفاس وامتصاص الصدمات قبل تنظيم القوى من جديد، فإنّ ذلك الهجوع انقلب إلى استفاقة عنفية طاغية، وتعاقبت عمليات الاغتيال، وعلى منوالها تسارع سقوط الأقنعة. هنا، أيضاً، توجّب أن تتصف الحال بمقادير من جدل الاصطراع: بين عدوان إسرائيلي وحشي على لبنان، صيف 2006، و’غزوة’ أنصار ‘حزب الله’ في بيروت، ربيع 2008؛ وبين ‘مقاومة’ لا هدف لها سوى الدفاع عن لبنان ضدّ إسرائيل، و’المقاومة’ ذاتها وقد اختزلت إسرائيل إلى بقعة جغرافية صغيرة اسمها ‘القصير’ السورية!
ويبقى من باب تحصيل الحاصل أن يربط المرء بين اغتيال قصير، وسلسلة المواقف الصائبة والشجاعة التي عبّر عنها بصدد تلازم مسارات التحوّل الديمقراطي في سورية ولبنان، على نقيض تلازم المصالح بين النظام الأمني اللبناني وسيّده النظام الأمني السوري، أو: ‘اللبنانية ـ السورية للتلازم والعلاقات المميزة، شركة غير محدودة اللامسؤولية’، كما أسماها الراحل ساخراً. لهذا فإنّ الانتقام لم يستهدف رمزاً سياسياً أو أمنياً أو اقتصادياً أو طائفياً، بل ضرب حيث ينبغي للرسالة أن تكون مدوية: فـــــي قلــــب الأوساط التي لن يكفيها انسحاب القوّات السورية (وبقاء الأمن السوري هنا وهناك، قوياً مهيمناً)، ولن يرضيها قرار يستبدل هذا المسؤول الأمني أو ذاك (ويُبقي شبكات الولاء على حالها، في باطن الجهاز).
أجدني إذاً، كما فعلت سنة 2011، أستأذن شهداء الانتفاضة السورية في ضمّ شهيد إلى قوافلهم، لم يسقط على ثرى سورية، بل اغتيل لأنه اعتبرنا أبناء وطنه الثاني، وشاطرنا الآمال والآلام، وتلمّس معنا مفردات المستقبل الأفضل
سمير قصير .. وحقد النظام السوري/ خير الله خير الله
تمرّ اليوم الذكرى العاشرة على اغتيال الأخ والصديق والزميل سمير قصير. لماذا استهداف سمير قصير؟ يختزل سمير قصير كلّ ما يسعى النظام السوري إلى تدميره، أكان ذلك في لبنان أم في سوريا نفسها أم في فلسطين. يختزل حقد هذا النظام على أيّ انسان حرّ وناجح وأيّ نجاح أكان ذلك في سوريا نفسها أو في لبنان.
في ذكرى سمير قصير اللبناني والسوري والفلسطيني وعاشق بيروت أيضاً، هناك حسرة. لماذا ليس سمير بيننا اليوم كي يتأكّد أنّ كلّ ما نادى به لا يزال حلماً. لكنّه صار حلماً قابلاً للتحقيق.
قبل ساعات من اغتياله في بيروت بواسطة عبوة ألصقت بالهيكل التحتي لسيارته، كان سمير قصير ليل1-2 حزيران 2005 يحلم بلبنان الحرّ السيّد المستقل. كان في أحد مطاعم الجميزة يتصوّر كيف ستبلغ «ثورة الأرز»، التي كان من بين أبرز المخططين لها، سوريا وكيف ستنقذ السوريين من نظام طائفي أقلّوي امتهن إذلالهم وسلبهم كرامتهم مستخدماً حزب البعث العربي الاشتراكي بكلّ ما يمثّله من تخلّف موصوف على كلّ الصعد.
تحققت نبوءات كثيرة من تلك التي تحدّث عنها سمير قصير. من كان يتصوّر مثلًا أن النظام السوري سيصل إلى ما وصل إليه؟ صار هذا النظام في مزبلة التاريخ. العلّة الوحيدة لوجوده هي الدور المطلوب منه استكماله. أي الانتهاء من سوريا التي عرفناها.
كان سمير عاشقاً لبيروت. لم تخيّب بيروت آمال سمير قصير، فهي لا تزال تقاوم. بيروت تقاوم ثقافة الموت التي يحاول «حزب الله» الذي حلّ مكان النظام السوري فرضها على لبنان واللبنانيين، تماماً كما فرضها على سوريا والسوريين، وكما سعى إلى فرضها على الفلسطينيين.
كانت حجّة حافظ الأسد أن «القرار الفلسطيني المستقل بدعة». لذلك هناك بدعة التخلص من المخيمات الفلسطينية في سوريا، في مقدّمها مخيّم اليرموك. هذا المخيّم الذي يعاني اليوم مما عانت منه المخيّمات الفلسطينية في لبنان على يد النظام السوري. استطاع هذا النظام، وكان سمير قصير يعرف ذلك جيّداً، تجنيد الفلسطينيين في لبنان من أجل تدمير البلد، بما في ذلك بيروت. واستطاع في الوقت ذاته تجنيد المسيحيين اللبنانيين من أجل الدخول في حرب مع الفلسطينيين.
كان الهدف واضحاً كلّ الوضوح. كان الهدف وضع النظام السوري يده على لبنان. أشعل النظام السوري الحريق اللبناني، ثمّ راح يلعب دور الإطفائي، مخترعاً لنفسه دوراً على الصعيد الإقليمي. يتمثّل هذا الدور في حماية المسيحيين اللبنانيين من جهة و»السيطرة على مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية» من جهة أخرى. كان هذا التعبير، المتعلّق بالدور السوري في لبنان، هو الذي استخدمه وزير الخارجية الأميركي هنري كيسينجر، أواخر العام 1976، في سياق تبريره لإسرائيل الأسباب التي تدعو إلى السماح للجيش السوري بدخول الأراضي اللبنانية تمهيداً لتكريس الوصاية على الوطن الصغير.
هناك أسباب كثيرة لدى النظام السوري وغيره للتخلص من سمير قصير. هناك سمير قصير المتمرّد أوّلاً الذي يرفض تقديم أيّ تنازلات من أيّ نوع. وهناك ثانياً سمير قصير الذي يمتلك رؤيةا. مَن كان يتصوّر أن لبنانياً، يستطيع في العام 2005، بعد أيّام من اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، التكهن بثورة شعبية في سوريا ما لبثت أن اندلعت في السنة 2011؟
مع انسحاب القوات السورية، راح سمير قصير يرقص فرحاً في مطار بيروت بعد الرحلة الأولى إلى خارج لبنان، وكانت إلى الأردن. كان ذلك حلماً مستحيلاً تحقّق أخيراً بفضل رجال من طينة سمير قصير لم يتمكّن النظام السوري والنظام الأمني السوري – اللبناني من كسرهم.
كان لا بدّ من التخلص من سمير قصير، لأنه كان رأس حربة في التصدي لتلك الكذبة الكبيرة التي اسمها النظام السوري ولتلك الشعارات التي يروّج لها من نوع «المقاومة» و»الممانعة».
كان سمير قصير يمثّل كلّ ما يكرهه النظام السوري. يكفي أنّه كان حرّاً. كان يمثّل المثقف الحقيقي، كما كان رمزاً من رموز جريدة «النهار» التي استهدفها بشّار الأسد شخصياً بصفة كونها أحد الأعمدة التي يقوم عليها لبنان. لذلك، لم يكن مستغرباً، أن يطلب بشّار الأسد من رفيق الحريري في الشهر الأخير من العام 2003، بيع اسهمه في «النهار». لم يكن مستغرباً أيضاً اغتيال جبران تويني بعد اغتيال رفيق الحريري وسمير قصير…
فوق ذلك كلّه، كان سمير قصير وجهاً من الوجوه المشرقة لبيروت. اغتياله جزء من عملية اغتيال بيروت وكأنّه ليس كافياً التخلّص من رفيق الحريري عقاباً له على إعادة الحياة إلى عاصمة لبنان تمهيداً لإعادة الحياة إلى لبنان كلّه.
ليس ما يعوّض خسارة سمير قصير. كان اغتياله ضربة كبيرة لكلّ من آمن بلبنان وسوريا وفلسطين. ما يدعو إلى الأمل أن ذكراه لا تزال حاضرة بفضل جيزيل خوري التي، مثلها مثل سمير، لم يتزعزع فيها يوماً الإيمان ببيروت، بل زادت محبتها للمدينة محبّة وعزيمة…على الرغم من غياب الزوج والصديق والملهم.