عشر سنوات على رحيله: سركون بولص… تيه الحداثة العراقية
سركون بولص: أينما كنت
سيرته بقلمه
وُلِدت بالقرب من بحيرة الحبّانية، وأذكر أنّ أمواجها الخاملة كانت، عند الفجر، وهي تنسحب، تخلّف أسماكاً صغيرة تتراقص على الرمال محاولة اللحاق بالموج. كنت ألتقط بعضها وآخذه إلى أمي لتطبخه. تجوّلت كثيراً وأنا طفل في التلال الصخريّة القريبة، هرباً من البقاء في البيت.
وهذا البيت كان مجرّد كوخ طويل من الطين والصفيح على طريقة المعسكرات، تسكنه أربع عوائل تفصل ما بينها شراشف كبيرة معلّقة على حبال. وقبالته مباشرة، كان قصر زجاجي على البحيرة ألمح فيه الإنكليز، رجالاً ونساءً، يتنزّهون أحياناً على الضفاف أو يركبون طائرة برمائيّة تقلّهم إلى الجانب الآخر، الغامض، من البحيرة. كان أبي، فإلى جانب كونه نجّاراً، وبالإضافة إلى عمله المتواضع في كيِّ الملابس، كان يمارس صناعة العقاقير البدائيّة ويشفي القرويّين الذين كانوا يؤمنون به كطبيب من نوع ما، وكنت أحمل له الفانوس في ليالي الشتاء عندما نقوم بزيارة. لن أنسى مناديله الفائحة برائحة الأعشاب الغريبة الزكيّة، وعدّته البسيطة ومخزونه من مبادئ علم النفس الخشنة التي تعلّمها في الجبال.
ذات يوم هاجمت مقرّات الإنكليز داخل البلدة نفسها جموع كبيرة من البدو، بالهراوات والبنادق القديمة والسكاكين. شهدتُ هذه المعركة وكانت أوّل ثورة رأيتها في حياتي. عندما انتقلنا إلى كركوك كان سحر جديد قد بدأ، وما زال حاضراً في ذاكرتي. كانت هذه المدينة عبارة عن قلعة حجريّة عالية، هي القسم القديم والتاريخي منها، «تطلّ على القسم الحديث والضاج» بحياة لم تكن تختلف كثيراً عمّا كانت عليه في العهد العثماني أو في عهد الإسكندر الذي كان قد مرّ بكركوك في إحدى غزواته. تحت أدراج القلعة مباشرة كان نهر «الخاصّة»، وهو يابس معظم السنة يسير الناس في مجراه المليء بحصى بيضاء أو يسقون بغالهم أو يقامرون في ظلّ جسره القديم. ذات شتاء فاض هذا النهر بشكل مفاجئ وخطر، حاملاً على أمواجه الغاضبة أثاث البيوت، صناديق عرائس مزركشة بالأخضر والبرتقالي، ومهداً صغيراً مزيّناً بالطواطم والأوشام الخضراء فيه طفل حيّ يبكي بصوت عال. كانت الضفاف زاخرة بالبشر المتصايحين، من أكراد وتركمان وعرب وآشوريّين، والرجال يحملون الحبال محاولين إنقاذ الطفل، بعضهم في قوارب صغيرة يجذّفون بلا هوادة. في كركوك كان الزمن يمرّ ببطء لأنّ الحياة كانت بطيئة، والمجتمع مغلقاً على نفسه. ولكن تحت قشرة المظهر كانت هذه المدينة أخصب ينبوع للأسرار يمكن أن يستقي منه الإنسان: الجنس كان مفقوداً ظاهريّاً ولكنّه يجري خفية على السطوح، في حرارة الشمس القائظة، أو بين البساتين المهجورة في الليل.
بدأت الكتابة في كركوك. كان أخي يملك بعض الكتب، صدف أن طالعت أحدها وكان لسومرست موم، عن عبوديّة الإنسان كما أذكر. نشرت أوّل مقال لي في جريدة «البلاد» وكان عن عمر فاخوري. ثمّ اكتشفت كتاباً بالإنكليزيّة عن ماياكوفسكي ونشرت عنه مقالاً في جريدة «النصر» اليساريّة بعنوان: «ماياكوفسكي، الشاعر الصقر». جلب هذا إليّ، في اليوم التالي، منظّماً لخليّة شيوعيّة على دراجة أخذ يفسّر لي أفكار لينين بطريقة ساحرة. كنّا نذهب على دراجاتنا بعيداً عن المدينة، مصاقبين لخطّ السكّة الحديديّة التي تمضي إلى أربيل، لنجتمع بين تلّتين متجاورتين. أحياناً كنّا ننسى الحزبيّات ونذهب لصيد السمك، أو نتكلّم عن النساء حتى نتعب. بدأت أقرأ كلّ ما تقع عليه يدي في المكتبات الصغيرة، أو حيثما وجدت بائعاً يفرش بضعة كتب على رصيف ليحصّل رزقه. من «أرسين لوبين» إلى كتاب «واينزبرغ، أوهايو» لشروود أندرسون، الذي قرأته طيلة سنين بحبّ لأنّه كان يحكي عن شخصيّات غريبة في بلدة واينزبرغ الموحشة، الشبيهة بكركوك. (زرت كليفلاند في أوهايو فيما بعد، ولكن ليس واينزبرغ).
ذات يوم، في طريقي إلى المدرسة، وفي وسط ساحة شارع العلمين توقّفت مصعوقاً على دراجتي. كان عدد من المشنوقين يتدلّون من الحبال ويتأرجحون في الريح كأنّهم فزاعات فارغة. كانوا حفاة لا يرتدون إلّا البيجامات. كان أبي قد أخذني مرّة إلى بغداد ووصلنا وقت الفجر. سحرتني أزقّتها، وبعد سنين هربت إليها. هناك بدأت فورة حقيقيّة من النشاط تأخذني في تيّارها، وانجرفت معها بلذّة حالمة. كنت أنشر القصص بكثرة من مجلات وصحف عراقيّة وبيروتيّة. وهناك حصلت، ولأوّل مرّة في حياتي، على بضعة دنانير كمكافأة على بعض القصص. عمّقت قراءاتي وكانت الكتب متوفّرة بكثرة، تستنزف مصروف الجيب الضئيل بأكمله، ولكنّها أيضاً، مثل معجزة، تربطني بالعالم الفنّي، الواسع، البعيد الذي كنت أتخيّله دائماً. لم يكن بدّ من الهروب إلى بيروت، إذ كان من الواضح أنّها مركز التحدّي، وأيضاً، بؤرة النشاط الأدبي والنشر. وكذلك، مرفأ مطلٌّ على البحار. هنا تجذّرت علاقتي الحقيقيّة مع الأدب، وأخذت أراجع مفاهيمي، والمجتمع الذي أعيش فيه، وخصوصاً، ضيق حياتي نفسها، أفكاري، وطموحاتي. أردت أن أطلق العنان لكل هذا. أردت أن أعرف بحقّ من أنا وماذا أريد، أن أناقش كل شيء، أن أبتعد وأكتشف وأعود بجواب. هكذا وجدت نفسي في أميركا. وتلك قصّة أخرى.
* نُشرت هذه السيرة في «أعلام الأدب العربي المعاصر، سير وسير ذاتية»، بيروت 1996 ـ كما وتصدر ضمن كتاب «عن الشعر والحياة» (شذرات غير منشورة ــ منشورات الجمل)
كلمات
العدد ٣٣٠٤ السبت ٢١ تشرين الأول ٢٠١٧
رسالة إلى صديقة في مدينة محاصرة (نصوص غير منشورة *)
رجلٌ خلف ستارة
ماذا يملأُ عينيْ رجلٍ
مريضٍ بالقلبِ خلفَ ستارتهِ
عندما يَرى
طفلتينِ تلعبانِ في أرجوحةٍ
ويسمعُ صوتَهما
الشبيهَ بالغناءِ عندَ الغسق
مختلطاً بصريرِ سلسلةٍ
صدئة …
هل تذكَّرَ المبضعَ الصامت
حين غزا بُستانَ طفولتِهِ الضائع
الخبيءَ في أدفأ زاويةٍ
من زوايا قلبهِ
المهزوم؟
شيءٌ لا اسمَ لهُ
يثقبُ الغروبَ، كلَّ غروبٍ منذ الآن
كجلدٍ قديمٍ نَضاهُ عنهُ
في سريرِ مستشفى.
هو الذي يأتي
يَأتي من الْمَدى، لا نعرفُ مَتَى، يأتي
لكنْ بعد وقتٍ
نصبرُ فيهِ طويلاً
نأكلُ فيهِ خبزَ الحكمةِ المُرّ
قد تكونُ ليلةً
أرقةً
قدْ يكونُ عمراً يمرُّ في رمشةِ عَين.
بينَ اتجاهِ السَّهْم
وخطوةِ المسافر
بين غناءِ زيزانِ الحصادِ كآلاتِ خياطةٍ قديمة
وصمتِ الحقولِ المثقلِ بذكرى
آخرَ الأعاصير.
دودةٌ تسقطُ من أنف إنكيدو:
وإذا بِهِ، جلجامش –
لا ملكٌ هو، وما من أوروك.
ليسَ سوى فروةِ الذئب، والبراري.
يأتي من المدى، يأتي. لا أحدٌ يدري متى، أو أين.
الوثبة
لأنَّكَ لمْ تظهري جعلتَ الوثبةَ تنتظرُ في مجراها
على عمقٍ يوازي عمقَ الرغبةِ في أوجِ انتصابها، وحاولوا أنْ يكسروا
على الصخورِ المعلَّقةِ في صدرِ كلِّ من رآني أقايضُ العصفورَ مخدّة من الريش،
مزمارَ الظلام بحجّةٍ تدلي اليّ حبلِها المغزولِ من أليافِ أكاذيبي
هذه الكومةَ من الحصى العاديّةِ بعروسٍ فرغانة، أنْ يكسروا هذه الرغبةَ في مهدِها
كمركبٍ عاصٍ تحتَ رأسَ الربِّ المرقّط كثعبانِ الجنَّةِ بالوعود.
ببخار لهاثي رسمتُ حولكِ دائرةً ومن أجلِكِ رأيتُ النائمين يبيعونَ حولي
ويشترونَ أثريّاتٍ ليليةً من عهدِ بابلَ خلفَ جدرانِ الأرقِ في الجهةِ الثانية،
يغرفونَ ليلي بالأكفِّ والهروبِ منهُ ولكنْ طويلاً يقْدحك أمامي
بشكلٍ لايُطاقُ أو يُضاهى: نارُ الجديلة الجنسيّة تطاردني
لآلاف السنين! وجهُك المسبوكُ من الهالاتِ يجري وراء يديّ في الطرقات.
لعابُ الفريسة يجدلُ الطريقَ إلى البيت
مقطَّراً لأنَّكَ لم تظهري.
حلم ليلة صيف
كم أبعدُ الآنَ
عن طَرَفِ البستانِ
حيثُ كنتُ في ليالي الصيف
أتربّصُ بمراهقةٍ حيرى
لا تستطيعُ أنْ تنام؟
وكمْ سأمشي
لأبلغَ المكانَ الموعود..
عبرَ أيّةِ أرضٍ نائيةٍ، نائيةٍ وملفوفةٍ بالموت
حيثُ مازالوا ينادونَ
وهذا حطامُ الجسر
الذي كانَ سيحمِلُني إليهِمْ.
أينما كنت دمُ العالم
أينما كنتُ
دمُ العالم يغلي
باحثاً
عن جسدي
أينما كنتُ
وهذا الحلمُ مصلوبٌ على صدغي كربّانٍ على دفّة مركب
حاملاً قوسَ حياتي
وطناً شدّ إلى أقصى مَدَاه
نحو نهرِ الانتفاضاتِ الأمنية
نائماً تحتَ فنارِ الصبرِ. وجهي
ليسَ وجهي
حاملاً بيتي في قلبي كعيدان ثقابٍ
حاملاً عائِلَتي فوقَ لساني
وطني في قبضتي…
كنْ وَاحِدَاً
أنْ نَبدأ، هَذا كلُّ شيءٍ
شيزاره بافيسي
تسكّعْ في الخراب
راكلاً
بعضَ الجماجمِ
أو تجوَّلْ في الجبالِ
أو انحدرْ في الفَجْرِ إنْ شئتَ
الى الطرقاتِ حيثُ تطوفُ أشباحٌ
مطوقّة الرقابِ عيونُها في الأرض
تبحثُ عن هدايا
قد يجودُ بها الترابُ عليكَ أنْ
تبدأ يوماً
آخرَ.
هذا
هو الإكسير.
هذهِ لحظةٌ
لنْ تتكرّرَ. معبدٌ
متنقلٌ في رابع الأبعاد
( كلُّ ضيوفك انصرفوا.
ملاكُك لنْ يزور..)
لذا
تذكّرْ دائماً:
كُنْ عابداً.كنْ
شاهداً. كنْ واحداً.
حاولْ..
ستجلسُ في النهاية
حيثُ لا مائدة. صحراءُ
صوتك في يديك.
وسيبدأ الليلُ
عميقاً
في الحجارةِ
والزمانِ.
وقد تنامُ
وتستعدُّ لحادثٍ ناءٍ
ينيرُ يديكَ منذُ الآن
غارقتينِ
في زنزانةٍ
الوعدِ.
قصيدة
كنتُ أرى رأس الصُّدفة
مشعّثاً، وقدْ أتى من بينِ العواصف
أنثوياً، لأنني تبعتُ أنوارَهُ الضئيلةَ
حتَّى هبطتُ بأمتعتي في حنجرةِ الأرض
مُتضوِّراً من جُوعي إلى الحب
وكان اعتمادي
طويلاً، ولكنني
تركتُ مدينةَ النومِ الخضراءِ هذه أخيراً
إلى هذا الشارع الذي أفقُهُ، نظيفٌ
كصحنِ عائلةٍ جائعة
ومن بينِ أسراره،
نبيٌّ
يتسوّلُ رسالةَ توصيةٍ من صالبيه
رسالة إلى صديقة في مدينة محاصرة
ينتهي الكلامُ
بعدَ أنْ يعبرَ الأعداءُ خطَّ الهُدنة
بيني وبينكَ الأنواءُ
تقلبُ الفناراتِ على ظهرِها
في أفواهِ الموانئ الملغَّمةِ بأحذيةِ الْمُسافرين
هذهِ الحجارةُ
لثمها عُبَّادُكِ الحائرونَ
بشفاهٍ ملأتْ أصنامَ الصحارى بالغيرةِ
والجدرانُ من خلفي
تتهاوى على مصلّيها
وجميعُ الجسور انهارتْ باختيارها
لكي لا يعبروا
لكي لا يصلوا المشعلَ
عميقاً في مهبلِكِ العميق
يغدّي أحلامَنا بقمحِ السَّحَرَة المجوِّع
برسائلَ مؤلّفةٍ من حمّى مُرسليها
وهي نارٌ خالصةٌ
أضاجِعُكِ عَاريةً في الكَرْمة الخالدةِ بالدم
مُقامراً بكلَّ شيء على فرس النشوة
أريقُ بصيحاتي المتواصلة
ظلَّ وطني المسافرَ أَمامي
دون أنْ أنظرَ إلى الغد
حتَّى نظرةً واحدة
زارعُ الألغامِ في صوامعِ الحكمة
صائدُ فئران المملكة في قبضةِ الطاعون
وهذه المراكبُ
هذه المراكبُ في طريقِها إلى مَراكزِ التجارة
حيث حرائقُ المالِ عظيمةٌ
يرى نيرانَها العراةُ من شُرفاتِهمْ
وهي تتأرجحُ على ظفرِ الهاوية
يراها سجينٌ هاربٌ يتردّد
في طريقِهِ إلى النَّهرِ
حيثُ ينتظرُهُ دائماً
قاربٌ مربوطٌ إلى الأغْصانِ
الإشارات السائلة إلى الوديان
من المنفى الذي يحملُهُ
قفصاً من الريشِ
في يديهِ
تتحدُّ بأذرعِ الموكبِ
في هذهِ الأثناءِ
بينما يُحتفَلُ بأوّلِ عدوٍّ
يُسلّمُ نفسَهُ للسكّانِ
في الجانبِ الشرقيِّ من المدينة
تفرّقَ عبّادك الحائرونَ إذن
في طُرقٍ مسدودةٍ
تطفو كبقايا سفينةٍ حُطّمتْ بالفؤوسِ في مداخِلِ الأقدام
شُوهدوا
وهُمْ يعرجونَ بمهارةً
تفادياً للرصاصةِ التي تنزحُ
خلفهمْ بثباتٍ
ولكنْ بطيئةً
كأنها تشقُّ طريقها في جليدِ النوم
وسيكون طريق
نعبُرُهُ مرَّةً واحدة
أعِدُكِ بهذا
واثقاً من النهاية المريرة
فالكلامُ سينتهي
بعدَ أنْ يعبرَ الأعداءُ خطّ الهدنة
حيث ننتظرهمْ كلانا
بعنقودٍ من معجزات النار
يتدلّى من ثَغْرهِ في مبكى الحقيقة.
يخطف أبصارَهَم ليعودوا
عميانَ إلى صحاراهِمْ
وكلُّ بندقيّةٍ عكَّاز
وستكونُ مائدةٌ
وأنا أعدكِ بهذا
كلَّما طفتِ بينَنا كحياةِ الغرقى
سمّرها الضوءُ الطاغيةُ بحربةٍ فوريّة
في ظهرِ الجوعِ المقوّسِ مِنْ كَثرةِ الانحناء
كنت أصعدُ متعثّراً
كنت أصعدُ متعثّراً
أسهرُ من أجل لا أحدٍ
أُسرعُ إلى غيرِ ما لقاءٍ، في طرُقي الممهورةِ بوداعها
كنت أصعدُ خَشبةَ الصلبِ المحاطةَ بالكلاب، ألفُّ حبالَ البرق
حولَ ذراعيّ كأنهما مرساةٌ
بعدَ أنْ نزلَ الجميعُ وتواروا
وبعدَ أنْ تسلَّقوا الأشجارَ في الطوفانِ
كنتُ أنزلُ إلى الآبارِ بشمعةٍ
وغرفتُ خطايَ
بملعقةِ السيرِ ووحْي أسفاري
وأنتِ تلكَ القيودُ المولودةُ على الأيدي
يُثقلُ سيري وعْدُ تحطيمِها
كنتُ أرى الجيوشَ تسيرُ إلى أسوارك
لتختفي في نيرانك الراقصة
واخترتِ لي أعدائي واحداً واحداً
ليكونوا مراياي المنذورةَ للتحطيمِ، مراثيّ الرديئة في المعارك المقبلة،
بعد أن هُزموا كنت أتقدّمُ
واستيقظتُ بعدَ أن ناموا
استيقظتُ ذات صباحٍ خارجَ أيّامي
بأبوابها التي لبّتْ دعوةَ العواصفِ أثناءَ الليل
كلمات
العدد ٣٣٠٤ السبت ٢١ تشرين الأول ٢٠١٧
سيرة ناقصة (نصوص غير منشورة *)
الليل
لا ينفعُ أنْ نَتَحرّكَ في إبطِ قصيدةْ
فعراءُ الليلِ يداسُ ويغتصبُ
صهريجُ الحلمِ يقوَّضُ فوقَ الرأس
ونهدُ تمارا، جارتِنا، خشبُ
وعيونُ أبي في عقلي تنتحبُ:
هذا البحرُ وأسطورتُهُ
هذا الليلُ لهُ سبب!
أشباهُنا
مُتأخِّرينَ عن المطرْ
قفصُ الربيعِ وراءنا
وأصابعُ الأطفالِ في الشَجَرِ العميقْ
مُتأخِّرينَ عن الطريق
نجتازُ تحتَ الأرضِ أنفاقَ النجومْ
نجتازُ بين الأقنعةْ
أشباهَنا، رئة تغمغمُ بالنَّبيذِ ببؤسِ آدمَ
أشباهُنا نجتازُهُمْ أشباهُنا تحتَ الزخارفْ
نجتازُهُمْ متأخِّرينَ عَنِ الطريقْ
وإذا سمعْتُ فماً
إذا
نادتْ يدٌ وإذا تدلَّتْ جُمجمة
سأجرُّ من عينيّ قلبي
سوفَ أعميهِ لئلا أسمعَهُ
أشباهُنا نجتازُهم أشباهَنا
نجتازُهم ونمرُّ تحتَ الأقنعةْ
رئةً تغمغم بالنبيذِ
ببؤس آدمْ.
قالوا له أنت غريب
يدفعُ الزرقةَ في عُزلتِهِ كالعجلةْ
يرفسُ القيظَ، ويجتازُ الإطارْ
بضلوعٍ مقفلةْ
شربتْ خمرَ الموائدْ
معَ أمواتِ العصافيرِ وأمواتِ الحِكمْ
معَ أشباحِ القناديلِ وأشباحِ القياثرْ
وانثنى دون قراءةْ
يفتحُ التأريخَ كالكيسِ الأليفْ
ذائقاً خبزَ المناراتِ وأسماكَ الحرائقْ
ماسحاً أنفَ المهرِّجْ
مازجاً في نَعْلِ شاعرْ
ظلَّ ناثرْ
فاهماً أقدارَهُ والْمَطَرا
صافياً كالشجرةْ
قادراً مُرّاً كراياتِ البراءةْ
عالقاً بينَ عماراتِ الحرائقْ
قشَّر البرعمَ في قبوِ النهارْ
كاشفاً في ظلِّه اليومَ شراييناً عنيفةْ
طيرتْ عنهُ طيوفَهْ
فَطوى الألفةَ واجتازَ الغرابةْ
نحو أفواهِ المصابيحِ وأبوابِ القرابةْ
فاتحاً قبر السأمْ
الأسطورة
الأسطورةُ يرويها راوٍ ميتْ
عن موتى الصيف.
آخرُ مَنْ ماتَ وأوَّلُ صيَّادِينا
في اليأسِ، يموتْ.
الزمنُ المشطورُ يفرُّ بهِ ذئبٌ صائفْ.
مالحةً أغنيةُ الأفواه.
أيَّتُها الأشباحُ ويا عيني
لتكنْ بينكما أنهار.
الرسام
رسَّامُ عصافيرَ أنا
ألتهمُ الساعاتْ.
أحذيتي في البابِ
وقنينةُ «سينالكو»
عبّأها
رجلٌ أفرغَها
رجلٌ شبحيُّ القسماتْ.
رسَّامُ نساءٍ يخدعني
زمنٌ شحبتْ
يدهُ من تبغِ الشهواتْ
تخلقُني أنهارُ الموت ليجرفَني
نهرُ الكلماتْ.
شبحٌ ألقاني
في الحوضِ وحشرجَ للَّهِ
وماتْ.
رسَّامُ الموتِ أنا
ألتهمُ الساعاتْ.
العزلة
أقصى حُبّي
أنْ أقصمَ ظَهْرَ العزلةْ
لتظلَّ معي
نافذةُ العالمْ
عرباتُ النفطِ وشارعُهُ
درّاجاتْ.
من ماتَ مع الصيفْ
يحيا في أفواهِ الحيواناتْ.
خزّانُ الخوفِ طليقْ
تتبخّرُ منهُ أشباحٌ خضراءْ
رأسي في جزُرِ اليابانْ
يَسكنُهُ السردينْ
شهراً
ثم أُسافرُ للعزلةْ.
إنْ سقطتْ أضراسُ العزلةْ
ستظلُّ معي.
كلمات
العدد ٣٣٠٤ السبت ٢١ تشرين الأول ٢٠١٧
عاصمــــــة آدم (نصوص غير منشورة *)
سأروي لك حُلمَ البارحة
حلُمٌ طاردني
وانفتحتْ فَوقي مثلَ جناحٍ
شفتاهُ. ركعتْ فوقَ الماءِ
الغاباتُ
وارتجفتْ أيّامي وسجدْتُ
طويلاً تحتَ فضاءِ غنائي
الصامتِ، وانحدرتْ نحوي الأصواتُ
تائهةً، من كلِّ فمٍ كانَ يناديني
ويُتابعُ بين الأنهارِ رحيلي
مختبئاً في جُحرٍ
أو في جسدِ امرأةٍ
تخرجُ من بيتٍ
في أقصى الأرضِ، وتسعى
للقائي.
أجبِلُ ناراً ضيِّقةً
أجبِلُ ناراً ضيِّقةً
من نبضي لأُريحَ على الشُّعلةِ وجهي
لأسرَّ فوق دريئةِ نوحي سحباً من أوردتي
دمُها حلمُ الأجناس الباحثُ عنّي.
النارُ مفاتيحُ.
العالمُ نهرٌ يجري بين ضلوعي.
أنزلُ من سمْت الصرخةِ، أسكنُ تحتَ حياتي
فاجئتَ حياتك…
فاجأتَ حياتَكَ هذا اليومَ
وأنتَ الضيفُ الهابطُ نحو القرية
تهربُ بينَ أزقَّتها السريَّةِ
نحو الحتفِ، إلى ظلٍّ شمسيٍّ يتجلّى
بينَ البابِ الْمُغلقِ في بيتِ أبيك، ونارٍ
تسقطُ فوقَ جبينِكَ، شمسٌ تُدلّي مرساةً
عبر الوطنِ الأحدب.
أيّان ترابطُ أو تتنكّر
كالذئبِ على بطنِ الصحراءِ
كلونِ قميصٍ يُنشَلُ من بئرٍ،
تجدُ الشعلةَ. تجدُ الهولَ المتقدّسَ في
كلِّ وصولٍ
في كلِّ مغادرةٍ تجدُ الشعلةَ
كلُّ خطاك، سلالاتٍ تزحفُ أو تهجُمُ أو تحبو
تُجتَثُّ أباً عن جدّ
كلّ عيونك: في جبهاتِ المقتولينَ.
الأحياءِ المطمورين إلى الأعناقِ المحمولين
على فِقرَ الأنهار
الدمويّة،
يدفعُني في طينِ الحاناتِ إلى حَتْفي
أتوازنُ فوقَ متاهةِ عينكَ حيثُ يحومُ الجرحى
ولعابُ الذئبِ يسيلُ على ظهرِ القطعان
قطارُك يصدأ في رحلاتٍ ملغيّة.
منذُ الآنَ أراكَ
ورأسُكُ مرساةٌ تعرفُ عمقَ محيطي
بين يديكَ ونارِ رَحيلي
الأرضُ موائدُ مأدُبةٍ
فانوسُ الأجدادِ على رابيةِ الرعيانِ
وأنا راعٍ
تلطمُ ريحُكَ صدري
بتنفُّسكَ الألفيّ الورقات
تسحبُ شمساً عبر نُعاسِ النهر
وفي يدِكَ المثقوبةِ بصراخِ الأحياء
خطٌّ أتبعُهُ بعصايَ
على حَدَباتِ الصبحِ
وصولي
ميلانُ الشمسِ عن السمْت الأقصى
كلُّ يدٍ تصعدُ في رَجمٍ
من وهمِ الله، وتحتَ حواجبِ طفلٍ
يتقرّنُ بمنيِّ التكوينِ، تهيءُ سيرتَهُ
في المستقبلِ لخطتِك الناريّة هذه، إذ
تجدُ الشعلةَ، تجدُ الشعلةَ حينَ تكونُ الشعلةُ قد
أَفْنَتْكَ
وتحتَ عظامِ جناحيها
يأكلُ آباؤك جلدَ الأعداءِ
يتقدّمُ أبناؤكَ أمواجاً أمواجاً
من ثقبِ الإبرة، فوقَ جُسورِ الحَرْبة
وإذا سِرتَ
كما سِرْتَ، وفي وجهك ريحٌ
والريحُ معاكسةٌ، والحتفُ دنيءٌ والموتُ براءتُه
والأرض يمامةُ أجدادِك، تنتفضُ التربةُ وفي حمّى
تغلي أنوارٌ
تُستعصمُ كلُّ خليّةٍ
من دَمِكَ المؤرَقِ، شيءٌ إنسانيٌّ، طينيٌّ، ربّي
يجرفُ نفسَهُ نحوَ العالم، من سمْت الألمِ الأقصى
وإذا سِرتَ
وكانت ريحٌ تَنْشَبُ صرختَها
في رايةِ حتفِكَ، عنفٌ يجمحُ في
الطبقاتِ الناريّة تحتَ
حياتِكَ، تحتَ جُلودِ الشيطانِ أو الله
وتحتَ حياةٍ تتجلّى
في قلبِ إرادتها أنتَ، إذا سِرْتَ
وذا كلّه أنتَ…
والرايةُ أنتَ
الأرضُ تعويذةٌ تتراءى
الأرضُ تعويذةٌ تتراءى
لعينٌ من يختفِي في يَدَيْها
يُنيم ألغازَها بالقراءةْ
يستلْفتُ النارَ في حنينٍ
بِعُدّةِ الصمْتِ والبراءةْ
فمنْ تكونون أنتُمْ؟ وماذا
أخّرني لحظةً
وتتناءى
أربع قارّات مغطّاة بشَعْر امرأة
يداكِ تضيئانني
وتضيئان رملَ الطفولةِ
بينَ خرائبِ قلبي.
يداك جنائزُ تخفقُ في موجةِ الليل –
تخفي القصيدةَ والطفلَ في بيتِ دمعهْ
وليس سوى التوأمين محاطين باللحمِ والعاصفهْ
يداك! ومذّاكَ كنتُ أجيعُ يدَ الموتِ
مفتوحةً تسْكبُ الانتحارْ
وأمدَحُ عينيكِ. إنَّكِ مِلْحُ الشموس القديمهْ
وعيناكِ لي
غُرفتا انتظاري.
من الماءِ
يولَدُ حُبّي
من الزهرةِ الملحُ
من وحدتي رايةُ التعبِ
من فرَحي قدماكِ
واطفئي
نارَ البكاءِ التي خرجتْ
من سباتِ طيورِك
ومن بيتِ شهْوتنا المرتفعْ
ومن يتولّى رعايةَ لحمكِ بعدي؟
سأرعى يديكِ
وفياً كراية حربِ
وأرعى محارة حبّي
وفيّاً، وفيّاً
لأنَّكِ ضوءُ التجاعيدِ
فوقَ لساني الصديق لنهديكِ
ضوءُ المياه السعيدهْ
لأنَّكِ غُصْنٌ لأسنانِ يوسفْ.
رأسُ السماء ينحني
رأسُ السماءِ يَنحنِي
على الظلامِ، شَعْرُها الطَّافي على الحُقُولِ
يسحرُ لحمَ الأرضَ بِالْمَاضِي
ويرعى غابةَ العويلِ.
أنا الدماءُ في فم التمثالْ
أنا الفمُ النائمُ في الكحولِ
أُحرّكُ الجنّةَ في أوعيةِ الأفعالْ
أنا عويلٌ دائمٌ
يُسلمُ نهديه لنارِ الزمانِ الصريعةْ
خرائبُ القصْد تنامُ، في الندى والوقتْ
ونلتقي، أنا ومفتاحٌ –
على بوّابةِ الطبيعةْ
آنَ لنا أن نصمتَ…
آنَ لنَا أنْ نصمتَ يا زَمَني
أنْ نسحقَ هذا الظلَّ
ونجهلَ تلكَ التفَّاحة
يملؤها اليأسُ ويملؤها الخطأُ
ما عدتَ سوى رأسٍ خشبيٍّ
نَسَوِيّ الشعرْ
يتيّبسُ في الميناءِ رويداً
وسيغمركُ الصدأُ
الأيامْ
خسرتْ صوتي
ويدُ النسيانْ
تحفرُ لي غرفاً فارغةً
وأموتُ، فتمتلئُ
إلى ت
أنتِ التي تنتظرينَ جسدي
تنتظرينَ وجهي، سوفَ تذهبين
خاصرةً مليئةً بالنهر
بالأطفالِ والمآسي
تمتلكينَ النومَ في الحقول
والعواصفَ المخفاةَ في غرفةِ رغبتي
تسيرُ نحوك الجفونُ المسدلة
أفقاً صغيراً راسْماً موته
تسيرُ نحوكِ الجفونُ المسدلة
مدينةً حرّكها ماءُ البكاءْ
مدينةً تحطمتْ أطرافُها
قربَ مياهِ الحبِّ. لمْ تصلْ. ولنْ.
* مقتطفات من «سيرة ناقصة» (قصائد أولى/ شعر)، و«عاصمة آدم» (شعر)، و«رسالة إلى صديقة في مدينة محاصرة» (شعر) التي تصدر قريباً عن «منشورات الجمل»
كلمات
العدد ٣٣٠٤ السبت ٢١ تشرين الأول ٢٠١٧
سركون بولص مترجماً يانيس ريتسوس
مختارات شعرية *
توزيعُ الحصص
كان الجنودُ مُتعبينَ، يجلسونَ على الحجارة.
كانت المرأةُ تحدِّقُ من النافذة، الظلامُ يشتدُّ
كنا نحلمُ – قالت – بالنصرِ، أو على الأقلِّ بالهزيمة
بهزيمةٍ كاملةٍ ليسَ حتَّى ذلك. لا شيء. هو
الذي اعتادَ أنْ يحشو عروقَهُ بزُجاجٍ مكسور
هناكَ عندَ المنضدةِ، يداهُ ملفوفَتانِ بالضمادِ، ها هو ذا،
يوزِّعُ حِصصَ الخبزِ ويتدبَّرُ أمرَهُ بحيثُ تكونُ حصَّتُه
هي الأصغر. فيما بعد سيلفُّ السكينَ فيها حدّ الضمادين
بحرصٍ فائقٍ ومقدَّس، بانتظارِ أنْ نسألَهُ كما يبدو
بالضبطِ عن هذا، دونَ أنْ يعرفَ كيفَ يُجيب.
شبه مربّع
لا جِدَال لَديه، لكنَّهُ دَائماً يسيرُ عَلَى نَفْس الوَضْعِ،
رَسَمَ مربَّعاً على الأرضِ بالطَّباشير؛ خَـطَا فيه، –
ذلكَ هو البابُ – رسم؛ – النافذة هنا؛ المرأةُ في الركن؛
نافذة أخرى؛ النورُ يدخل؛ُ كريستالُ الثريا يُشعشعُ
كنَّا نُراقبُ؛ – لم تكنْ هُناكَ امرأةٌ (وكنَّا نعرفُ: ستكون عاريةً)
ولا ثّريا. تَرَكَ الطباشيرَ على المنضدة،
نَظَرَ إلى الأرضِ ودَفَنَ يديهِ في جيوبِهِ، مُنْزَعِجاً بوضوح
منْ أنَّه لم يُقْنعنا، وفوقَ كلِّ شيءٍ مُنزعجاً
من ذلك الغبارِ الطبشوريِّ الجاف.
أَدْرَكْنا أنه يمسحُ أصابعَهُ سِرَّاً في جيبِهِ
رَغمَ أنه يتظاهرُ بأنَّ لَهُ جُمودَ التَّماثيل.
سيرك
سيركُ الليلِ، الأنوارُ، الموسيقى؛
السّياراتُ المتألقةُ على طولِ الشارع.
عندما تنطفئُ الأنوارُ في المحلَّة،
عندما تسقطُ آخرُ نغمةٍ، مثلَ ورقةٍ يابسة،
تبدو واجهةُ السيركِ كأنَّها
طَقْمٌ ضخمٌ من الأسنانِ الصناعيَّةِ. آنذاك
تنامُ الآلاتُ النحاسيةُ في حقائبِها،
تسمعُ الحيواناتُ وهي تهدرُ عبرَ المدينة،
يُركِّزُ النمرُ في قَفَصهِ عَلَى ظلّة،
يخلعُ مُروِّضُ الحيوانات بدلتَهُ ويأخذُ سِيجارةً.
وبينَ حينٍ وآخر تستنيرُ المحلَّة
عندما تتوهَّجُ عُيونُ الأسودِ خلفَ القُضْبان.
فجأة
ليلٌ ساكنٌ، ساكنٌ. وأنتَ
كَفَفْتَ عن الانتظار. كانَ سلاماً تقريباً
وفجأةً على وجهِكَ؛ بأيِّ وضوحِ لَمْسة
الغائب، أنه سيأتي. ثم
صوتُ مصاريعِ النوافذِ تلتطمُ لذاتها
الريحُ ارتفعَتْ عاليةً وعلى بعدٍ قليل،
غارقاً في هديرِهِ، كانَ البحر.
أَرَق
هذا التكرارُ بلا هوادةٍ لنفسِ النصِّ – الغامضِ-
في أعلى الصفحةِ الثّقبُ الصدئ الَّذي تخلّفَ من دبّوس
في الأسفلِ قطرتانِ من الدمِ الأسود. الإثنان – قال –
الإثنان، المزدوجُ، الصوتُ المزدوجُ، المعنى المزدوجُ. لقد
تعبتُ من الأبواب
مغلقةً ومفتوحةً خلفها الأمواتُ أو النساءُ بدأ ليفتريس
بِالذهابِ مُسرعاً قبلَ هطولِ المطرِ.
وعادَ فِيما بعدُ بالبطانيَّةِ الرطبةِ وقبعةِ الذي أعدموه.
صباح
فَتَحَتْ مَصاريعَ النافذة. علَّقَت الشراشفَ مِنْ إفريزها. رَأَت النَّهار.
نَظَرَ إليها عُصفورٌ باستقامةٍ في عينيها «أنا وحيدة»، همست.
«أنا حيّة». دخلت الغرفة. المرأةُ أيضاً نافذة
إذا قفزت منها، سأسقطُ بينَ ذراعيّ.
غير مستولى عليه
جاءوا، كانوا ينتظرونَهُ إلى الخرائبِ، إلى قطعِ الأرضِ المجاورةِ،
بدا أنَّهم يقيسونَ شيئاً بعيونهم، تذوَّقُوا
الهواءَ والنُّورَ عَلَى أَلسنَتِهمْ. وَجَدوهُ رَائِعاً
أكيدٌ إنهمْ يريدونَ أنْ يَأخذوا مِنَّا شيئاً زررنا قُمصانَنا،
رغمَ أنَّ الجوَّ حارُ،
وتطلَّعنا إلى أحذيتنا. ثمَّ أشارَ واحدُ مِنَّا
بإصبعِهِ إلى شيءٍ بعيد. استدارَ الآخرون
وإذا كانوا مُشِيحينَ عَنْهُ هكذا، انحنى خِفيةً
حَفَنَ قبضةً من التراب، خبّأها في جِيبهِ
وَابتَعدَ بِلا مُبَالاةٍ. عِندما استدارَ الغُرباءُ ثانيةً
رَأوا أمامَ أقدامِهم حُفرةً عميقةً،
تحرَّكوا، نَظَروا إلى ساعاتِهم وَغَادَروا.
في الحُفْرَة: سَيفٌ، أصيصٌ، عَظْمَةٌ بيضاء.
حجارة
تأتي الأيام تمضي، دون صعوبات، لا مفاجآت.
الحجارةُ تُنقعُ في الضياء والذاكرة.
أحدُهم يستعملُ الحجرَ مثلَ مخدَّةٍ،
آخرُ يضعُ حَجَراً على ملابِسهِ قبلَ السَّباحَة
لِيَمنَعَها من الانجرافِ معَ الرِّيح. آخرُ
يَستعمِلُ الحَجَر مِثْلَ مَقعدٍ
أو ليؤشِّرَ شيئاً في حَقلِه، في الْمَقبرة،
في الجِدَارِ، في الغابة.
فِيمَا بعدُ، بَعدَ الغُروبِ، عِندما تعودُ إلى البيت،
أيَّةُ حَصاة منَ السَّاحِلِ تَضعُها عَلى مَائِدَتكَ
هِي تمثالٌ صَغير – ناكي صغيرة أو كلب أرتميس،
وهذا، الذي وقف عليه شابٌ بقدمينِ بَلِيلَتَينِ في الظَّهِيرة،
هُو «بَاتروكليس» بِرموشٍ مُسدَلةٍ، مليئةٍ بالظل.
نشرة أخبار
غُيومٌ مسائيَّةٌ، ساعةُ الكاتدرائيَّةِ مُضاءةٌ
أشجارٌ شعثاءُ، بردٌ، قمامةٌ. ما زالَ بالإمكانِ أنْ نَسمَعَ
صوتَ الطَّلقاتِ في التِّلالِ. بَعدَ قَليلٍ
وَصَلَ جورج على درَّاجة. أَلْقَى قِيْثارةً
مَكسورةَ الأوتارِ. «لَقَدْ حَملَنَا الْمَوتى» قَالَ
«إِلى الأهراء؟؟ لا أناشيد أو رايات.
خُذوا هذه القائمةَ على الأقلّ، لنتذكَّرْ غداً
أسماءَهم، أعمارَهُم، أخذت حتَّى قِياساتِ أقدامِهمْ.
قَاطعو الرَّخامِ الثلاثةُ قُتِلوا أيضاً. كلَّ مَا بَقيَ
هُو ذلكَ الْمَلاكُ الرخاميُّ الَّذي لا رأسَ له.
عليكُمْ أنْ تَضَعوا عليهِ الرَّأس الذي تُريدون»
هَذَا هُو ما قالَهُ، ثمَّ ذَهَبَ. لَمْ يأخُذ القِيْثارة.
ظهيرة
تعّريا، قَفَزا في البحر. الساعةُ الثالثةُ ظهراً؛
الماءُ الباردُ لم يمنعْهُما من التلامُس. كانَ الشاطئُ يتألَّقُ
عَلى مَدَى البَصَر،
مَيْتَاً، مُقْفِراً، مَهجوراً. البيوتُ النائيةُ مُغلقة.
العالم اللامع تبخَّرَ، عَربةٌ يجرُّها حِصانٌ
كانتْ تختفي عَن النَّظر في نهايةِ الشَّارع.
عَلَى سَقفِ دَائرةِ البَريد
تَدلّى علَمٌ الى نِصفِ السَّارية. مَنِ الَّذِي مات؟
ظلالُ حَرَكَة
«سأغادرُ» – قَالَتْ – «سأرحلُ
بَعيداً. لَنْ أطيقَ الاستمرارَ؛ هذهِ الريح…»
رمى أوراقَ اللعبِ من يَديهِ. سُمعتْ خطواتٌ على الدرج.
انفتحَ البابُ. سقطتْ على الارضية شقفةُ نُور.
التقطت المرأةُ أوراقَ اللعبِ من الأرضِ وناولَتْها لهُ ثانيةً
بإشارةِ مَنْ يُقفِلَ راجعاً بعدَ سنين.
ثُمَّ ذهبتْ لتغّير ماءَ الأزهار.
لكنَّ مَا قالَتْهُ بقي يئزُّ في الغرفة
كذبابةٍ غارقةٍ في آزيزها في بدايةِ الشتاء.
* مختارات من شعر ريتسوس بترجمة سركون، لم تنشر من قبل، على أن تصدر قريباً عن «منشورات الجمل»
كلمات
العدد ٣٣٠٤ السبت ٢١ تشرين الأول ٢٠١٧
سركون بولص: عقد على الغياب/ صبحي حديدي
في فصلية «شعر»، العدد 29 ــ 30، السنة الثامنة، نيسان (أبريل) 1964؛ كان الشاعر العراقي الراحل سركون بولص (1944 ــ 2007)، الذي مرّت يوم أمس الذكرى العاشرة لرحيله، قد نشر أولى قصائده في الدورية التي مثّلت تيارات قصيدة النثر العربية. كان بولص قد وصل إلى بيروت، قادماً من كركوك، عبر طرق ملتوية ودونما أوراق شخصية أو وثائق دخول شرعية؛ لكنّ احتفاء مجموعة «شعر» بهذا الشاعر العراقي الشاب كان مشهوداً، في المقابل، فأخذ يرتاد مجالسهم، وكتب مقالات في صحيفة «النهار»؛ قبل أن يغادر إلى الولايات المتحدة، ويقيم في سان فرنسيسكو.
تلك القصائد الستّ، الأولى، شغلت الصفحات 9 ــ 24 من المجلة، والقصيدة السادسة كانت طويلة، بعنوان «قصائد للصيف»، وتألفت من سبع قصائد فرعية. المفاجئ ــ ضمن قراءة راهنة، ارتجاعية وإجمالية تُدرج المآلات الحداثية التي ستطبع مسيرة بولص ــ أنّ النصوص لم تكن قصائد نثر، بل اعتمدت شكل «الشعر الحرّ» الموزون، حسب اصطلاح تلك الأيام، بتفاعيل متغايرة بين قصيدة وأخرى، واستخدام مكثف للقافية أيضاً. على سبيل المثال، يسير مطلع القصيدة الأولى، «إلى المسيح، سطور في الرمال»، هكذا: «آخذُ منه يديه وأعطيه صمت الحياة الطويله/ أقول له أيها الشبح الضائعُ/ أقول له أيها الضائعُ/ أجيء إليك بثوب المنافي، أجيء وأفتح كفّي الهزيله/ وأعطيك صمت الحياة الطويله».
صحيح أنّ «شعر»، منذ أعدادها الأولى وحتى توقيفها، واظبت على نشر قصيدة التفعيلة (لأمثال بدر شاكر السياب، نازك الملائكة، نزار قباني، فدوى طوقان، بلند الحيدري، سلمى الخضراء الجيوسي، سعدي يوسف، أدونيس…)؛ كما نشرت قصائد عمودية (بدوي الجبل، بين أبرز الأمثلة)؛ إلى جانب قصيدة النثر (يوسف الخال، أنسي الحاج، ألبير أديب، ثريا ملحس، صلاح ستيتية، أدونيس…). ولكنّ قبول قصيدة تفعيلة من شاعر شاب لا يتجاوز العشرين، مغمور تماماً في ذلك الطور من حياته الشعرية، كان تفصيلاً له دلالاته الخاصة؛ بصدد سياسة «شعر» تجاه تعايش الأشكال الشعرية المختلفة أوّلاً، ولكن أيضاً بصدد حسن وفادة الأصوات الشعرية الشابة والوليدة، إذْ يُفهم من تبيان المكان أسفل القصيدة (كركوك ــ العراق) أنها قد تكون وصلت إلى المجلة بالبريد.
بيد أنّ الدلالة الأهمّ، حول الملامح الأبكر في شخصية بولص الشاعر الشاب، كانت في يقيني مسعاه الحثيث لردم، أو بالأحرى هدم، الهوّة الكاذبة بين «الشعر الحرّ» و«قصيدة النثر»، أي بين الشعر وأشباهه في عبارة أخرى. ذاك، إذن، دأب عتيق وعنيد قاد بولص إلى البحث عن عشرات الحلول الفنية الكفيلة باستيلاد عمارات إيقاعية رفيعة، متغايرة على نحو مَرِن، وعن طريق استغلال عشرات الديناميات الناجمة عن تطويع العناصر الطباعية والصرفية والصوتية والشعورية. وهذه، وسواها، خيارات وتقنيات ومهارات ينبغي أن يجترحها الشاعر ــ عن سابق قصد وتصميم، كما أرى ــ إذا لم تكن القصيدة ذاتها هي التي تستحثّ عليها، في المستوى التمهيدي من انكباب الشاعر على كتابة نص شعري جديد.
ولستُ أرتاب في أنّ بولص أدرك جيداً ــ ومبكراً، قبل أن يتسلّح بعدّة نظرية عميقة تسعف خياراته الكتابية ــ أنّ القصيدة الجيدة هي تلك التي تستحثّ الشعر وحده، وليس أيّ جنس أدبي سواه، بصرف النظر تماماً عمّا إذا كانت تعتمد أيّ وزن أو تتحرّر من أيّ وزن. ولهذا فإن تلك القصيدة الجيّدة، إياها، لا يمكن أن تكون متحرّرة من نظام إيقاعي ما، أو من ذلك النظام الإيقاعي المحدد الذي اختطه الشاعر هنا في هذه القصيدة، وقد يختطّ سواه في قصائد جيدة أخرى. ما من شعر عظيم دونما عمارة إيقاعية رفيعة تحمل قسطاً وافراً من أعباء الإعراب عن عظمة النصّ الشعري، وما من شاعر جيّد يعطي نفسه حقّ نبذ هذه الأعراف الإيقاعية أو تلك؛ لا لشيء إلا لكي يتحرر من واجب اجتراح واقتراح عماراته الإيقاعية الخاصة، ربما لكي ينبذ كلّ إيقاع!
وبعد 37 سنة أعقبت قصائد «شعر»، نشر بولص في فصلية «الكرمل»، العدد 69، تشرين الأول (أكتوبر) 2001، مجموعة قصائد جديدة، تختلط فيها التفعيلة بقصيدة النثر. كتب، مثلاً: «شمسٌ على هذا/ المشمّع فوق مائدتي:/ نهارٌ لا يضاهيه نهارْ. كوجه الله/ تبقى تحت عينيّ انعكاستُها. وتخرقني/ إلى قاعي كرمحٍ/ إنها شمسي/ وملأى غرفتي، بيتي، كقارب رَعْ/ تسافر في المتاهة/ بالهدايا». كما كتب، في قصيدة نثر: «ربما هي الريح يا سيدي لي دونغ/ جاءت لتسرد علينا مرة أخرى، قصة الطوفان/ قبيلتي تعرفها جيداً، جيلاً بعد جيل/ تعرف مَنْ سيّدُها ومن راويها. تعرف/ أنّ أبطالها أطيافُ طواحين/ حاربها دون كيخوته بضراوة ذات يوم/ اليوم تكفي سعلة طفل خلف جدران الحصار لتنهار/ قبيلتي: هذه الصفحة. هذا القلم. هذا الجدار».
وهكذا فإنّ شعر بولص يعلّمنا نفي الحاجة إلى السؤال، في الشعر العظيم، عن الوزن واللاوزن، الإيقاع المسموع أو الإيقاع الداخلي… وبمثل شعره نفلح في التفريق بين قراءة للشعر تبدأ من معطيات القصيدة ذاتها، وقراءة أخرى تبدأ مما ليس في القصيدة؛ أي، ببساطة، بين الشعر وشبيهه!
القدس العربي
عودة سركون بولص/ عبده وازن
يحضر سركون بولص عاماً تلو آخر بعد رحيله. وكلّما مرت ذكرى هذا الرحيل تزداد الحاجة إلى قراءته وإعادة قراءته واكتشاف الأثر الكبير الذي تركه في الشعر العربي الجديد وفي الأجيال المتعاقبة. وفي الذكرى العاشرة لرحيله، ندرك أننا لم نقرأ ما يكفي، هذا الشاعر «الأشوري التائه» كما سماه أنسي الحاج، مع أن بصماته منتشرة هنا وهناك، في قصائد كتبها بعض مجايليه وبعض الذين أتوا من بعدهم. هل كان يعلم سركون بولص الذي تأخر كثيراً في نشر أعماله في كتب، أن شعريته ستتجلى بعد غيابه متخطية جدار الزمن؟
نقرأ اليوم سركون بشغف ومتعة. قصائده تغدو كأنها كتبت للحين، لتخاطبنا وتدهشنا وتصدمنا بجمالياتها الفريدة وكثافاتها المختزنة، وفي عمقها الوجودي وانفتاحها على إيقاع الحياة التي لا تخوم لها. كان سركون سباقاً في ترسيخ الحداثة الثالثة التي كان واحداً من روادها القلائل، وفي توسيع رقعة الحداثة بعد ولادتين تاريخيتين، الأولى تمت مع بدر شاكر السياب والثانية مع مجلة «شعر» وشعرائها. بل يمكن القول إن سركون هو الذي فتح أفق حداثة أخرى، لم تكد تظهر إلا قليلاً مع شاعر «هامشي» آخر هو توفيق صايغ، مرتكزاً إلى ثقافته العميقة في الشعر العالمي وبخاصة الشعر الأميركي والانغلوساكسوني الجديد، الذي نادراً ما التفت إليه حينذاك الشعراء المقبلون من ضفاف اللغة الإنكليزية. ولئن كان الشعر الفرنسي، وتحديدا قصيدة النثر الفرنسية، احد المراجع الرئيسة التي استندت اليها مجلة «شعر» توازيا مع مرجعية يوسف الخال الانغلوساكسونية، فما قام به سركون مقتفيا خطى توفيق الصايغ، كان حاسما، في كونه أول من أشرع أبواب الحداثة الأميركية عربياً، ناقلاً مختارات من شعراء جيل «البيت» الأميركي الذي أحدث ثورة جذرية في الشعر العالمي، مع أسماء مثل ألن غينسبرغ وجاك كيرواك وفيرلنغتي…
إلا أن سركون بولص لم ينجرف وراء «موضة» هذا الجيل الأميركي كما حصل مثلاً مع شعراء أوروبيين وفرنسيين خصوصاً وبعضهم ما زال يصرّ على انتمائه إلى هذه «التجربة»، بل ظل سليل جذوره الآشورية والسريانية والعربية، ونجح في الجمع بين الضفتين، وفي صقل شعريته على طريقة الشعراء الكبار الذين ينتمون في آن واحد إلى ذاكرتهم وذاكرة العالم. ومثلما كان سركون صاحب ثقافة شاملة، شرقية وغربية، شعرية وفلسفية، كان أيضاً صاحب وعي حاد باللغة العربية واسرارها، وكان قارئاً دؤوباً للتراث والنهضة والمدارس التي انبثقت عنها. وما يسميه هو «تغريباً» في اللغة الشعرية لم يكن سوى مواجهة للأنساق التقليدية الثابتة وتحرير للغة ذاتها من إرثها الإنشائي وجعلها ابنة الحياة. وفي هذا القبيل، لم يسع سركون إلى صياغة الحداثة الغربية عربياً ولا إلى إعادة صياغتها كما فعل بعض الشعراء. لكنه لم ينكر الأثر الذي كان على الحداثة الغربية أن تتركه في شعره وفق المفهوم العالمي لـ «الاثر». فالشعر هو «خطاب» الشاعر بصفته إنساناً يحيا بحواسه وروحه وعقله. لا ايديولوجيا تسبق الشعر ولا قضية للقصيدة سوى نفسها. والثقافة لا بد ان تصطدم بالفطرة التي هو موقف من العالم. ولعل انكبابه الرهيب على الترجمة كان بمثابة تمرين يومي على الكتابة وعلى التحدي الذي يفرضه فعل المقابلة بين لغة واخرى وثقافة واخرى. ويُهيّأ لي في احيان ان سركون كان يترجم لنفسه وكأنه يكتب ويبدع، أكثر مما كان يترجم للآخرين. والكثير مما ترجم ظل مخطوطا وشبه مجهول طوال أعوام، مثله مثل شعره الأول، ولم يكن يقيض له أن يبصر النور لولا عناية الشاعر خالد المعالي صاحب دار الجمل، الذي يعمل على جمع آثار سركون الكاملة.
ظل سركون بولص ابن مدرسة كركوك التي صاغ معالمها الاولى مع رفاق له مثل مؤيد الرواي وجان دمو وصلاح فائق … وانطلاقاً من كركوك راح سركون يرسم خريطته الجغرافية مكانياً وزمنياً وشعرياً، هو الذي اختار الترحال على طريقة الشعراء البوهيميين: بغداد، بيروت، أميركا، أثينا… أما الأجل فوافاه في ألمانيا. لم يكن سركون يعاني مأساة المنفى، بل كان سعيداً بعض السعادة في منفاه الاختياري. المنفى الذي يرادف لديه «مدينة اين» التي يستحيل الوصول إليها أو لا يتم الوصول إليها إلا وهماً. وخلال المنفى استطاع سركون أن يجعل حال الاقتلاع المكاني حالاً من التجذر في الشعر واللغة. صارت القصيدة تصوغ العالم في اللحظة التي يصوغها الشاعر فيها. بل إن الشاعر المقتلع بات يجلب العالم إلى قصيدته، بات أيضاً يشعرن الحياة. خلق سركون بولص قصيدته بل شعريته وتفرد بهما: إيقاع «منشرح»، لغة بين الصفاء والوحشية، نفَس غير مألوف، تجريب غير مجرد، بصريات وتفاصيل مرئية، سرد متخفف من سرديته، أبعاد ميتافيزيقية، عين داخلية أو رائية، مشهدية حاضرة بماهيتها، حواس وانتشاء….
عام 1983 التقيت سركون بولص في بيروت، كان في التاسعة والثلاثين ولم يكن أصدر ديوانه الأول. كان رائعاً وساحراً، بعفويته وبداهته ونظرته النقدية وثقافته الهائلة. كانت عودته الأولى إلى بيروت بعدما غادر منها إلى أميركا، عالمه الجديد. ولم يمض عامان حتى صدر ديوانه الأول «الوصول إلى مدينة أين». وتم الاحتفال به وتم رصد الآثار التي تركها شعره في الشعراء الذين نهلوا منه سراً أو علانية.
الحياة
حامل فانوسه في ليل الذئاب/ خليل صويلح
بصرف النظر عن فرادة تجربة سركون بولص (1944- 22/10/2007) الشعرية والحياتية، إلا أننا نحب الشعراء الموتى، أولئك الذين غادروا باكراً، وتركوا لنا قصائدهم مثل تعاويذ تحمي أرواحنا من العطب، حين نكون «على حافة المتاهة». نفتّش عن «أسمال» جان دمو بوصفها كنزاً شعرياً، الشاعر الصعلوك الذي مات في مصحّة، في مدينة سيدني الاسترالية، ونستعيد قصائد الشاعر السوري رياض الصالح الحسين الذي مات باكراً، بقصور كلوي، كما لو أنه اكتشاف متأخر لحلم مجهض. وقبله فجعنا بالموت التراجيدي للسيّاب، وكذلك الشاعرة دعد حدّاد التي ماتت بعد رحلة تشرّد، في مستودع مطبعة، والرحيل المباغت للشاعر بسّام حجّار. كأن الموت وحده هو الذي يمنحنا شرعية الاحتفاء والافتنان بنصوص الراحلين. كل هؤلاء أو معظمهم ظلّت تجاربهم في إطار التأريخ النقدي، من دون أن تخترق أسوار الحشود، وربما تكمن أهميتها هنا، في تلك المنطقة الاستثنائية للشعر الصافي، لا الانزلاق إلى ما هو خارجها.
بخصوص شعرية سركون بولص، فإنّها منذ بداياته ظلّت تعمل في حيّزها الخاص، تحفر بمعولٍ حاد تربة المعادن النفيسة غير المكتشفة، حتى داخل خيمة «جماعة كركوك» التي يُنسب إليها نقدياً، فهو مثال لليتم اللغوي من جهة، ورحابة امتصاص موروثات شعرية مرتحلة من فضاء جمالي إلى آخر، بنوع من «العراك مع اللغة»، من جهةٍ ثانية. فهذا العراقي/ الآشوري/ الكلداني/ السرياني، أسير مذبحة لغوية قادته إلى قطيعة جذرية مع ما هو مكرّر وإيقاعي، في بناء معمار قصيدته التي غرفت من آبار كثيرة، قبل أن تسحب حبل دلوها بمائها الخاص. نكهة لاذعة، مزيج من السرد البصري المتواتر، والعلاقات الصوتية في رسم إيقاع العزلة والإقصاء، إلى تظهير المعجم من شوائبه وغنائيته البرّانية، نحو نصّ هجين، بطبقات متعددة ومسبوكة بإحكام، هي، في نهاية المطاف، حصيلة المنفى التاريخي المتواصل، من الحبانية، إلى كركوك، إلى بغداد، إلى بيروت، وصولاً إلى سان فرانسيسكو، إلى أن انطفأ فجأة في برلين «لا مكان يحلم بوصولي، والحياةُ طريدتي الخائفة». رحلة شاقة لشاعر، أدار ظهره باكراً لجغرافيا ملغومة ونابذة، منذ أن عبر صحراء العراق نحو بيروت الستينيات، مشياً على الأقدام، بحذاء ممزّق، وجيوب فارغة، وقلم، مقتفياً أثر قصائده التي سبقته إلى هناك باحتفاء صريح.
نظنّ أن قصيدته حفرت طريقها، عند هذا التوقيت تماماً، بهذه المشهدية المبهرة، فهذا المسلك الطائش بحد ذاته ينطوي على حالة شعرية تعمل في الظل. احتضان مجلة «شعر»، ويوسف الخال لشعره، لم يضعه في قائمة «جماعة شعر» في أدبيات الحداثة، إنما ظل مفرداً ونافراً وأعزل، مثل قصائده المتناثرة، ومثل حياته المتصدّعة. ذلك أن ديوانه الأول «الوصول إلى مدينة أين» تأخر كثيراً، حتى خرج إلى النور، في منتصف ثمانينيات القرن المنصرم، بقوة دفع الأصدقاء، فكان اكتشافاً مذهلاً للشعراء قبل أن يكون ذخيرة طازجة في مرمى النقّاد، مزاحماً بإيقاعاته المباغتة والمفارقة والصلبة، قصيدة النثر المستقرّة التي اكتسحت المشهد الشعري العربي بغزارة. مجازفة بالطاقة القصوى، في خلخلة ما هو سائد حينذاك، لجهة التماثل بين التجارب، نحو لغة مغايرة تعتني بما هو متوتر وصارم ومهمل، من دون ادعاء أو زخرفة، أو بيان، بحراثة أرض بلاغية لطالما كانت عزلاء، وخارج متن الأغراض الشعرية، بما يُشبه انقلاباً على السياق، وقطيعة مع سكونية الجموع «أنا قيلولة ذاتي، أنا ظهيرة أيامي» يقول. ههنا، أنا حائرة، قلقة، تائهة، مستلبة، تعمل على تقويض المركزية الشعرية لإنشاء تعبير الفرد في منفاه الأبدي، بتعاضد الأرضي والميثولوجي في سبيكة واحدة. سننتبه إلى تكرار مفردة «الباب» في نصوصه، وتالياً، إلحاحه على الهجرة من بابٍ إلى آخر «لا القفل في الباب، لا الباب في البيت، ولا البيت هناك»، في رحلة قدريّة ألقت به في «مركب نوح»، من دون أن يغادر أرضه الأولى وطقوسها ورائحتها.
عبارة مثل «هناك باخرة ضائعة ترعى بين أحشائي»، تختزل تمزّقاته الحياتية، ومسالكه الشعرية المتشعبة التي تختزن أصداء المتنبي وأبي تمام والسيّاب وألن غيسنبرغ في آنٍ واحد، كمحصلة لثراء تجربته وطليعيته، وقدرته على رسم خرائط جديدة لمكابداته، مسرفاً في صناعة الدهشة، يصفعنا بعناصر شعرية بسيطة وعميقة وذاتية «إن القصيدة طقس روحي، وجودي، يجمع في ذاته، كلما مررت به في حياتي، نقطة رحيل. ففي كل قصيد تشوّق الى محطة جديدة، واحدة تقود الى الأخرى، سلسلة من القصائد هي في النهاية أنت» (سافرت ملاحقاً خيالاتي). هكذا نقع على سيرته المتشظية، كتاباً وراء الآخر، بزخم أكبر، مشيّعاً «جنازة اللغة» خارج نصوصه، حاملاً فانوسه في ليل الذئاب، وفقاً لعنوان أحد كتبه. فانوس تضيئه ارتطامات عالمه الجوّاني، في المقام الأول، هذا العالم الذي لا يكتمل إلا ليلاً، كملاذٍ لفحص ما يعتمل في روحه خارج فكرة القطيع، فهو «نسرُ يعتلي الهضبة، وفريستي ترتاح تحت مخالبي». الشعر إذاً، فريسته التي يصطادها بمخالب اللغة الشرسة والحادة مثل مبضع، بنظرة ثاقبة من الأعلى، نظرة شاقولية تزعزع طمأنينة ما هو أفقي وعادي وسكوني، وتحيله إلى حلم، أو إلى وهم، أو إلى لذة افتراس.
هذا الحضور الناصع والمكتنز والمرهف، لا يعني أن دمغة سركون بولص تجاوزت حدود الذائقة الاستثنائية، إنما ظلّت تعمل في منطقتها ومنطقها الخاصين، عدا نزهات خاطفة في الفضاء الافتراضي النوعي. كنت ذكرت اسمه عرضاً، لشاعرة من جيل الألفية الثالثة، فأجابت متسائلة: سركون بولص، هل هو أحد القديسين القدامى؟ قلت: أجل إنه قديس.
جائزة باسمه
أعلنت «منشورات الجمل» عن إطلاق «جائزة سركون بولص» السنوية (3000 دولار أميركي) التي تمنح لشاعر أو مترجم، بهدف تكريم الأعمال الشعرية المهمة، كما دعم الجهود المميزة في ترجمة الشعر إلى العربية من اللغات الأخرى. الجائزة سنوية تمنح إلى عمل شعري منشور، أو إلى مجمل أعمال شاعر يكتب باللغة العربية، أو إلى ترجمة شعرية من لغةٍ أولى إلى العربية. وستكون دورتها الأولى عام 2018. وتتكون لجنة أعمال الجائزة من لجنة استشارية ولجنة تحكيم. تتولى لجنة تحكيم مكوّنة من مختصين اختيار الأسماء والأعمال المرشحة، والفائزين فيما بعد، ويجب أن تكون الأعمال منشورة في كتاب ورقي. الترشيحات الأولية إلى الجائزة لا يجري تقديمها من الشاعر أو المترجم مباشرة ولا عن طريق مؤسسات أو دور نشر، ذلك أنّ اللجنة الاستشارية ولجنة التحكيم هما من يتولى اختيار الأسماء المرشحة وكذلك اختيار الأعمال الفائزة.
يتم الإعلان سنوياً عن الفائز/ة بالجائزة في 22 تشرين الأول (أكتوبر) من كل عام، في ذكرى رحيل سركون بولص. ويقام احتفال خاص لتسليم الجائزة للفائز ضمن «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب». تتولى «منشورات الجمل» كل الترتيبات المتعلقة بالجائزة، من التغطية الإعلامية لاحتفال تسليم الجائزة سواء بتمويلها أو بمساهمة آخرين.
إصدارات جديدة
في ذكراه العاشرة أيضاً، ستصدر «منشورات الجمل» مجموعات شعرية وأعمالاً بعضها غير منشور لسركون بولص هي: «سيرة ناقصة» (قصائد أولى/ شعر)، «عاصمة آدم» (شعر)، «رسالة إلى صديقة في مدينة محاصرة» (شعر)، «الهاجس الأقوى، عن الشعر والحياة» (مقالات موضوعة ومترجمة)، «بول بولز وآخرون: قصص عالمية مختارة» (ترجمة)، «يانيس ريتسوس: مختارات شعرية» (ترجمة). على أن تصدر هذه الأعمال ضمن «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» الذي يقام في كانون الأول (ديسمبر) المقبل. وفي صيف 2018، ستصدر الدار «سركون بولص: رسائل متبادلة». علماً أنّنا ننشر في هذا الملف مقتطفات من هذه الأعمال (شعراً ونصوصاً وترجمةً مع صور زوّدتنا بها مشكورةً «منشورات الجمل»)
كلمات
العدد ٣٣٠٤ السبت ٢١ تشرين الأول ٢٠١٧
هدية سركون/ عباس بيضون
عشر سنوات مرّت على رحيل سركون بولص. أتذّكر العام الأخير من حياة سركون. كنّا معا مدعوّين إلى مهرجان الشعر المتوسطي في لوديف جنوبي فرنسا. لا أعرف لماذا اختاروا لسركون المريض مبيتاً في فندق بعيد عن المدينة. كان على سركون أن يعود باكراً في باص مخصّص لهذه الغاية وإلّا استحال عليه أن يجد مرقداً له. لم يكن سركون من الذين ينضبطون بتعليمات كهذه، فكان يتّأخر عن الباص فيتدبّر لمبيته مكاناً في أحد البيوت التي كنّا ننزل فيها ضيوفاً على لوديف.
وحين عزّ عليه في إحدى الليالي أن يجد مرقداً، بات ليلته في العراء على مقعد حجريّ. كان سركون دارياً بقرب نهايته. قالها لي في نهاية سهرة. علمت بعد أشهر من زاهر الغافري بأن سركون يحتضر في ألمانيا. كتبت في «السفير»، التي لم تمرّ بعد الذكرى الأولى لغيابها، مقالة بعنوان «سركون بولص مريض». قرأ سركون بولص المقالة التي استعجلت كتابتها ليتسنّى له أن يقرأها وطلب من خالد المعالي صاحب دار «الجمل» أن ينشر فقرة اختارها منها على الغلاف الأخير للكتاب الذي صدر بعد وفاته «عظمة أخرى لكلب القبيلة». كانت هذه هديّة سركون لي، هديّة ما بعد الوفاة. ماذا عن سركون بولص الشاعر والمثقّف؟ حين قرأت «الوصول إلى مدينة أين» أوّل دواوين سركون إذا جاز لنا أن نسمّي مجموعاته الشعريّة دواوين «لا أعرف رأيه في ذلك»، حين قرأت أولى مجموعات سركون الذي انتظر طويلاً حتّى نشر، وبالتالي كان وجد قصيدته وبدأ ما صار فيما بعد عالمه وعمارته الشعريّة، بهرني ما قرأت. كان شعراء الحداثة الشعريّة العرب يعانون في بحثهم عن قصيدة حديثة ليس لها بالنسبة لهم مثال عينيّ سوى ما وقعوا عليه في الشعر الغربي. هذا المثال لم تكن إعادة إنتاجه في القصيدة العربيّة سهلة ولا ممكنة فليس لها سابقة، ولا بد لذلك من تجريب محفوف بالعثرات، ومن رهانات لم تكن دائماً ولا غالباً ناجحة. كان فقدان النموذج يقتضي بناءه، الأمر الذي انتهى غالباً إلى نماذج تجريبيّة تعاني في معظم الحالات من قصور واضح وإلى عوز لمفهوم القصيدة وبنيانها ومن تخبّط في مسألة اللغة ومن حاجة إلى أمثلة. في هذا المجال وقعنا على نماذج، قلّ من بينها ما يستحق البناء عليه أو الانطلاق منه. نماذج في الأغلب مدّعيّة وطنّانة ومنتفخة بنفسها وبنرجسيتها الظاهرة أو الخفيّة، وبما أن الفترة كانت فترة الحلم القومي، نشأ فكر أدنى إلى الخطابة، وإن تحكّمت به لفظية انبعاثيّة إحيائيّة ومستقبليّة. والأرجح أنّ الشعر، بما فيه من استعداد لهذه الخطابة السيّالة والادعّاء اللفظي، قد كان الأقرب إلى حمل هذا الفكر بحيث يصبح في أغلب الأحيان رسولاً لهذه الإيديولوجيا الشاغرة ومحلاً لخطابة من نوع آخر، فيه من الخطابة روحها وتعاليها ودوغماتيتها وشعاراتيتها. كان من الممكن في هكذا وضع أن ننتج شعراً ليس فيه شعر وليس فيه فكر سوى الدعوة، أيّاً كان مرماها وغرضها. ولعل المثل الأقرب لذلك هو لغات هذه القصائد ويمكننا أن نتحدّث، بالدرجة نفسها، عن دعوات لغويّة كانت في الغالب موازية لهذا الشعر، لدرجة أنّ كثيرين حسبوها على الشعر واعتبروها معناه أو افترضوا أنّه يحملها، أو أنّها تقاس عليه ويقاس عليها. هذه اللغات التي كانت في أحيان ليّاً للغة ونوعاً من الطمس لها، كما كانت في أحيان لغة في اللغة ليس فيها سوى نرجسيّة اللغة الّتي تظهر أكثر، كلما كانت اللغة صوتاً فحسب وإنشاء فقط.
نعم بهرني «الوصول إلى مدينة أين» كما سيبهرني بعد وقت «إذا كنت نائماً في مركب نوح»، ففيهما وجدت القصيدة الحديثة. وجدت النموذج الذي ينبني من نفسه ومادّته لا من دعواه ولا من رنينه. وجدت الشعر الذي لا يحتاج لكي يظهر، إلى أن يقوم بقدر من التشويهات أو بقدر من السحر اللفظي.
* شاعر وكاتب لبناني
كلمات
العدد ٣٣٠٤ السبت ٢١ تشرين الأول ٢٠١٧
المتسكع الغريب/ عبد العظيم فنجان
في صيف 1992، فيما الحصار، الحصار الدولي، قد بدأ يقصف بمنجنيقاته أسوار المدينة، حصلتُ على زادي، حصتي من الهواء والخبز، وهو عبارة عن نسخة مصوّرة، بسرّية تامة، من مجموعة سركون بولص الثانية: «الحياة قرب الأكروبول» [دار توبقال، 1988]. لا أستطيع أن أجزم أن هذه المجموعة كانت سبباً في هجرتي من العراق، لكنها — إضافة إلى مجموعة «الوصول إلى مدينة أين» — كانت معي، أنيستي، أينما حللت، بنسختها المصوّرة، والتي اسمرّ لون أوراقها، وبدأت تفقد جملٌ كثيرة منها ملامحها ككتابة، لكن… لا يهم، فقد أكلتها، وتمثلتها، حتى أصبحت جزءاً مركزياً من ذاكرتي القرائية، وبشكل لا يمكن إنكار تأثيره الخلّاق في شِعري.
بعضُ الشعراء، من أصحابي، يومذاك، ممن تورطوا بمأزق التعبئة والتعمية في الشعر العراقي، في الثمانينات، لم تعجبهم المجموعة، بل إن بعضهم وجدها أقل من أن تُصوّر، وأن تتداول بسرّية، فليس فيها ما يشي بأهمية متعارضة أو متخالفة أو ناقدة للنظام، على الرغم من أنهم كانوا — يومذاك — جزءاً مهماً من النظام الثقافي، وأعتقد أن شعورهم بخيبة الأمل، حينذاك، كان نتيجة كونهم على وشك أن يتبرأوا مما اقترفوه، طوعاً أو كرهاً، إذ كان التقييم النقدي شبه غائب، ولم يتوفر منه إلا الانطباع كون المادة الإبداعية مع أو ضد، خاصة إذا كانت تلك المادة قادمة من عراقيي الخارج، أي من خارج منظومة التعبئة والتعمية.
لهذا السبب — ولغيره — بقي شعر سركون بولص غريباً عن الشعرية العراقية. بكلام أدق: عند أغلب الجيل الجديد من الشعراء، يبدو شاعراً ملغّزاً، ومحيّراً، لا يمنح نفسه بسهولة، وهناك همس — سبق أن نوهت عنه — عن كونه لا يستحق الحفاوة التي قوبل بها غيابه، إذ ما زال النقد العضوي غافلاً عنه، وما زالت قصيدته أبعد عن التداول اليومي، لثقل محمولاتها، والتي منها ما سأبين، وإن على عجالة.
لقد رصدتُ — مبكراً — ثيمة مركزية في شعر سركون، وها إني أجد تطويراً، بل تعميقاً لها، في هذه المجموعة: «الحياة قرب الأكروبول». بالإضافة إلى كونه شاعراً متميزاً، يمتلك بولص — إضافة إلى الشاعر صلاح فائق — موهبة أساسية، هي الأخرى، وأعني بها: موهبة التسكع، وهو مما جعل حياته عبارة عن مقطع طويل من الترحال، التشرد والسفر، في خوابي العالم. إنه ميل فطري للهرب نحو شيء ليس بعينه، وهذا ما أضفى على «أبطال» شعره، أغلبهم، سمة التيهان، باعتبار هذا الأخير موقفاً، وليس نزهة، غاية لا وسيلة.
قد تبدو مفردة المتسكع شائعة، أليفة أو قد ابتذلتها يدُ التداول، لكنها هنا تقع في قلب المعنى الذي أراده سركون، حين كتب ملاحظته في نهاية مجموعة «إذا كنتَ نائماً في مركب نوح» عن قصيدة «حانة الكلب»، أو القصيدة الأصعب — في تقديري — التي كتبها سركون، والتي لم أعثر على مفاتيحها الأسلوبية، على الأقل، إلا بعدما قرأت رواية «على الطريق» للشاعر جاك كيرواك، لكن هذه قصة أخرى.
كتب سركون: «كان هذا العنوان — أي: حانة الكلب — قد خطر لي وأنا أسوق سيارتي في شارع «الطريق الملوكية».. لم يكن ذا مغزى جليل، بالنسبة إليّ، في حالتي تلك، لولا أنني لاحظتُ في الطريق، بالصدفة، يافطة على باب بار استرعت انتباهي للحال لفرط غرابتها، وتوقفت عندها كأنني وجدتُ سر أميركا أخيراً: «حانة الكلب» حرفياً «حانة الكلب على طريق الملوك». والملوك هنا، طبعاً، يُقصد بها ملوك الروح، مما يزيد الطين بلة، ذلك المعنى المتأجج بين الكلبية والقداسة».
يقرر القاموس العربي معنى «المتسكع» فيعرّفه كما يلي: «يتسكع في الشوارع بلا هدف: يتشرّد، يتكأ، يتيه، يظل..» وهو تعريف يخص المدن القديمة، أو يخص زمناً كانت فيه المدينة عبارة عن أزقة وشوارع ضيقة ومحدودة، لكن ڤالتر بنيامين في دراسته عن بودلير — كما ينقل فيصل دراج — يميّز بين ثلاثة أنواع من البشر في الزحام: «إنسان الزحام الباحث عن مكان ضيق بين المتدافعين، قاصداً الوصول إلى مكان يعرفه، المتبطل الذي يبدد وقته بلا هدف ولا غاية، والمتسكع المنصرف إلى الملاحظة والمراقبة.. كما لو كان تأمل الزحام عملاً نوعياً، يراكم الخبرة، وهو يراكم صدمات متعاقبة».
وإننا — دون شك — نقصد النوع الثالث أعلاه، في هذه المداخلة، وهكذا إذا كان بودلير متسكع باريس، المدينة الكبيرة في بداية تحولها إلى العصر الصناعي، فسركون كان متسكع الفضاء المفتوح، متسكع المدن النائية والكبيرة معاً، ومتسكع الموسيقى والأفكار أيضاً، حيث العالم كله مجرد بلدة، تتغير ملامحها، حسب تغير قاموسه الشعري، لكن التسكع واحد، وقد دأب على تطويره، قصيدة بعد أخرى، من جلجامش، في رحلته الخرافية، إلى «الشخص العراقي في آخر الزمان»، مروراً بالجندي الذي يطعن المسيح، وبأبطال الملاحم والروايات..
في مجموعته البكر «الوصول إلى مدينة أين»، كتب سركون: «طيلة سنوات تجرني اليقظة من ثيابي، إلى أماكن لم يرها أحد، إلا نائماً أو مخموراً». وكتب: «كنتُ أركبُ الشوارع أيضاً، محمولاً على موجة المواصلات، بين الجميع ولا أحد»، وأيضاً: «أحذيتي تحلم بالطريق»، وقال أيضاً: «دون خارطة، دون أن ينتظرني أحد حيث أذهب، ولا أحد ينتظر عودتي. دمائي العمودية وحدها تذكرني بأنهار وطني، وفي كل بلدة عيناي الوفيتان أمتعتي الوحيدة». وكتب أيضاً: «هناك باخرة ترعى في أحشائي»، إضافة إلى مئات الشواهد، في هذه المجموعة، التي تشير إلى المتسكع الذي لا يصل إلا ليرحل، والذي إذا أقامَ رحلَ، في داخل نفسه، كي يواصل الرحلة، لكنها إقامة المتوتر، القلق، الطائر المتحفز للطيران في أية لحظة.
في قصيدته «جسدي الحي في لحظته»، يكتب سركون: «وجهي معلّى للسماء وما من زاوية للتنحي/ شَعري معفّر بأتربة الشمس، والهواء يدخل قمرات سفينة/ أبعث بها إلى البحر، بين آونة وأخرى، مصنوعة من كلماتي/ لا، لستُ الطريح الذي قد تتخيل، على سرير انعزالاتي/ أبعد من أن تصلني صيحاتك المجيدة»، وفيها يبدو تعب «المتسكع»، لكنه تعب الجسد، بل إن مجموعته الأخيرة «عظمة أخرى لكلب القبيلة» هي التجلي الأخير لهذا التعب. في نفس القصيدة أعلاه كتب سركون أيضاً: «جسدي الحي في لحظته، هذا التنور الذي لا يكفّ عن تدوير الأرغفة للجياع المزدحمين على بابي»، في إشارة بليغة لثمار هذا التعب!
* شاعر عراقي
كلمات
العدد ٣٣٠٤ السبت ٢١ تشرين الأول ٢٠١٧
شجرة المكان/ مازن المعموري
كن بخير صديقي سركون، وسوف أكون غريباً في العالم مثلك
في المدينة التي تطرق أصواتها أذني، تقودني الى البدايات القصية لمواجهة ذاتي في الأماكن بصفتها شكلاً للتفكير. وهذا ما يجعلني في مقابلة بين نمطين من التفكير، وأقصد نزعة التمدن التي فرَّغت الحضارة من كينونتها وتحولت المدن بسبب ذلك الى تجمعات بالصدفة لا يربطها دم أو ثقافة أو روح، فأصبح الإنسان عقيماً على حد قول شبنغلر.
الأمر الثاني هو صيغة التفاعل مع الانسان المعاصر في المكان المستلب في المدينة، كمنتج للافكار والصور المفاهيمية كالرموز والبنايات وغيرها، و«أنا» الشاعر بصفتها شكلاً للتفكير المعاصر، يحمل كل من هذين التكوينين أدواته للقول والتنافذ، عبر تحولات اجتماعية وفكرية وسياسية قدمها كل من هوركهايمر وادورنو في الدراسات النقدية في الاربعينات من القرن الماضي. وأقصد هنا التمثيل الرمزي والمادي للإنسان المجرّد بصفته الموضوع المكرَّس لتلك التحولات.
يدخل سركون بولص عبر هذه المعادلة بصفته ابناً لمكونات ثقافية وجسد اجتماعي مختلف وهامشي، حيث المدينة البترولية (كركوك) ذات بعد غربي استهلاكي للاقتصاد الطاقة وصراع القوى الكبرى في العالم، وما زال الأمر خاضعاً لهذا الأمر حتى اليوم، والعراق بصفته حاضنة حضارية ترتدّ على نفسها في كل مرة يحاول مبدأ التمدن الغربي الانقضاض عليها، بما أنّ التجمعات السكانية في العراق هي سليلة ثقافات حضارية ودينية عميقة الجذور، لكنها شُوّهتْ. وبعيداً عن المجريات الواقعية للتواصل مع الشركات النفطية وأبعادها الأخرى، صار لزاماً على سركون أن يبحث عن مدن أزلية لعالمه الشعري، منطلقاً من مبدأين أساسيين هما:
1ـ الثقافة المكونة لسركون بصفته غير عربي يكتب باللغة العربية، وهذا له أبعاد أخرى أقلها الاختلاف الديني الاسلاموي والقومي العروبي في مرحلة الستينات وما بعدها، وحضور فكرة اليسار الشيوعي بقوة بصفته الند للتوجه القومي المطلق للشوفينية البعثية التي جاءت بقطار أميركي كما نعلم.
2ـ الهامش الثقافي المسيحي والجذر الاشوري العراقي الذي يعود لاشور بانيبال (669-629 ق.م). وهذا الموضوع لا يهم سركون بقدر ما يهمني كقارئ لسركون بصفته هامشاً مضاداً للثقافة العروبية واللغة العربية.
3ـ اللغة العربية بصفتها لغة قابلة للتواصل المعاصر، وهذا ما جعل سركون يعتمدها في أغلب نصوصه بصفتها دالة على المكان والثقافة المختلفة مع المدينة الغربية. التمسك بالكتابة العربية يعني التمسك بفاوستية شبنغلر كما اعتقد.
4ـ المعاصرة الفردانية للذات. وهي تحمل غربة الإنسان في ظاهرة القمع والعنف الرمزي لوسائل التواصل والإعلام والثقافة الاستهلاكية لدى أدورنو، وهو ما أدى الى ظهور الهجنة الثقافية في المجتمعات المعاصرة، لأن المهم ليس التعايش مع الآخر بل التشيؤ والتذويب الاعلاني للوعي.
أتحدث هنا عن مرحلة تحولات حاسمة في العراق، لحظة البعد الواحد لماركوزة وحجم تأثيرها الفعال في الستينات وهيمنة الفكر الوجودي للمجتمع العراقي لدرجة التماهي والتقليد والاستعادة البوهيمية لمجموعة كركوك بشكل عام. إنهم كوزموبالتانيون رغم محليتهم الثقافية، هامشيون لدرجة أن السياسة والايديولوجيا مسحتهم من ذاكرة مجتمع مختلف الاعراق وأقصد العراق، لأن التأثير لم يكن للثقافة بل العنف السياسي للعصبية العروبية للمثلث العروبي (مصر/ سوريا/ العراق) وهذا ما جعل المد التحديثي في الشعر ينتمي للمثال وليس الواقع. ينتمي للشكل وليس الانسان بصفته لعباً كما يريد شيلر، لكن فهم المفهوم شيء وتداوله شيء آخر في العراق والوطن العربي.
الحقيقة إن نمط فهم الثقافة العراقية صعب للوصول الى ظاهرة المسرحة. اذ يقول نعيم قطان «إن انزعاج الشرق ناتج عن عجزه عن فصل المسرح عما هو واقع معاش»، كما لو أن هذا الفارق هو جوهر الموضوع لدى الأقليات العراقية، ومنه إلى سركون الذي يعتقد أن الشاعر غريب في كل شيء حتى إنه يصرح بذلك في إحدى قصائده قائلاً: «ثمة غربة تفضي الى غربة»
لذا، فإنّ التنصل من المكان والمدن الأصيلة هو التنافذ عبر مدن متخيلة لا تعرف علامة يقينية لثقافة محددة حصراً، لكنها التعريف بالذات أولاً، إنها هي وليست غيرها، تلك التي تمنح اللغة تنافذاً غير مشروط للوقوف على حقيقة الغربة والضياع بسبب اللغة العربية أولاً، ونشاز الاعتراف بالحقيقة ثانياً. ترى ماذا يحدث لو أنّ سركون انتمى لفكرة غير الشعر؟ لن يكون سركون هو ذاته، لكنه المدن المستعادة بأكثر من باب للدخول، وهو ما يعني نمط التفكيك المفضي الى أكثر من دال لا نهائي للنص السركوني. سنكون محتالين بالسليقة لأننا ممسرحون حسب نعيم قطان. والواقع مسرح دلالي للثقافة العراقية التي أنتجت سركون وجماعته شعراً وقصة وكلاماً ومرآة للوصول إلى المشهد العام للمكان، كما هو لا غير. كان سركون ينتمي للثقافة وليس المكان بصفته الكونية. ولهذا، نجده يتبدى عبر مشاهد الطعام والممارسة اليومية للوجود اللحظوي بصفته المعاش كما هو، لكنه التيه أبداً.
سركون بولص هو تيه الحداثة العراقية وليست العربية، لأنه لا ينتمي الى مكان بل الى ثقافة ترتوي من الأصول الثقافية للبوح الشعري دون الحاجة الى انتماء مذهبي ويقيني فاضح ومؤدلج، غريب عن الذات المكانية، بل الى المدن بصفتها أبواباً لا تنتمي إلى حد ممكن، بل تتجاوز المتاهات الى اللاأدرية والقدرية الشرقية بصفتها المنطلق العقائدي والثقافي المتاح للتداول في ظل صراع شرس لا يقبل التعايش مع الفاوستية الغربية ولا الشرقية الروحية، بل الى المسرح الشرقي بصفته ممثلاً لمسرحة الحياة في الخطاب الشعري، وممثلاً لاستلاب أدورنو المديني الغربي بكل ما يحوي من غوايات غريزية للبدايات. كن بخير صديقي سركون، وسوف أكون غريباً في العالم مثلك.
* شاعر وتشكيلي عراقي
كلمات
العدد ٣٣٠٤ السبت ٢١ تشرين الأول ٢٠١٧
سندباد كركوك/ جولان حاجي
تسلم امبراطور الروم رسالة عجائبية منتصف القرن الثاني عشر، مرسلها ملك الملوك برستر جون الذي راسله البابا إسكندر الثالث. في تلك الرسالة أسطر حول نمال عملاقة، ونهر دافق من الأحجار، وبحر من الرمل تسبح فيه أسماك حية، ومرآة شاهقة تعكس كل ما يدور في المملكة التي حوت «عين الحياة» أيضاً، وتاخمت الجنة، وكان كل أهلها مسيحيين فُقدوا بين مسلمي المشرق وكفَّاره. ألهمت تلك المرآة العملاقة العديد من القصص الأوروبية في القرون الوسطى وعصر النهضة.
يأتي السندباد البحري في «ألف ليلة وليلة» على ذكر برستر جون باسمٍ آخر هو يوحنا السوري. سيرة هذا الملك الخيالي تشبه سيرة كتاب الليالي وحكاياتها: بداية ظهوره في الهند؛ ثم تنقُّل مملكته عبر بلاد فارس وآسيا الصغرى دون أن تتوسَّع. لم يطل مكثاً في بلاد العرب. بارحها حين هُزم الصليبيون الذين استغاثوا به عبثاً. خذلهم أيضاً الملك الجبار الفاضل الذي آمن به الجميع ولم يره أحد. لكنهم، على الرغم من الخذلان، تركوه وراءهم، ليحكم الأراضي المقدسة نيابة عنهم، ملكاً خيالياً هاجر في النهاية إلى هضبة الحبشة ونصاراها، حيث اختفى وقد تجاوز عمره خمسة قرون. هناك رأى رحالة برتغاليون بقايا مملكته للمرة الأخيرة.
مثل سركون بولص، الشاعر الذي تسكع عبر العالم وتشرد وتاه، غادر السندباد البحري بغداد وطال منفاه.
طاف السندباد البلدان، مبتعداً عن بغداد حتى أوشكت تستحيل وهماً؛ وحين يُسأل في بلد بعيد «من أنت؟» يجيب بأنه يجهل اسمه، ويجهل أي طريق تفضي إلى الأسماء. ومع ذلك روى تيهه بلسانه، ولم ينسَ الأعاجيب (وآخر ما يتذكره عادة أعجوبة نجاته): كأن يزقو الرخُّ فراخَه أفيالاً، أو يسافد حصان البحر في الليل فرساً مربوطة إلى صخرة على الساحل. في «حامل الفانوس في ليل الذئاب»، يسترجع الشاعر والمترجم الآشوري المترحِّل كيف يصادف السندباد شيخ البحر في جزيرة مقفرة؛ يحسبه محتضراً غرق مركبه، ثم يرفعه ويحمله على ظهره، قبل أن يكتشف على الطريق أنه قد أنقذ وحشاً سيخنقه بساقيه، مثل جني القمقم الذي توعَّد بقتل مَن يعتقه. في الديوان ذاته، يكتب الشاعر عن عتّال في كركوك يفقد عقله لأن سيدة فتحت له سريرها لمرة يتيمة. «حمّال الكلمات» عنوان قصيدة أخرى للشاعر، ينطبق على رواة الحكايات حمَلةِ الأحاديث وحفَظتها. لنتذكر هنا لقاء في الليالي. السندباد البري الذي يعمل حمَّالاً في بغداد ولم يغادرها قط، يلاقي السندباد البحري بعد عودة الأخير من سابع مغامراته. يتلاقيان، سِيّين وسَميّين، كمسافر عاد إلى قرينه الذي ظل يواصل عنه حياته الأخرى، حياة ظلت تدور تحت الاسم نفسه أثناء غيابه عن مكانه الأول. مثل ماركو بولو، ربما لم يسافر السندباد قطّ، وربما كانت رحلاته – إذا استعرنا بيتاً من إدغار ألن بو – حلماً آخر داخل حلم شهرزاد الطويل.
* شاعر ومترجم سوري
كلمات
العدد ٣٣٠٤ السبت ٢١ تشرين الأول ٢٠١٧
مُقِلٌّ في الحياةِ، غزيرٌ ما بعدَ الموت!/ محمد مظلوم
عشرة أعوام على رحيل سركون بولص، وما من شاعرٍ عراقي منذ السياب احتفظ بمثل هذا الحضور بعد رحيله. فقد ظلَّت كتابات سركون تأتينا وهو في العالم الآخر، إذ كشف رحيله عن غزارة مطمورة، فلا يكاد يمرُّ عام منذ رحيله حتى الآن دون أن يصدر له كتاب جديد، في الشعر أو القصة أو الترجمة أو المقالة. نشرتها «دار الجمل» بعد رحيله ولا تزال. بينما كان مقلاً بالنشر في حياته، فقد اعتنى بفوضاه بشكل جيد!
حتى أنَّ ديوانه الأول صدر عام 1985 وهو في الحادية والأربعين، وصدور هذا العدد من أعماله بعد الرحيل والتي توازي وربما تضاهي ما صدر له طيلة حياته تؤكد إنه شاعر يستطيع التواصل معنا وهو في العالم الآخر بهذا الإرث السلالي الذي خصّ به القرَّاء، وهو العازب الأبديّ بلا عترة يترك لهم ما يرثونه، ولا غرابة في ذلك فهو شاعر الأقلّية، ليس بالمعنى العِرقي، وإنما بمعنى النُّخبة. ولفهم سرِّ هذا الحضور المشعّ والبقاء الصعب المتحدي للغياب، ينبغي التدقيق في السيرة الشعرية العميقة لسركون ومصادره المتعددة التي جعلت شعره ومجمل إبداعه يحظى بهذا البقاء.
فإذا كانت سيرته الظاهرية بسيطة وواضحة: ولد في الحبانية ونشأ في كركوك، وظهر في بغداد وسافر إلى بيروت، ثم هاجر لأميركا ومات في ألمانيا، ودفن إلى جوار قبور العائلة في أميركا.. فإنَّ الحياة الباطنية الشعرية في تجربة سركون تجسِّدُ اختماراً معقَّداً للهوية وتحولاتها في كل هذه الأمكنة، وهذا ما جعل قصيدته مزيجاً لافتاً من الذكرى والتجربة والخيال، من سحر الماضي، وغريزة الآني، وتهويم الغيبي، إذ ينطلق من ذكريات الطفولة والعائلة والمدينة والبلاد وإرثها الموغل في القدم، ليشحنها بتجارب حياته الشخصية الثرية في كل مكان من منافيه، حتى ليبدو أحياناً شخصاً قادماً من تلك الأزمنة الموغلة في القدم وهو يتجوَّلُ في حاضرنا كأنه مجرد متحف لتلك الذكريات. وهكذا بني من الدفين والمطمور برجاً عالياً ومشعَّاً.
تجارب الطفولة واليفاعة ظهرت بشكل واضح في ديوانه: «الأول والتالي»، لكن سركون لم يظهرْ فيها سيابيَّ الإنشاد واللوعة، ولا جنوبيّ الشكوى، إنما هي تكثيف لعزلة الآشوري في منفاه المسور بالأساطير ومرايا الحكايات المتقاتلة في الذاكرة. هذه واحدة من افتراقات حداثة سركون عن حداثة السياب مثلاً، «فحداثة السياب» أغوت حشداً من الشعراء ليكتبوا نصاً إنشائياً تحت قبَّة الرومانسية وظلال أشجار الزيزفون، أما نص سركون فهو التمثل الطبيعي للحداثة ما بعد السياب. لهذا قد يكون لافتاً أن نشير هنا إلى أن أبرز جانب في النظرة إلى الشعر لدى «جماعة كركوك وجيل الستينات عموماً»، قامت في الواقع على نقد البياتي، أكثر من مساءلتها لمشروع السياب. على قراءة «أباريق مهشمة» لا «أنشودة المطر» يعترف سركون أن «أباريق مهشَّمة» غيرت ذائقته. وكانت حاسمة في تأسيس وعيه المختلف لتقنيات القصيدة. كذلك فإن صورة الأب في شعر سركون بولص تبدو أقوى حضوراً من صورة الأم، وهو ما يؤكد مرة أخرى لا «سيابيته» والصورة التي يرسمها للأب ليست تبجيلية ولا عدائية، لا رومانسية ولا رثائية، وإنما هي بورتريه جمالي حيادي اعترافي لشخص عراقي، وجد نفسه أباً! ووجد الشاعر نفسه ابناً لذلك العراقي!
ومثلما حقق سركون انفصالاً ببراعة عن العائلة الصغرى إلى العائلة الكبرى حقق، في الوقت نفسه، انفصالاً سلسلاً عن البلد الجغرافي، الآني، المحدود، الناقص، واختار العيش في البلد: الحضاري، الأسطوري البعيد، المكتمل، متتبعاً شعلة بعيدة، مستضيئاً بما في داخله من ألق الشعر. وبالتالي حقق أسطورته الشخصية بالشعر، منفلتاً من العبء الفيزيائي للأمكنة والمدن، إلى غوايات السفر بحرية ناسخاً المدن بالمدن، وماحياً بالكتابة المسافة الجغرافية بين تلك المدن. ولهذا، فإن الحضور المكثَّف لأمكنة الماضي في العراق، لا يمكن إحالته إلى النمط المعتاد للنوستالجيا المقهورة، في نماذج كثيرة من شعر المنفى العراقي، فعودة سركون لتلك الأمكنة هي عودة استكشافية، وليس حنيناً لما هو مفقود، إنه يعود لتلك الأمكنة ليستمدَّ منها خريطة أخرى كي يوغل في رحلته نحو المستقبل في محاولة لإعادة استكشاف الماضي الكلي الجماعي، من خلال إحداثيات الذكريات الفردية. إنه يعيد إحياء الإرث الرافديني بصورة البطل المعاصر، ولا ننسى أنه يحمل اسم «سرجون الأكدي» صاحب السيرة الملحمية في التراث الرافديني، لكنه في الوقت نفسه «كلدو آشوري» في مزيج عراقي خاص بين الثقافة المحلية والعرق القومي، وهو وريث التراث العربي الإسلامي وإن بدا هذا الأمر غير مفهوم بدقة للبعض، فمن الوهم الشائع أن تنسب المرجعية الثقافية لسركون إلى الثقافة الغربية والأدب الأميركي تحديداً، ذلك أنه من أوائل من عرَّفَنا بأجيال الاحتجاج والرفض في الثقافة الأميركية، لكن ثمة علاقة خاصة لسركون بالتراث العربي/ الإسلامي، القارئ المدقق سيجد تأثيراً من نوع خاص لشعر أبي تمام في تجربة سركون، وهو يكرر الاستشهاد بشعره، ويتحدث عنه بإعجاب في مقالاته وحواراته، وفي تقصي ذلك في شعره سنجده متجسداً في العناية بقوَّة المعنى الداخلي وخصوصيته، خلف الوهج العالي للصورة الشعرية. كما أن علاقته الخاصة بالسينما والفن التشكيلي، أغنت قصائده، سواء بتلك اللقطات ذات الإيقاع الدرامي، أو بالعناية الفائقة في نحت صوره على نحو متماسك يجعل قصيدته متماسكة كالحجر ومفعمة بالتفاصيل الداخلية في الوقت نفسه.
أما مصدره المتعلق بمعرفة الآخر، فهو مثير فعلاً، إذ لم يتعلم سركون بولص الإنكليزية على مقاعد الدراسة، مصادره في هذا الجانب لافتة للانتباه، فقد تعلمَّها من المحتلِّين البريطانيين على مرحلتين: الأولى من جنود القاعدة الجوية البريطانية وعوائلهم في «الحبانية» أوائل طفولته، والثانية من شركات النفط الأجنبية في كركوك في شبابه. هذان المصدران اللذان يبدوان مضادين للأدب والشعر ظاهرياً، قاداه، في العمق، إلى ترجمة عيون الأدب الإنساني وفي الشعر خاصة. وعرَّفاه كذلك بفكرة التسامح الإنساني وكونية الثقافة، لكنه لم يتخلَّ مطلقاً عن روحه الشعرية المنحازة للعدالة الإنسانية وانتصاره للخاسرين! فكانت قصائده منذ عاصفة الصحراء ومن ثم ما بعد الغزو الأميركي للعراق، تفيض بهذا الشعور. وفي ديوانه «عظمة أخرى لكلب القبيلة» نماذج واضحة لهذه الفكرة.
* شاعر عراقي
كلمات
العدد ٣٣٠٤ السبت ٢١ تشرين الأول ٢٠١٧
أعذب الشعر أصدقه/ جرجس شكري
مع سركون بولص ليس أعذب الشعر أكذبه كما كانت تقول العرب، بل أعذب الشعر وأجمله أصدقه دون شك، هذا الشاعر الذي ولد لأب آشوري كان يصلي ويكلّم الرب بلغة أجداده وأم موصلية تتحدث العربية بعذوبة ظل صداها في أذن الشاعر سنوات طويلة، بالإضافة إلى أنها تتكلم آشورية الكلدان. فكتب هو بلغة عربية نقية من كل الشوائب خالية من الأيديولوجيا والسياسة والكذب ومن الزخارف البلاغية المزيفة، لرجل كان يعتبر موقف الشاعر من اللغة موقفاً سياسياً، وترجم من وإلى الإنكليزاية مئات القصائد.
سركون بولص الذي ولد قرب بحيرة الحبانية وعاش طفولته في كركوك وهاجر إلى سان فرانسيسكو وتنقل بين عدة مدن أوروبية إلى أن فارق الحياة في برلين 2007، ظل يحمل طعام طفولته على كاهله وهو يتنقل بين هذه المدن، يقتات منه أينما ذهب ليظل مسرح الطفولة حاضراً في وجدانه يرفع الستار كل يوم عن مشاهد يعيش معها الشاعر، في مسرح لا يطفئ أنواره حتى في ساعات النوم، فما يؤرقه في ستة دواوين من أين جاء ولماذا وكيف؟ ولا تخلو عناوين مجموعاته الشعرية الست من دلالة حول المكان المفقود حيث تبدأ بـ «الوصول إلى مدينة أين»، ثم «الحياة قرب الأكربول»، «الأول والتالي»، «حامل الفانوس في ليل الذئاب»، «إذا كنت نائماً في مركب نوح»، وأخيراً «عظمة أخرى لكلب القبيلة». كأنه يبحث عن حياة ضائعة فقدها وظل طيلة حياته يبحث عنها. فقدها على الأرجح في طفولته «ووجدت نفسي/ وسط مدينة لا يعرفني فيها أحد/ أروي للغرباء في مفترقات الطرق/ قصة لا يصدقون منها حرفاً واحداً». وظني أنه عاش في كل المدن يروي قصصاً للغرباء عن رجل آشوري يبحث عن حياته، ولم يكن غاضباً أو حزيناً، كان هائماً مثل طفل.
عزيزي سركون بولص لأنك لست مشهوراً مثل شعراء القضايا الكبرى والنظريات الحديثة، تعرفت إليك متأخراً، وحاولت أن ألتقي بك ذات مساء في برلين عام 2006 بعدما عرفت أنك هناك وكنت سعيداً مثل طفل، ذهبت وصديقتي إلى من سيدلنا عليك وأخبرنا أنك غادرت أمس، حزنت وضحكت، حزنت لأنني كنت أتمنى هذا اللقاء، وضحكت لأنني إن وجدتك والتقينا، لن تكون أنت فلا بد أن تسافر بعيداً طيلة الوقت، وفي الطريق إليك تخيلتك رجلاً صامتاً لا تتكلم، فقط تهيم على وجهك في المدن وتكتب الشعر «كل رحلة مؤلفة من خطي مسروقة». تمنيت لو تحدثت معك عن هذا الشعر الخالص الذي قرأته فحملني إلى مدينة بنيتها أنت من الكلمات برجالها ونسائها وأطفالها وشوارعها مدينة من الشعر الخالص، كأنك ذهبت بعيداً حتى تقترب من هؤلاء! وفيما بعد حين قرأت أعمالك الأخرى. وعلى الرغم من أننا لم نلتق، كنت أراك الفلاح الآشوري الذي غادر كركوك إلى بيروت ثم إلى سان فرانسيسكو وظلّ كما هو، تنقل بين المدارس الشعرية والنظريات الحديثة، من مجلة «شعر» في بيروت إلى الحداثة الأميركية وشعراء جيل الغضب، ولكنه لم يبرح مسقط رأسه «ما زال كرسي جدي يهتز على أسوار أوراك/ تحته يعبر النهر/ يتقلب فيه الأحياء والموتى». يسهر سركون بولص ويصلي من أجل الشعر كراهب يستعد للقاء الرب في كل حين، يسهر مع أبطال مسرحيته التي امتدت سنوات طويلة في فصول متتالية لا تنتهي تلعب فيها الأشياء مع الكائنات الحية دور البطولة، ويتحاور اللصوص مع القديسين، تلتقي فيها سيدوري صاحبة الحانة في ملحمة جلجامش أم محمد «قارئة الفنجان المرأة التي يتدلى من رقبتها النحيلة ما يبدو للوهلة الأولى أنه قلادة» مع أم يوسف القابلة والنجار والحداد، الموتى مع الأحياء. لقد بعثت قوة الشعر هذه الكائنات من الماضي البعيد والقريب وقدمتها للجمهور على مسرح الحياة، بل وبعثت الروح في الأشياء والبيوت والشوارع بعدما اقتنصتها لحظة شعرية، وهذا ما كان يفعله سركون يسهر ويصلي في انتظار هذه اللحظة التي جعلت من الماضي حاضراً وبقوة «معنى أن تغادر….. موضوع قد يستغرق الأبد». وهو لم يغادر كما فعلت الغالبية العظمى من شعراء المنافي الذين تركوا الشعر في مسقط رأسهم وغادروا مع حقائب الملابس، سركون ترك كل شيء وحمل معه لحظات إنسانية وشخصيات نادرة ولم ينس البيوت والشوارع والشجر ومائدة الطعام حتى الهواء الذي كان يتنفسه في هذه القصائد من هناك، فجاء شعره طبيعياً، شعراً خالصاً لا يشبه أحداً سوى سركون بولص وعالمه الذي لم يفارقه لحظة واحدة أو حتى طرفة عين «من لا نسمع عنهم خبراً/ من لا يذكرهم أحد: أيةُ ريح ذهبت بآثارهم كأنها لم تكن/ أبي، والآخرون – أين هم، أين…» وكان يسهر ليله ونهاره ويصلي هو والشعر من أجل هؤلاء.
*شاعر مصري
كلمات
العدد ٣٣٠٤ السبت ٢١ تشرين الأول ٢٠١٧
سيّد المنفى/ سنان أنطون
«هو الذي بدأ بالتيه في العشرين/ لم يجد مكاناً يستقر فيه حتى النهاية»
«بولص، توفو في المنفى»
أين سركون بولص؟
ليس الجواب بسيطاً البتّة.
جسده مسجّى منذ عقد أو أقل بقليل في مقبرة تورلوك في ولاية كاليفورنيا. ويقال إنه كان يرغب بأن يدفن في برلين، التي أحبّها وعاش فيها وكان يهرب إليها، لكن رغبته لم تتحقق. ولعلها مفارقة شعرية: أن يهاجر جسد الشاعر (أو يهجّر) هجرة أخيرة، بعد موته، إلى اللامستقرّ. إلى أبعد الـهناكات.
«جئت إليك من هناك!»
سيقول قائل إنّه عاش في الولايات المتحدة أربعة عقود. نعم، ولكنها لم تصبح وطناً. وقد قال سركون في حوار نشر في مجلة «پارناسوس»: «لم أتوقف لحظة عن التفكير بوطني أو التشوق لرؤيته. أميركا بالنسبة لي هي مكان عيش، إقامة، وليست وطناً، لكنك لا تستطيع أن تملك وطناً مرتين. وفي نفس الوقت، ليس بمستطاعك أن تعود الى وطنك ثانية. اللغة العربية، وهي الحبل السري الذي يربطني بشعبي وبتاريخي، هي الوطن الحقيقي الوحيد الذي أملك».
قرر الذين أشرفوا على هجرة جسد سركون الأخيرة ألّا يكون لوطنه الحقيقي، اللغة العربية، مكان على شاهد القبر. كل ما نشاهده في الصورة هو نص حفّر باللغة الإنكليزية وآخر بالآشورية. هل هي محاولة، فاشلة بالطبع، لقطع الحبل السرّي؟ أو لاختزال حياة الشاعر وهويته المعقّدة والغنية واحتكاره واحتكارها من قبل الجماعة؟ نفيٌ آخر وأخير لسيّد المنفى.
لن أزور قبر سركون بولص. لأنه ليس هناك.
إذاً أين سركون بولص؟
يموت الشاعر في مكان واحد، مرة واحدة فقط. لكنه يسكن في اللغة، البيت… الأكبر. الوطن الحقيقي. الرحم. فاللغة تلد الشاعر من جديد كلّما قرأناه.
سأزور سركون… في دواوينه وستقبّل روحي كلماته. وسيأخذني، ككل مرّة، إلى كل تلك الأمكنة التي شيدها في اللغة. فالقصيدة مكان (ولـ «الديوان» دلالة أخرى في هذا السياق). مكان نطلّ منه على ذواتنا، وعلى الكون، وعلى ما اندثر من أمكنة، وأزمنة. ونطل، مع سركون، على العراق، طبعاً، وطن الشاعر. ووطن الشعر الأوّل.
سأزور سركون وسوف «أراه هنا أو هناك»، حيّاً، فوق أسوار أوروك، بجانب كرسي جده «تحته يعبر النهر، يتقلّب فيه/الأحياء والموتى». سأراقبه وهو يقلّب دفتره الذي يصيد فيه أرواح الموتى إذ «يمرّون على صفحاته في شبه رفيف». وسأرى ذلك الرجل، يسقط، فجأة، كما يفعل في كل قراءة، في وسط الساحة «مثل حصان حصدوا ركبتيه بمنجل.» وسأرى، وأصدّق ما أرى: أمواج دجلة مقيدة بالسلاسل. وسأحفر، أنا أيضاً، مع سركون، قبراً للمستقبل. وأتفرّس في «قامات لصوص نهبوا التاريخ/ وكأنه بنك…»
سأزور سركون وأرى أطياف الأطفال المسحورين في بقايا مدينتي، ومدينته، في حلمه، «كالطيور في الصحراء، يغنون من أجل لا أحد». سأشم رائحة الرغيف البغدادي وأكاد ألمسه. سأسمع صوته على «الساوندكلاود» وهو يقرأ قصائده برهبة وكأنّه يصلّي لآلهة الشعر. صوت قادم من «ما وراء الحزن» في «نهاية العام/عام النهايات». وشبح يوسف الحيدري يتمثّل بشراً ويقول لسركون، ولنا: «اللاجئون على الطرقات/ الأطفال في التوابيت/ النساء يندبن في الساحات/ أهلك بخير/ يسلّمون عليك من المقابر/ بغداد سنبلة تشبّث بها الجراد/ جئت إليك من هناك/ إنّه الدمار». ثم يبتعد ويختفي.
أين سركون بولص؟
أسأل الأرملة التي تجلس مع طفلتها «على مصطبة الخشب/ بانتظار آخر قطار ذاهب إلى الحجيم، في المطر» عن مكانه وعن وجهتها. تظل صامتة. أسمع «دردمة خافتة». تمشي عيناي إلى مكان/ نص آخر فأرى «مليون لاجئ يتلبّد في خطاه» وسركون يصغي إلى كل لاجئ وهو «يحكي ويحكي ويحكي/ لأنه وصل دون أن يذوق طعم الوصول.»
أزور سركون بولص وأرى آلاف الفراشات تطير من وإلى قصائده «كأنها مقيدة بخيط خفي إلى الجنّة». ثم أراه مع الآباچي «يجول بين الخرائب/ ويرثي أبناء مدينته، يحلم أحياناً/ أن يحلّق كأي نسر، فوق رؤوس القتلى والقتلة.» أقول له: نعم، إنك تحلّق يا سركون، فوق أسوار أوروك وفوق الخرائب القديمة والجديدة.
أحبّك، وألعنك أيضاً لأنك قلت كل شيء. وأشكرك، أيضاً، لأنك قلت كل شيء.
وأزورك دائماً.
سركون، أيها السيّد، يا سيّد المنفى.
* شاعر وروائي عراقي
كلمات
العدد ٣٣٠٤ السبت ٢١ تشرين الأول ٢٠١٧
سرﯕـون بولص: لِلشِّعْرِ مَوْطِنَانِ
ترجمة: رشيد وحتي
الشاعر يتعامل مع الزمن؛ ذلك أن كل تلك الإكراهات العروضية وتعقيدات الموسيقى والصوت ليست سوى طرائق لقياس الزمن، قطرة قطرة، إثر انسيابها من بين أصابعه وتبخرها هباء.” فالقطرة التي لا تستحيل نهرا تلتهمها الرمال”، كما يرد لدى غالب في إحدى غزليات. حينا بعد حين، نكتشف أننا عندما نكتب، إنما نتذكر حقا، لا الماضي بحد ذاته، لا شخصا أو مكانا، مشهدا أو صوتا أو أغنية، وإنما نتذكر، أولا وأساسا، كلمات.
الكلمات التي تكمن في ذكرى ما، وترفق بأصداء مكان وزمان ما. لكن مشكلة الشاعر لا تكمن جوهريا في المفردات، بل في كيفية أخذ المعجم القديم ووضعه في سياقات جديدة، في بنى جديدة يمكن أن تتحدث عن حاضرنا، وتستجلي ما يجري الآن. فوظيفة الذاكرة ليست بسيطة إذن: علينا معرفة الكلمات وما تعنيه، ولكن علينا أيضا نسيان السياقات حيث وجدت.
لهذا قد يحدث للمرء، أثناء الكتابة، في منتصف رحلته أو مع اقتراب نهايتها، أن تكون كل مدة رحلته صوب إيثاكا فقط لتركها من أجل استعادتها.
كانت ﯕِـرْتْرُودْ سْتَايْنْ من وضع الأمور في نصابها حين قالت: “ينبغي أن يكون للكتاب وطنان، ذاك الذي ينتسبون إليه، والآخر حيث يقيمون حقا. الثاني رومانسي، منفصل عن ذواتهم، ليس حقيقيا، ولكنه حقيقة هناك.. أكيد أن الناس يكتشفون أحيانا وطنهم الخاص كما لو أنه الآخر “.
ثمة حكاية تنسب إلى الرومي مفادها أن رجلا ذهب إلى مقام معشوقه، ودق الباب. فسأله صوت من الداخل: من هناك؟ أجاب الرجل: “إنه أنا”. “هذا المكان لا يتسع بما يكفينا، أنا وأنت”، رد الصوت. بقي الباب مغلقا، فانصرف الرجل، محتارا ومرتبكا، مستغربا هذه الكلمات، متأملا معانيها الخفية. بعد سنة من العيش في عزلة، محروما من أبسط ملذات الحياة، قرر الخروج أخيرا ودق الباب ثانية. سأله نفس الرجل من الداخل: “من هناك ؟” فرد: “إنه أنت”. فانفتح الباب.
بخصوص الصوفي، طبعا، لا بد من اجتياز سلسلة من التمارين الروحية الصارمة كي ينفتح الباب، وهكذا يستطيع دخول حضرة المعشوق، وفق تسمية المتصوفة، أو الله. مهمة الشاعر، المقتصرة أدواته على الكلمات، مختلفة. فالباب، بالنسبة له، يبقى مغلقا حتى ينجح، من خلال تفان تام، في ولوج سر اللغة عينها. ولأن الفن مديد والحياة قصيرة، فليس ثمة من شاعر، لوحده، استطاع استكمال هذه المهمة الرائعة تماما، بما في ذلك العظام منهم. فما يجري هو أن كل شاعر، طوال التاريخ، بوعي أو عن غير وعي، يواصل حقا عمل سابقيه من الشعراء، فيما يشبه قصيدة لا تنتهي أو سلسلة حروف تمتد حتى الأبدية، أو حتى نهاية الزمن. كتب مِيؤُوتْشْ ذات مرة قصيدة تعبر عن الأمر بدقة، قصيدة تحكي عن رحلة غريبة لشعراء عبر العصور، كعصابة من البشر اختاروا طريقهم، تنزع نحو قول الحقيقة، وإن بطريقة حالمة وشبه طفولية.
وفي نفس المنحى، يستعيد بورخص، في دراسته “وردة كولردج”، فكرة مماثلة: أن كل الشعراء يشتغلون حقا على ذات الملحمة القديمة التي تشكل كل قصيدة مجرد شذرة منها. أعجبتني قصيدة ميؤوتش كثيرا، بحيث ترجمتها للعربية ونشرتها في جريدة يومية تصدر في لندن، حيث كان الحائز على جائزة نوبل في قراءة شعرية بمهرجان لندن للشعر. كان الشاعر الكبير مفتونا بهيأة الحروف العربية، وسألني لهفانا أي قصيدة هذه؟ فقلت له إن عنوانها “تقرير”، وإنه، من الواضح، مرفوع إلى الرب، أو إلى ذات يدعوها “أيها الأسمى” فشع وجه ميؤوتش: “أي نعم، طبعا”. ثم أردف: تعرف، لقد راسلته بعدة تقارير طوال أعوام، لكنه لم يجبني قط”.
لم أستطع مد يد العون بالقول للشاعر الكبير: “من يدري، لعله يفعل ذات يوم”.
كلمات
العدد ٣٣٠٤ السبت ٢١ تشرين الأول ٢٠١٧