عشية في النيل/ باسيليو رودريغيث كانيادا
نهر كبير
غزارةٌ فائضةٌ من غنىً وحياةٍ،
أمٌّ معطاءٌ لأراضٍ خشنةٍ،
طريقٌ عَبَرَتْهُ الآلهةُ
تُرضعين أطفالك،
تشفين غليلَ العطشِ في أفواههم
وتوزِّعينَ الخصْبَ بالقسطاس.
في طوبِ بساتينِ النخلِ
جنْبَ جنانِ الضفتينِ،
تقدَّمُ القرابينُ إلى الإلهِ الخالقِ:
التَّمْرُ كغذاءٍ حُلْوٍ،
وديمومةُ القرونِ المطيعةُ
والثمار التي أنجبتها الأرضُ.
■
عشية في النيل
إلى خوسيه رامون
غروب شمس في النيل.
قبابٌ ومآذنُ منعكسة
على نصْلِ سكينٍ من نورٍ:
حنينُ رجالٍ آخرين وزمنٍ آخرَ.
أطفال على الضفة يحيون مركباً
يصفرون ويلوِّحون بالأيدي.
آلهةٌ جديدةٌ بيضاءُ تعبرُ
مياهاً كانت مخَضَّبَةً بالدَّمِ قديماً.
يعمَلُ المركبُ الصَّغيرُ
بحبالٍ وأشرعةٍ قليلةٍ على متنه،
بينما هو يتأبَّدُ عبر شباكٍ
باردةٍ صُنِعَتْ باليابان.
نوبيون بقمصانٍ بيضاءَ وربطاتِ العُنُقِ،
تربوا في خدمة الآخرين بدماثةٍ.
حِمْلٌ مفرطٌ من سنواتٍ وكيلواتٍ
فوقَ الغطاءِ الأخضرِ المفروشِ.
نسيمٌ منعشٌ يُخْمِدُ
الآثارَ القاتلةَ للشمسِ.
وكخاتمةٍ لانْصِرامِ النَّهارِ
التظاهر لامرأةٍ بالحبِّ.
■
كليوباترة
عشقتِ هذا العددَ من الرجالِ
حتى أنك لم تعرفي كيف تحبين رجلاً واحداً
سوف لن يضيءَ الإسكندريةَ أبداً
هذا العدد من المصابيحِ كما في تلك الليالي
التي كنتِ فيها مدعومةً
بما لا يعد ولا يحصى من أعمدةِ النارِ.
ملكةٌ من سلالةٍ منقرضةٍ
هانتْ أمامَ آلهةِ روما.
كليوباترة تحترق
مثل ألفي مشعلٍ.
■
إيزيس ترضع ابنها
ستقتلُ سِتْ عمَّكَ القاسي
الذي أهلك أخاه أوزيريس
لكي يحظى بتاجٍ مُضاعَفٍ
كان يجب شرعاً أن يؤولَ إليكَ
تلك هي رغبتنا.
ابحث عن البرنيقِ الخائفِ
المتخفِّي في وَحَلِ النَّهرِ الكبيرِ.
انتقمْ لآلام أمكَ،
واشدُدْ من عزمِ أبيك في حزنِهِ،
اعثر على الخنزيرِ الذي يدِبُّ
مسنّاً وثقيلاً في المستنقعاتِ
إلى أن يموتَ ممزقاً
في احتضارٍ لانهائيٍّ.
لماذا نُودِيتَ لكي تسودَ
في مصرَ العليا والسفلى،
يجب أن تُتِمَّ تنفيذَ المقاصدِ
وتسمِّي نفسكَ حوروس،
المنتقم.
■
فرعون
يا فرعون الخالد الجبار،
يا سليلَ الآلهةِ وخالقَها.
العارفُ المتبحرُ باللغةِ
الهيروغليفيةِ وبالكواكبِ
سيِّدُ العبيدِ الهمامُ،
العاشق الوفيُّ لنسائهِ
والأب المبجَّلُ لِمائةٍ
وسبعةٍ وأربعينَ أبناً شرعيأً.
المحاربُ المنتصرُ في ألفِ معركةٍ
والمالكُ لكنوزٍ بديعةٍ.
مستغرقاً في عالمِ الأمواتِ
نسيت أنك تسودُ بين الأحياءِ.
يا فرعونُ الخالدُ الجبارُ
يا سليلَ الآلهةِ وخالقَها.
■
اسمك
في البعيد تنشطرُ الصحراءُ،
مزهرة بنخيل جنب النهر.
الألوان الشاحبة للطوب
تبدو متعبة بهذه الشمس.
منذهلاً برفْشِ الزوارقِ،
أتخيل حكاية بلا معنى:
تبدين ممتطية جملاً
متسربلةً بعباءةٍ بدويةٍ،
الوجهُ متخفٍّ خلفَ عمامةٍ زرقاءَ،
ومنكشفاً تترك فقط
اللمعانَ الفاتنَ لنظرةٍ،
أشتهي أن أستمرَّ في سحرِها.
يحرِقُ الرملُ جسدي
حين أتبعكِ بين التلالِ،
باحثاً في رنَّاتِ اسمكِ
عن صيغةٍ كيميائيةٍ لا تحولكِ إلى ملحٍ.
■
الطوب
تهزُّ الريحُ الطوبَ،
مرايا فضية صغيرة
تَفْتِنُ بشمسِ المساءِ
أولئك الذين يشقُّونَ سُكونَ النهرِ.
أُبْحِرُ بأشرعةٍ منشورةٍ،
منتفخة بالنسيمِ
الذي تلفظه الأنفاسُ المنعشةُ لفمكِ.
في التموُّجِ الهادئِ للأجسادِ
أريد أن أكشفَ ما بين الأسل
الرسائلَ الخفيةَ المتضمَّنةَ
في أوراق البَرْدِيِّ المفتوحةِ لجلدكِ،
متجنباً تياراتٍ تسحبني نحو الغرقِ
ما بين صخورٍ ورمالٍ.
■
مصفاة الحب
نظرة من السور الأبيض
الذي يحمي مسكن عطر الحريم
المكتنف بالأسرار،
تقودني إلى نطاق أناس
ضعاف النفس، يتأوهون
إذ يعشقون المصطبة الصغيرة
حيث تتخفى جوهرة النيل.
ثقوا بما أحكيه لكم:
ففي أسوان توجد عجوزٌ
تحفظ في صناديقها
رقّاً قديماً يصِفُ
صيغةً كيميائيةً لنقيعِ الحبِّ
مصفاةٌ تحدث لمن يحتسيها
هوىً متقداً وأعمى،
يجعل المحبَّ قادراً على هجرِ كل شيءٍ
ليستسلم بلا إبطاء لذراعي مُغازله.
عارف بالأسرار السبع
يبحث عن النجمة الظافرة، المحمية،
يحـلُّ لغزَ الهيروغليفيةِ
التي يصوم عنها إلى الأبد،
إذ تمتلك القدرةَ الخارقةَ
التي منحت ملكاتِ مصرَ
السلطان المطلقَ على الآلهةِ
والقادةِ الغـزاةِ.
■
زهرة النسيان
زهرة الزهرات
يكدِّرها الحزن الكبير.
هي منغرسةٌ في منبتِ
قراصٍ خشنٍ ومهملٍ.
زهرة نسيان وحيدةٌ.
ومع ذلك،
حينما يهدهدها الهواءُ ليلاً،
تكابد ألم الأخريات.
■
المغناج
تلك الزهرة الغريبة والفاتنة
فوق شفٍّ من حريرٍ أبيضَ تزنِّرُ
السيف المقدس القاطع
الذي صاغه ابن قينةٍ.
يتزاحم الكل لرؤيتها وهي تعبر:
قد غاب عنهم أنها تترك مثبتا
خلفها هواءَ الحزنِ آسناً.
من تأملها يقول إن لها
عيوناً خُطَّتْ بسوادٍ مشتعلٍ،
من العمقِ حتى أن عبر جمالها
كشف شخص ما سر الخطيئة.
■
صورة على الفطرة
ضفائر شعرها
تضفي على جانب من ذلك الوجه
مسحةً هادئةً
مُقَنَّعةً ببراءةٍ زائفةٍ.
شفتان معضوضتان في صمتٍ
تلتمسان استجابةً عاجلةً
في مكانٍ أكثر ملاءمةً.
لم يكن لملامحها كمال حسن
ولا السحر اللامحدد
لحركاتٍ فاضحةٍ.
ومع ذلك كانت تجعلني أحس الارتباك
وأرغب في اكتشاف دروبها،
كما لو كنت أسمع للمرة الأخيرة
النداء الوحشي لقلبٍ
يحتاج إلى نوباتٍ جديدةٍ.
■
سؤالٌ خطيرٌ
أرغبُ في كشفِ سرِّ
السؤالِ الخطيرِ
المنقوش في عطر جلدِك
لكي أقتسمَ معك
جنون لياليك.
■
عناق لا وجود له
عيناك تبذران
حلماً رائعاً مبتدعاً
من فتنةِ
عناقٍ لا وجودَ لهُ.
تستمتعين في لذة بالشراب
من ينبوعِ مفاجأتي.
أنتِ لا تدعينني أبداً أصلُ
إلى الجولةِ الأخيرةِ من المبارزة.
■
خضوع
يمكنني أن أخسرَ الكرامة
في متاهة حياتك،
وأن أسقطَ مهزوماً أمام نظراتٍ
مدمِّرةٍ ومؤثرةٍ.
يقيني يتناقصُ
في القوامِ الغامضِ
لاختلافاتنا.
أن تستطيع التوصل إلى أن تكون جزءاً
من رهبةٍ منسيةٍ وموروثةٍ عن الأسلافِ
فذلك يُجنِّبُنا وداعاتٍ مؤلمةً.
■
المجنون
كان يبعث برسائلَ دون أن ينتظرَ جواباً.
وكان يخلطُ بين المعاني والكلمات.
وحججه لا سند لها.
كان يتردد بين أن يصمتَ أو يسترسلَ في الكلامِ،
والآن لم يعدْ يرفعُ صوته
لأنَّ لا أحدَ يصغي إليه.
مُجَنْدَلاً بهذا القدْرِ مِنَ السخافاتِ،
كان يشبكُ ذراعيْهِ
فوق حَيْرَتِهِ.
كان يُوصلُ إليَّ أوراقَهُ
دون أن يَكتُبَ فيها شيئاً.
أخيرا عرفتُ أنَّه جُنَّ
لمَّا كان يشتغلُ لحِسابِ الآخرين.
* Basilio Rodriguez Cañada شاعر إسباني ولد في نابالبيار دي بيلا (باداخوس) سنة 1961. نشر عدة دواوين شعرية أهمها:” المراهقات” (1983-1986) “الجَديرُ بالأبديةِ” (1990-1995) “روافد الذاكرة” (1996) ” نافورة اليشب” (1998)، كما أصدر سنة 1997 أنطولوجية شعرية بعنوان: “الشعر الأخير: خمسة وثلاثون صوتا لافتتاح الألفية”، جمع فيها أهم الشعراء الشباب الواعدين في إسبانيا في حينها.
* ترجمة عن الإسبانية: خالد الريسوني
العربي الجديد