صفحات الثقافةممدوح عزام

عصبة الساخرين/ ممدوح عزام

 

 

يروي الكاتب السوري الراحل عبد الغني العطري، أنه فيما كان جالساً في مكتبه، في مجلة “الدنيا” عام 1948، زاره سعيد الجزائري، وعرض عليه أن يشكلوا جمعية أو جماعة تعنى بالأدب الساخر. وأن العرض لاقى حماسة لدى عدد من الكتاب والصحافيين السوريين الشبان الذين تابعوا الأمر وشكلوا ما عرف في التاريخ الأدبي السوري باسم “عصبة الساخرين”.

وفي الحيثيات أن العصبة شكلت في اجتماعها الأول، وزارة لإدارة شؤون البلاد كان عبد السلام العجيلي رئيساً لها، بينما عين العطري وزيراً للزراعة، وحسيب كيالي وزيراً للاقتصاد، وقد كتب العطري أن سبب تعيينه عائد لاهتمامه بـ”مسكبة” صغيرة في قرية الحرجلة خارج دمشق، فيما اختير كيالي بفضل انشغاله بكتاب “البخلاء” للجاحظ.

لم تعش العصبة طويلاً، ولم تمنح التاريخ الأدبي نتاجاً أدبياً فردياً أو جماعياً، على غرار رابطة الكتاب السوريين التي أنشئت بعد ذلك بسنوات.

أعتقد أن الدوافع المضمرة لتأسيس مثل هذا التجمع الذي ضم اثني عشر كاتباً، هي محاولة للبحث عن نوافذ لحرية التعبير، وقد عمدت إلى استعارة الضاحك أو الساخر في النقد السياسي الذي كان أول مفاتيح حرية التعبير لدى السوري في البلد المستقل، والدليل أن أول إعلان عن العصبة قد تضمن مقالة نقدية ساخرة لعبد السلام العجيلي، الذي كان عضواً في البرلمان السوري الناشئ بعد الاستقلال، وقصيدة طريفة تسخر من طبيعة النيابة البرلمانية في الدولة الناشئة.

يقول عبد السلام العجيلي في ما بعد، أن كاتب القصيدة هو القاص والروائي السوري الراحل حسيب كيالي، وهي قصيدة تستخدم معظم أدوات الساخر كالمفارقة والتشويه والتلاعب بالكلام لتعميم صورة عضو البرلمان بحسب ما يراها الكاتب:

“أيها القائد الشهم الذي يدعى فلانا/ لا أسميك فقد أحكم بالسجن زمانا/ هات أخبرني: لماذا حين تأتي البرلمانا/ يسقط الرأس على الصدر وتغفو يا أخانا/ قال: هذا مبدأ يبعث في النفس الأمانا/ نحن حزب نملأ الجو شخيراً والمكانا/ قلت: هل أنتم كثير يا عظيماً جلّ شانا/ قال: اخرس، إننا نحن خلقنا البرلمانا”.

كان برغسون يقول إن الضحك يحتاج إلى الصدى، فهو شيء ما يريد أن يمتد، إذ هو يخفي فكرة تفاهمية، أو تواطؤية، بين مجموعة من البشر، تحتاج إلى المناخ الملائم لاستثمار الفكرة وتطويرها.

يمكن تخصيص الكلام أكثر، حيث لا تكفي عمليات التلاعب بالمفردات والألفاظ لمنح السخرية قوة التأثير، إذ هي تحتاج إلى الوسط القادر على تفهم منطق الساخر الذي يقوم على مفارقة المواقف، فلا أحد يضحك على أحد آخر، بل على التغيير الذي يطرأ على السلوك الذي يفعل أمراً ما، في حين أن الظروف تتطلب أمراً آخر.

لهذا علاقة قوية برؤيتنا إلى العالم وتقبلنا لرأي الآخر، من جهة، كما أن له علاقة بحرية التعبير في المجتمع المعني، من جهة ثانية، ولا غرابة بعد ذلك أن تختفي عصبة الساخرين سريعاً من الوسط الثقافي السوري، فقد أعقب ظهورها بسنة واحدة، وهو عمرها، مجيء الانقلابات العسكرية المتجهمة إلى سورية.

العربي الجديد

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى