عصر للثورات وليس للحروب المفتعلة!
مطاع صفدي
كأنما يريد نظام دمشق المتهاوي أن (يستدفع) ما أمكنه من أفرقاء الأزمة، أعداءً كانوا أو أصدقاء، أعلى التكاليف قبل أن يستسلم لنهايته. فهو ما أن تخطى أعلى حدود العنف وفظاعاته، لم يعد يهتم بأية عاقبة تحل فيه، ما دامت نهايته أمست محتومة. ماذا يمكن أن يسوّغ مخطط التدمير المنهجي لحضارة سورية سوى أن العقل الذي قررها ونفذّها قد استقال من أبسط أحكام الأخلاق، مندفعاً هكذا وراء شهوة واحدة، هي الانتقام ما أمكنه من هؤلاء.. الآخرين. هذه الكلمة الواسعة التي أصبحت عنده شاملة لمختلف أصناف القوى المحيطة به سواء منها الصديقة له أو المضادة أو اللامبالية.
إنه مركّب الاستبداد/الفساد الذي يفقد آخر ما تبقى له من رصيد الكذب والخداع، لن يضيره الكشْف عن أوراقه الأخيرة، وهي في جملتها أشبه بالهلوسات منها بالمقدرات الفعلية. عندما يفقد مركّب الاستبداد/الفساد أُحادية السيطرة السياسية أو الأمنية، تنتابه هواجس الهلع من كل جانب، تجعله طريد خيالاته الجنائزية التي تنتظره في منعطفات الأزمة بين معركة وأخرى. فقد أمسى النظام هو الضحية المركزية لجنونه الذاتي أولاً، بعد أن أمسى عدوانياً على الجميع من حوله. صارت أوصافه المتداولة عربياً ودولياً مشتقة كلها من الإجرام والهمجية.
قبل أن يسقط نظام دمشق من فوق عرشه، يسعى أن يهز كل العروش الأخرى. غير أن المحاولة تلو المحاولة في هذا الصدد، لم تنتج سوى المزيد من عزلة النظام داخل أوهامه البائسة. فقد تطوّرت نفسية المشرق، غدا المشرق أمنع من أن يستجيب بسهولة لمخطط العبث الأسدي في أوضاعه، فتلك هي إستراتيجية قديمة، أتقن اللعب بها مؤسس النظام منذ عقودٍ، وشكّلت دعامة أساسية لاستمراره، وقد ساعدته ظروف الحرب الباردة خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، على انتهاج سياسة الصفقات مع أقطاب الاستراتيجية العربية القائمة، وذلك باتباع أساليب مختلفة من الترهيب والترغيب، من الابتزاز والتهديد وابتكار صيغ التحالفات العابرة مع بعض القوى الحاكمة ضد بعضها الآخر.
كانت تلك هي المرحلة الغاصة بالنكسات الوطنية والقومية والاجتماعية من كل نوع، كانت شعوب المشرق خلالها، هي التي تدفع الأثمان الباهظة لتحولات الألعاب التي تجري على سطوح دولها دون أن يكون لها أي رأي، أو موقف مُعترف به من قبل حكّامها.
كان النظام السوري منشغلاً بتأسيس نموذج دولة الإقطاع العربي الجديد، القائم على مبدأ تحويل الحكم إلى نوع من رأسمالية القوة الأحادية المطلقة، في الوقت الذي يصير الشعب مجرد عجينة طيّعة، أي مجرد بضاعة للإستثمار الفوقي قابلة لأخذ الشكل السياسي والعقائدي المفروض عليها، خاضعة للأيدي القليلة القوية العابثة بمصائرها. كان بناء ذلك النموذج يتطلب من مهندسه، لكي ينجح احتباسه داخل القفص الأيديولوجي الذي صُنِعَ له، ابتكارَ كل صيغ التوافقات الآنية مع ظروف الخارج المحيط. كان نجاح الإقطاع السياسي الجديد داخلياً، مفتاحَ توازنات هذه العلاقات الإقليمية. هكذا لم يتبقَّ ثمة رأي عام محلي أو إقليمي قادراً على معارضة الصور والحالات التي تفرض على المنطقة، فقد أصبح (الاستقرار السوري) أشبه بمثال يُحتذى أيضاً من قبل الأنظمة الأخرى، إذ تساوى الجميع في استيعاب سلطاتها لقوى مجتمعاتها، حتى كاد أن يُختزل العالم العربي كله ببضعة وجوهٍ من حكامه البارزين. كأنما صار غياب الجماهير من كل ساحة عمل، خاص أو عام، أشبه بحقيقة تاريخية وبنيوية نهائية؛ أي أن عصر النهضة قد آل أخيراً إلى كيان سدٍّ هائل يمتصّ وراءه كل موجةٍ شعبيةٍ صاعدة. صار مستقبل العرب مستنفداً كله في حاضرهم البائس ذاك.
منذ عقود، صار متعارفاً عليه في السياسة الدولية أن سورية هي مفتاح المنطقة، وهذه حقيقة قديمة. ولكن أصبح المقصود منها في العصر الأسدي، هو أن نظاماً ما، صار وكيلاً وحيداً عن المشرق كأمرٍ واقع، أي أنه في اللغة الدبلوماسية هو الممسك بمفاتيح الاستقرار؛ لذلك اكتسب النظام صيغة الحماية شبه الدولية لوجوده، وهذه الصيغة هي التي لا تزال تحمي حاضر النظام المتداعي. وتطيل من فترة احتضاره حالياً. هذا بالرغم من اختلال الصورة مع انفجار الثورة الشعبية، إذ يعاني حاكم دمشق اليوم من اهتراء إمكانيات اللعب بأوراق الآخرين في محيطه، بعد أن تقلص نفوذه السلطوي في بلده بالذات، إنه حكمٌ يتضاءل من شكل دولة إلى ما يشبه شكل ميليشيا عسكرية بلون طائفي معين. فالمحيط المجاور لسورية، بالرغم من كل الهزات التي يتلقاها، مصرٌّ على عدم الانجرار إلى الأفخاخ الدمشقية المفتوحة.
طيلة الأشهر الأولى، استخدم النظام المراهنة على زعزعة لبنان. كان طامحاً في البداية إلى نقل الثورة إلى ربوع هذا البلد، لكي تنقلب إلى جولة جديدة من مسلسل حروبه الأهلية الدائمة. لكن الثورة كانت ولا تزال سوريةً في جذورها، وفي تحقق فصولها التي اثبتت خصوصيتها بالرغم من كل الشوائب التي تلحق بها. لكن هذه المرة تمسّك لبنانُ بنوع من حيادية ملتبسة، جنَّبته حتى اليوم شرارات اللهب المندلع في الجوار ولِصق حدوده. بيد أن هذا الدرس اللبناني لم يستوعبه النظام السوري، ويحاول تكراره اليوم مع الجار التركي، إنما من دون طائل كذلك. فالمشرق الذي هو موطن الحروب الأهلية والإقليمية، تطوّرت ممانعته السياسية المعهودة ربما، إلى مستوى الممانعة ضد الحروب، كأنه ينتقل من عصر الاقتتالات الشعبوية العبثية إلى عصر النهوض الثوري الجديد، الأقرب دائماً إلى فلسفة السلام، بالرغم من الأثمان الدموية الباهظة في هوامشه. لكنها تلك النقلة التي يتمناها مخيالنا الإنساني ضداً على واقع مزدحم بالمقتلات والمهالك. فالثقافة الحرّة ما زالت تعتقد أن الثورة التي يمكن أن يفجرها شعبٌ مقموع، هي في أساسها نزعةٌ عميقةٌ نحو الفوز بالسلام الممنوع، فلا شيء يحرك الجماهير كالأمل بالوصول إلى الوضع الأفضل في حياتها العامة والخاصة.
إن الثورة هي دعوة حقيقية للسلام، لكنها مضطرة أن تستخدم، أحياناً، وسائل دفاعية أو هجومية تناسب التحديات التي تواجهُها. وقد تكون الثورة السورية انتصرت على بعض الأفخاخ في مسيرتها الصعبة، وأخطرها ولا شك هو الانحراف نحو الاقتتال الشعبوي الفالت من كل عقال، لكن عقل النظام بالمقابل، لا يمكنه أن يتدبّر مآزقه المتواصلة إلا في اتباع صِيَغ المبالغة في العنف. ولسوف يظل هذا السلوك هو المتحكم في قراراته وإجراءاته، ها هو يمضي نحو المغامرة الأدهى: إشعال حرب إقليمية. قد يُغطي صورة العنف الداخلي، لكن ما هي الجدوى الحقيقية في تفجير معركة كبرى مع دولة هي في حجم تركيا، قوية ومتماسكة عسكرياً واقتصادياً وسياسياً. لكن التصور الأسدي هو في إغراق المنطقة بعواصف النار من كل نوع. تبقى المسألة هي في ردود فعل الآخرين على محاولاته.
لن تمنحه تركيا مثلاً شرف الادعاء بإنه يدافع عن القومية العربية ضد الأتاتوركية الجديدة التي يمثلها النظام الحاكم في أنقرة اليوم، فالتشبث بالمفاهيم الكلية أمسى وسيلة مستنفدة من أجل تسويغ حالات خاصة تضر بالغالبيات، ولا تنفع إلا بعض الأقليات المنحرفة، موقتاً.
على الثورة السورية أن تتكفل هي ذاتها بحصر ساحات النار ضمن حدودها. وقد تنجح في هذا الخيار كلما استطاعت أن تبرهن على فعالية الاستحقاق السلمي في محصّلة نشاطها. قد يكون لها جيشها الدفاعي، لكنها هي التعبير الأعمق عن الوجدان الشعبي، بحيث يظلّ سلوكها شافّاً عن حقيقة النزوع الإنساني نحو الحرية والكرامة، فهي تتحمل أعباء المسؤولية الوجودية الحافظة لإنسانية شعبها، وقد تتعدى في ذلك كل مسؤولية جزئية أخرى من سياسية وسواها. فمهما كان الطريق وعراً ومليئاً بالمطبّات الخبيثة، لا بدّ لوجدان الناس أن يذكّر شبابه المناضلين بعظمة تلك المسؤولية.
فما تدافع عنه الثورة هو الحق الطبيعي بالعيش الكريم لأبنائها والأجيال القادمة، ذلك مثلٌ أعلى صعب المنال، إلا أنه وحدَه من يستحق مصارعة السلبيات الضخمة المحْدقة بكل عملٍ جماهيري سليم في نيته وغايته. وفي هذا المنعطف الراهن تستطيع الثورة أن تتابع تصاعدها المضطرد والناجح إجمالاً رغم العثرات والأخطاء، لكنه في الحساب الواقعي يبني ذخيرة من حقيقة المستقبل الموعود. فأهم ما تستوعبه هذه اللحظة هو أن العصر العربي قد يكون هو زمن الثورة، ولأنه كذلك لا بدّ أن يصبح الزمنَ الممانع لأهوال الحروب العبثية، المفتعلة.
‘ مفكر عربي مقيم في باريس
القدس العربي