“عطارد”: التخييل مرآةً للواقع/ يزن الحاج
ليس للمقدّمات فائدة عند الحديث عن تجربة كاتب مثل محمد ربيع (1978). ما عليك إلا الغوص في كتابته نفسها، ولن تنجو أبداً. يصلح ربيع نفسه لأن يكون مقدّمة للتعريف بسلسلة صغيرة وثمينة من كتّاب نهاية «الجيل إكس». لا مفرّ هنا من الركون إلى التّقسيم وفقاً للأجيال. بالأحرى، لا مفرّ من التّقسيم الغربيّ لتلك الأجيال.
«الجيل إكس»، بحسب أدقّ التّعريفات الديموغرافيّة التي دخلت المجال النقديّ والأدبيّ، هو الجيل المولود في عقدي الستينيّات والسبعينيّات. وهذا الجيل بالذات هو من أنقذ الرواية المكتوبة بالإنكليزيّة تحديداً من الانقراض بعد زلزال التّبشير بموت الرواية. وتكمن أهميّة سحب التّعريف من بوتقته الغربيّة إلى العربيّة في ظهور كتّاب مثل محمد ربيع (وإنْ كان قد تأخّر في النّشر قليلاً)، حيث أنقذوا الرواية العربيّة من خطر الانمساخ في جحيم التّماثل والأيديولوجيا والكلام المكرور والثرثرة الفارغة واللغة المبهرجة.
ما يميّز هؤلاء الكتّاب أنّهم بلا آباء فعليّين، إذ كانت مرجعيّاتهم ممثّلةً بكتّاب ضمن الجيل نفسه، سبقوهم بفترة لا تتجاوز خمسة عشر عاماً على الأكثر، أو كانوا مجايلين لهم بحيث كانت عمليّة التأثّر تتم باتّجاهين متلازمَيْن: تأثّر وتأثير بين الجميع. وربما كان أحمد خالد توفيق هو العرّاب الأبرز لهذا الجيل، أكان على مستوى الكتابة الإبداعيّة أو الترجمة. حطّم توفيق الأسوار الفاصلة بين الأدب العالي و«البيست سيلر»، فتسلّل جيلٌ كاملٌ من الكتّاب من بين الشّقوق، لتعمّ الفوضى بحيث باتت الكتابة مهنة الجميع، وصار أدب الرعب والديستوبيا والفانتازيا الجنس الأدبيّ الأوحد تقريباً. ولم تنجُ إلا قلّة مبدعة كان نتاجها أهمّ من نتاج عرّابها بلا شك، ويكاد يكون هو النّتاج الأهم في المشهد الروائيّ العربيّ منذ عقود.
سرد مشدود، وثقافة واضحة وتجربة قراءة غنيّة
مزج محمد ربيع هذه الأجناس المتقاربة كلّها ضمن كتابته، وحافظ في الوقت ذاته على «العدّة القديمة» في الكتابة، أي اللغة والسّرد المشدود، إلى جانب ثقافة واضحة وتجربة قراءة غنيّة. هذا ما يجده القارئ في رواية «عطارد» (دار «التنوير»). ليس ثمة حبكة تقليديّة في الرواية، أو زمنٌ أوحد يحكم المشهد، أو شخصيّة محوريّة (برغم طغيان شخصيّة أحمد عطارد أحياناً)، أو حتى فكرة أساسيّة تربط شذرات الرواية في ما بينها. هذه الضبابيّة هي الشخصيّة المحوريّة بذاتها. زمن الفوضى، زمن الثورات المُجهَضة، والثورات المضادّة، والثورات التي لا تشبه الثورات، والثورات الهمجيّة … سنجد في «عطارد» كلّ الثورات ما عدا الثورة المنتصرة. تشير الرواية بصراحة جارحة إلى أنّ التخييل ليس إلا مرآةً للواقع. وبما أنّ الثورة المنتصرة وهم، لن تجد لها حيّزاً في الواقع أو التّخييل. هنا لا مجال للأوهام لأننا – بكل بساطة – نعيش ضمن الوهم بحدّ ذاته.
تتنقّل أزمنة الرواية بين عامي 2011 و2025 للميلاد، رجوعاً إلى عام 455 للهجرة. ما يربط الأزمنة هو ذاته الذي يغيب عنها، أي الإنسان. إذ بالرغم من عدد الشخصيات الكبير في الرواية، إلا أنّنا سنعجز عن تحليل أيّة شخصيّة بمعزل عن تقمّصاتها التاريخيّة وتجسّداتها المستقبليّة. الإنسان هنا مجرّد ترس ضمن آلاف وربما ملايين التروس التي تشغّل النّظام. النّظام هنا هو ما يحكم المشاهد بأسرها، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، بصرف النظر عن أقنعته. الجوهر هو نفسه. ليس للإنسان منجى من هذا النظام، وليس له مهرب من الحياة ضمن هذا النظام، وليس لديه فرصة أساساً للعيش إلا عبر هذا النظام. علاقة تعايش غير تبادليّة. علاقة محكومة بتفوّق أزليّ لطرفٍ على آخر من دون أيّ إمكانيّة لعكس المعادلة. ولذا، يبدو الصّمت أفضل وسيلة للمقاومة. المقاومة بالرضى القسريّ. هذه هي درب الخلاص الوحيدة من هذا الكابوس الذي يضجّ بالزعيق.
نعجز عن تحليل أيّ شخصيّة بمعزل عن تقمّصاتها التاريخيّة
ما يحاول ربيع فعله في «عطارد» هو نسف الصمت عبر تنفير القارئ من عواقبه. لا يُطيق كتّاب «الجيل إكس» الصمت، لذا يسعون إلى نسفه بالكتابة. هنا يبدو المصطلح الذي سكّه الناقد البريطاني جيمس وود في محلّه تماماً. إنها روايات «الواقعيّة الهيستيريّة». ما يسعى إليه كتّاب الواقعيّة الهستيريّة هو رسم آليّة عمل العالم، من دون أيّ اكتراث بما يحسّ به الإنسان، لأنّ الإنسان غائب بكل بساطة عن المشهد. هنا، المهم هو الجحيم، المهم هو النّظام، المهم هو وطأة الحياة القاسية، أما الضحايا فمتماثلون، لذا يصلح صوتٌ أوحد لتمثيلهم جميعاً. من بين جميع شخصيّات «عطارد»، لن نجد شخصيّة «إنسانيّة». ربما كان الاستثناء الوحيد هو «إنسال»، ومع هذا لا يترك له اسمه فسحةً كبيرةً للنجاة. الإنسال هو أحد تعريبات الروبوت. حتى الإنسان في جحيم «عطارد» إنسال ليس أكثر.
ما تعاني منه الرواية فعلياً هو عدم ارتباط النوفيلات الثلاث فيها. يكاد يكون الرابط بين شخصيات عامي 2011 و2025 غير قابل للتصديق، أما فصل صخر الخزرجي فلم يكن موفقاً، إذ بدا ناشزاً بقوّة عن جسد الكتاب. ليس الكمّ المعرفيّ وحده ما أثقل العمل. ثمة مفاصل كثيرة بدت وكأنّها أرهقت كاتبها فاختار أسهل الحلول للتخلّص منها، كما في احتلال فرسان مالطا الذي انسحب لمجرّد أنّه أراد الانسحاب، أو لأنّ الكاتب لم يجد له مكاناً في المرحلة التالية من الأحداث. ولكن، ما أنقذ الرواية من الانهيار برغم تخلخل أعمدتها هو براعة كاتبها ورشاقة لغته وقدرته المدهشة على جذب القارئ بإيقاع مدروس، يتسارع ويتباطأ بحسب مشيئة خالق هذا العمل المركّب. محمد ربيع رقم صعب راسخٌ بقوة في أرض الرواية العربيّة، وروايته «عطارد» إحدى أهم الروايات العربيّة. ولكنّ الأهم لا يعني الأجمل دوماً.
تحميل رواية عطارد ل محمد ربيع
اسم الكتاب :عطارد
اسم الكاتب :محمد ربيع
الرابط الأول
الرابط الثاني
صفحات سورية ليست مسؤولة عن هذا الملف، وليست الجهة التي قامت برفعه، اننا فقط نوفر معلومات لمتصفحي موقعنا حول أفضل الكتب الموجودة على الأنترنت
كتب عربية، روايات عربية، تنزيل كتب، تحميل كتب، تحميل كتب عربية.