عفوا مانديلا نحن غير
منذر خدام
في رسالة وجهها نيلسون مانديلا، المناضل الإنساني والتاريخي ضد الفصل العنصري، والرمز الأبرز للتحرر منه، والرئيس الأسبق لجنوب أفريقا، إلى الثوار العرب، تمثل درساً ليس في السياسة فقط، بل في الأخلاق أيضاً. يبدأ مانديلا رسالته بالاعتذار عن ” الخوض” في شؤوننا الخاصة، ويطلب السماح له إن كان يدس أنفه فيما ” لا ينبغي ” أن يُقحَم فيه، لكنه هو “الوفاء” للمساندة التي حصل عليها من الشعوب العربية أيام ” قراع الفصل العنصري” يملي عليه ” واجب النصح” ورد ” الجميل” وإن بإبداء رأي ” محصته التجارب، وعجنته الأيام، وأنضجته السجون”. لقد كان هم مانديلا رغم هول الظلم الذي وقع على شعبه، وعليه هو بالذات، ليس الثأر، بل كيف سيتعامل مع ” إرث الظلم ” ليقيم مكانه ” عدلاً “، لإدراكه العميق بأن إقامة ” العدل أصعب بكثير من هدم الظلم”، وان ” الهدم ” أسهل بكثير من ” البناء “، الأول فعل سلبي، أما الثاني فهو فعل إيجابي. وحتى لا يبدو وكأنه يعطينا درساً متعاليا في الحكمة، فهو يقتبس عن حسن الترابي الزعيم الإسلامي السوداني المجتهد والمتنور قوله الصائب ” إن إحقاق الحق أصعب بكثير من إبطال الباطل”. نعم إن إحقاق الحق أصعب بكثير من إبطال الباطل، ولذلك لم يفعل مانديلا مثل ما يفعله كثير من ” ثوارنا” الأشاوس بتأسيس السياسة على الكراهية، التي لا تقبل أقل من اجتثاث الخصم كما حصل في العراق، ولا أقل من إعدامه كما يحصل اليوم في ليبيا وسورية. المسألة بالنسبة لمانديلا ورفاقه لم تكن ثأرا شخصياً، بل بحثاً عن جواب وطني للسؤال المتعلق بكيفية تجاوز الكراهية إلى المسامحة، ومن ثم التعاون والعمل المشترك، لأن المسألة برمتها تخص الوطن والأجيال القادمة، وبالتالي لا يجوز بحسب رأيه تثقيل المستقبل بأوزار الماضي.
حقيقة يشعر المرء، وهو يقرأ رسالة مانديلا كم هو حزين لكون ” تفاصيل الجدل السياسي اليومي في مصر وتونس(وغيرهما) تشي بأن معظم الوقت يتم هدره في سب وشتم كل من كانت له صلة تعاون مع النظامين البائدين..”. ويا ليت الأمر يا سيد مانديلا يقف عند حدود ” السب والشتم “، بل صارت ملاحقة أنصار الأنظمة السابقة، وتصفيتهم، أو سجنهم، تمثل الشغل الشاغل “للثوار” ليس فقط في مصر وتونس بل في الدول العربية الأخرى. كم دفع الشعب العراقي من أثمان باهظة جراء سياسة ” اجتثاث البعث “، وكم يدفع السوريون اليوم ثمنا باهظا جراء رفض الحوار من قبل النظام والمعارضة على حد سواء ، وعدم قبول أيا من الطرفين بأقل من إسقاط الطرف الآخر بالسلاح واجتثاثه وتصفيته بكل ” أركانه ورموزه وقواعده” . لقد صدقت يا سيد مانديلا في ملاحظتك بأن الاتجاه العام عندنا يميل إلى ” استثناء وتبكيت كل من كانت له صلة قريبة أو بعيدة بالأنظمة السابقة ” واعتبارك ذلك ” أمراً خاطئاً “. مرة أخرى أقول يا ليت الأمر يقف عند هذا الحد بل تعداه إلى السجن والتصفية أو التهجير، ففي سورية حتى قبل استلام السلطة يجري التعامل، ليس فقط مع أنصار النظام، بل مع ما يفترض أنهم في الخندق الواحد بالقمع وصولا إلى التصفية.
الثورة، بحسب مانديلا، لا يمكن أن تنتصر ” بالتشفي والإقصاء “، ويطلب منا أن نتذكر أن ” أتباع النظام السابق في النهاية مواطنون ينتمون إلى هذا البلد، فاحتواؤهم ومسامحتهم هي أكبر هدية للبلاد في هذه المرحلة، ولا يمكن جمعهم ورميهم في البحر أو تحييدهم نهائياً “… وأكثر من ذلك يضيف مانديلاً ” إالموضوعن لهم الحق في التعبير عن أنفسهم، وهو حق ينبغي أن يكون احترامه من أبجديات الثورة”. عذرا مانديلا، حقيقة أنت غير ونحن غير، نحن محكومون بثنائية ” الكفر والإيمان” بما فيها من نفي للأخر المختلف، وأنت محكوم بـ ” أعطوا لقيصر ما لقيصر، وأعطوا لله ما لله”، عندنا الكل وكلاء عن الله في أرضه، في حين أنت تجاوزت ” ما لله ” إلى أعطوا كل شيء للإنسان لكي يحافظ على إنسانيته، لأنه في هذه الحالة وحدها يستطيع أن يعطي له ولغيره ولله ما لهما عليه.
وإذا كان الهدف من انتصار الثورة أي ثورة، هو خلق أفق جديد للإنسان يتجاوز من خلاله ما كانه في النظام القديم، فعليه، إذاً، أن يتصرف بدلالة هذا الهدف المركزي.هنا يقدم مانديلا للثوار العرب، درسا سياسياً بليغا يقول فيه ” أنا أتفهم الأسى الذي يعتصر قلوبكم، واعرف أن مرارة الظلم ماثلة، إلا أنني أرى أن استهداف هذا القطاع الواسع من مجتمعكم قد يسبب للثورة متاعب خطيرة “، ويتابع مانديلا قائلاً قد يدفع ذلك مؤيدو النظام السابق ” إلى أن يكون إجهاض الثورة أهم هدف لهم في المرحلة التي تتميز بالهشاشة الأمنية وغياب التوازن “. ويختم مانديلا نصحيته بالقول ” انتم في غنى عن ذلك ، أحبتي”. أقول لك يا سيدي مرة أخرى أنت غير، ونحن غير، كنت قد “أسمعت لو ناديت حيا”، بالحب لا بالكراهية.
نعم ” إن النظر إلى المستقبل والتعامل معه بواقعية أهم بكثير من الوقوف عند تفاصيل الماضي المرير”، هو الدرس البليغ الذي تقدمه للثوار العرب، لكن المشكلة عندنا يا سيد مانديلا، أننا لا نرى المستقبل إلا من خلال الماضي، ويا ليت بدروسه وعبره، بل بكل تفاصيله، إنها الأصالة، ألسنا قوم “النقل والعنعنة” .
وإذ يؤكد مانديلا على نجاح سياسة ” الحقيقة والمصالحة” التي اتبعها في بلاده، وينصحنا بإتباعها لكونها ذات طبيعة عامة، فإننا بهذه الطريقة، بحسب مانديلا، سوف نرسل” رسائل اطمئنان إلى المجتمع الملتف حول الدكتاتوريات، وأن لا خوف على مستقبلهم في ظل الديمقراطية والثورة”، لأن المجتمع في النهاية ” لن ينتخب إلا من ساهم في ميلاد حريته”. ويتمنى علينا مانديلا في ختام رسالته أن نستحضر قول نبينا ” اذهبوا فانتم الطلقاء “، فهل نحن فاعلون؟ لا أعتقد ذلك!!!