عقلية الحرب الأهلية في الجزيرة السورية/ رستم محمود *
هناك شكل من الوعي القومي الكردي يستقر بالتقادم في الجزيرة السورية (أقصى الشمال الشرقي من سورية) يقوم على تصنيف عرب المنطقة نفسها في مجموعتين مغلقتين، فعرب الجزيرة – وفق ذلك الوعي القومي الكردي- إما بعثيون موالون للنظام، غالبيتهم المطلقة مكونة من الطبقة الاجتماعية العربية المدينية المستقرة والمنتشرة في مؤسسات الدولة، ومطعمة بعدد من زعماء العشائر العرب و»حاشيتهم». والقسم الآخر من عرب الجزيرة هم المعارضون الراديكاليون، الذين انخرطوا في الجماعات المسلحة المتطرفة، وعرب الجزيرة هم تلك المجموعتين فحسب. القاسم المشترك بين هاتين المجموعتين -دائماً وفق ذلك الوعي- أنه لا يمكن بناء مساحة مشتركة مع أي منهما، فكلاهما خطر حقيقي ومباشر على الوجود الكردي في الجزيرة السورية؛ الأولون لأنهم أُس النزعة القومية العربية البعثية الفاشية، التي نال منها الأكراد كل عذابات العقود الأليمة من عمر الدولة السورية، والآخرون لا يخفون مطامعهم بالهجوم على المناطق الكردية، لتعنيفهم وكسر إرادتهم وفرض أشكال جديدة من الاستعباد عليهم.
ثمة ذهن قومي عربي مقابل ومواز لذلك تماماً، يقوم أيضاً على التوزيع الكلي لأكراد الجزيرة، ومعهم كل أكراد سورية، على مجموعتين مغلقتين. فالأكراد -وفق ذلك الذهن القومي العربي- إما موالون لحزب العمال الكردستاني وجناحه السوري حزب الاتحاد الديموقراطي، ومنخرطون في قوات حماية الشعب YPG، وهم بذلك جهة رديفة ومساندة للنظام السوري وحربه ضد «العرب السنة» في البلاد. المجموعة الأخرى من الأكراد السوريين، هم من الموالين لإقليم كردستان العراق، خصوصاً رئيسه مسعود برزاني، هؤلاء وفق ذلك التصنيف، خطر استراتيجي على مستقبل البلاد وهويتها العروبية، لأنهم يعمقون ويستلهمون المشروع والنموذج الكردي العراقي، الذي يسعى للاستقلال كحد نهائي لطموحاته. لذا – وفقهم – لا يمكن الثقة وإيجاد أية مساحة اتصال بأي فصيل سياسي كردي، وبالأكراد عموماً وإجمالاً، فالمجتمع الكردي برأيهم مسيس للغاية، ويخضع في شكل آلي لقرارات ممثليه السياسيين، لذا فالأكراد خطر داهم.
باختصار، نحن أمام خيالين ذهنيان نموذجيين للحرب والتصارع الأهلي. فكل منهما لا ينقصه النقاء والثقة بالنفس والحدة والانغلاق والتوصيف التهويلي والنهائي للجماعة الأخرى. هذه السمات التي كانت خلفية دائمة لكل الصراعات الأهلية في العصور الحديثة، فليس سوى العنف من أداة لأي معضلة، طالما ليس ضمن الجماعة الأخرى أية نسبة سكانية أو نزعة سياسية أو مساحة مشتركة، يمكن البناء عليها بشكل ما، لتفادي آلية العنف في حل التناقضات التي تنتاب الحقوق والعيش المشترك.
لكن الذهنيتين تبدوان في العمق كأنهما ذهن واحد، بما تحملانه من آليات وأدوات وسياقات في التفكير، تنطلق منه وتستقر عنده، بخواء وميل الى العنف.
كلاهما تنميطي، يبتغي حصر كتل مجتمعية متطيفة في حيز محصور فحسب. فلا يهتم إلا بالبعد السياسي والنزعة الإيديولوجية في المجتمع، لا يرى التفاصيل ولا يبالي بالتركيب، يتساوى فلاح عربي وعائلته المدقعة، ينحدرون من أدنى سلم المعيشة الحياتي، ليس له انشغال إلا بالتأمين الصعب لرمق العيش، مع قيادي بعثي فاسد ومؤدلج. كما يتساوى التاجر الكردي المنخرط في دورة الحياة بشكل حيوي نشط، يوالي مصالحه المجتمعية والاقتصادية، مع قوموي كردي عصبوي مؤدلج ومعزول ويعتاش على نزعته تلك. في هذا التنميط تختفي الأبعاد الاقتصادية والطبقية والمعرفية والمناطقية والاجتماعية وعلاقات القربى والتجاور والتعايش المديدة، تلك الأبعاد والمسارات البالغة الحيوية والنشاط في تحديد انتماءات وهويات وميول وخيارات البشر، وبالذات في حيزها السياسي. مع ذلك التنميط، لا يغدو «الكردي» إلا مجرد كائن سياسي مؤدلج، وكذلك العربي في الذهن المقابل.
كما أن ذلك الذهن تبريري توظيفي، يصدر عموماً من جهات وينتشر عبر تنظيمات تتوخى تأسيس «عدو وظيفي» تستطيع عبره شرعنة سلوكاتها ومنح الحيوية لنزعاتها. فيشترك في ذلك، كل من النزعة القومية العربية التي فقدت شكل شرعيتها عبر أفعال النظام البعثي الراهن، وكذلك التنظيمات الراديكالية الإسلامية العابرة للحدود في ريف الجزيرة السورية، التي لا تستطيع بناء أي تبرير متكامل حول أسباب هجماتها على الريف الكردي الطرفي، مقابل تركها ساحة الصراع المركزية في مواجهة النظام. فليس لهذين سوى «العدو» الوظيفي الكردي وأبلسته، لبناء منظومة تبريرية للحفاظ على نفسيهما. في المقابل، فإن النخبة القومية الكردية التقليدية، بعدما فقدت أي أداة وكل حيوية لإعادة الاعتبار لدورها في المجتمع الكردي السوري، بعدما هتكتها خلافاتها الشخصية وأنانيتها وطبيعة خطابها الماضوية، لا تستطيع التغلب على الحاجز بينها وبين تطلعات الأجيال الأحدث من الأكراد السوريين، إلا بمثل ذلك الاستخدام التوظيفي لـ «عدو مقابل». على المنوال نفسه، تحتاج النزعة العسكرية القومية الكردية الصاعدة لذلك التسعير، طالما لا تملك المقدرة على بناء تبرير مناسب لموقفها من الثورة والنظام ومحاولاتها المستميتة للتحكم بالمجتمع الكردي السوري ومصادرة قراراته.
أهم سمات الخواء في ذلك الذهن، هو سطحيته. فهو بالغ الانشغال بالمباشر والظاهر والمتوافر من الشأن. يرى في كثير من العرب موالاتهم للتنظيمات الراديكالية، ولا يرى حجم العنف الأرعن والمفتوح والمحض الذي مورس عليهم. ويرى في جزء آخر من عرب الجزيرة انتماءهم لحزب البعث ذي النزعة القومية العروبية الفاشية، ولا يريد أن يفهم شكل الدولة ونظام الحكم الذي كان، الذي ربط كل أشكال الحياة والتحصيل بآلته الأمنية ومؤسساته الحديدية التي كللها بالتكاذب والنفاق وشراء الذمم. لا يسعى ذلك الذهن نحو التفكير بالأشياء في حالتها الطبيعية، فهو سعيد بما هي عليه في راهنها الاستثنائي. كما أن ذلك الذهن يرى في الكردي ولاءه وارتباطه بالقيادة الكردية في كردستان العراق، ولا يعي حجم التفتيت الكلي الذي أصاب «الوطنية السورية» منذ قرابة نصف قرن، وأن ما يخص الأكراد في هذا الاتجاه، يخص غيرهم من السوريين بأشكال مضاعفة. يرى في الأكراد قلقهم وعدم انخراطهم التام في متن الثورة، ولا يريد أن يعترف بحجج اللاثقة والحذر بهم ومنهم من جميع أطياف العمل السياسي السوري.
تستحق الجزيرة السورية بتنوعها المجتمعي أن تكون مكاناً مثالياً لتحقق آمال السوريين بالتعايش الحيوي، إن لم يتوافر ذلك، فإن أهلها لا يستحقون أن يكونوا ضحايا بعض ذويهم «غير الحكماء».
* كاتب سوري
الحياة