عقم الفعل الأخلاقي
موسى برهومة *
عندما قال الفيلسوف الألماني كانط: «شيئان يملآن قلبي بالإعجاب: السماء المرصعة بالنجوم فوقي، والقانون الأخلاقي في أعماقي»، كان يصدر عن وعي عميق، وإدراك بصير بما ينبغي أن يكون عليه الفعل الأخلاقي، بما هو جسر للعبور نحو الخير والسعادة وإقامة العدل.
وبتوضيح ما ذهب إليه كانط، فإننا نرى الظلالَ المفاهيمية لرؤيته الأخلاقية التي تقوم على عالميْ الظواهر، وعالم الأشياء في ذاتها، إذ إنه لا يقيم وزناً للعالم الأول: الظواهر، وتراه يعوّل فقط على «عالم الأشياء في ذاتها»، لأن الفعل الأخلاقي في هذا العالم يحركه العقل والإحساس العميق بالواجب، بعيداً عن المصلحة، والتوازنات، ومفاهيم الحياد.
ولعل المأساة السورية تجسد هذا الصراع العنيف بين عالميْ الظواهر، وعالم الأشياء في ذاتها. ويكفي أن يتوقف المرء أمام تصريحات المبعوث الأممي الأخضر الإبراهيمي وهو يزهو في التعبير عن حياده وامتداح «تهذيب ودماثة خلق» الرئيس السوري بشار الأسد.
الإبراهيمي قال بحماسة تعلوها ابتسامة الفخار إنه يقف على مسافة واحدة بين الفرقاء في سورية، لأن دوره يحتّم عليه ذلك، وهنا يطل كانط برأسه موبخاً: «افعل طبقاً لقاعدة كلية أو عامة»؛ فالعدل كقاعدة أخلاقية يعني أن لا تظلم غيرك، وأن لا يظلمك غيرك.
ثم، والكلام لكانط، احرصْ أن يكون الفعل غائيّاً، بحيث تعامل الإنسانية «كغاية لا كوسيلة». واحرص، كذلك، أن يكون الفعل ضرورياً، أي «افعل بحيث تجعل إرادتك مشرعاً».
إن سلوك الإبراهيمي والمجتمع العالمي والدول والهيئات والمنظمات تجاه المأساة السورية يصدر عن عالم الظواهر الذي لا ينفذ إلى الضمير الإنساني، ويطلق صيحة الحق، لا سيما وأن خريطة الصراع واضحة منذ البدء: الرصاصة مقابل الصدر الأعزل، والدبابة في مواجهة الاحتجاج السلمي، واقتلاع الحنجرة، وبتر الذكورة في مناهضة الغناء والخصوبة، وكذلك تحطيم الأصابع في مواجهة اللوحة التي تعرّي القاتل، وتكشف هزيمته.
أثمة خريطة أشد سطوعاً من ذلك، و «كيف يحتاج دم بهذا الوضوح إلى معجم طبقي لكي يفهمه»، كما صدح، ذات حزن وانكسار، مظفر النواب؟!
وحتى لو ابتعدنا عما قرره كانط في شأن الفعل الأخلاقي، وتطرفنا نحو مذهب المنفعة، لألفينا أن هذا المذهب يرى أن الفعل يكون خيّراً إن هو قاد إلى منفعة، ويكون شراً إذا أدى إلى ضرر، فهل يختلف اثنان على أن ما يقوم به بشار الأسد «الدمث والمهذب» يضر بالسوريين، ويهدد سكينة البشر الآمنين، ويزرع الشر المتوحش في مفاصل التاريخ والجغرافيا؟!
المأساة السورية تتجلى كشاهد على عقم الفعل الأخلاقي في العالم، حتى أضحت مشاهد الدمار، غير المسبوق أبداً، خبراً تتسابق إليه الفضائيات ووكالات الأنباء… خبراً عارياً من أي حس… خبراً عاجلاً سرعان ما يذوب في ماكينة الحدث، فيغدو سقوط مئتي ضحية صرعى الرصاص والقصف أمراً مألوفاً نتلقاه و «نتقبله»، ونحن نأكل، أو نحتسي القهوة، أو نصرّف أعمالنا، أو نلوك الضجر.
لقد اخشوشنت ضمائرنا، وبهتت مشاعرنا إلى حد مرعب، حتى لم ترعو طائفة من «حراس الظلام» عن زيارة «الوحش» في قصره المحروس بالدبابات والطائرات الروسية، وامتداح شجاعته، وإهدائه عباءة «الصمود والتصدي»، فيما كان يلوّح بيد تقول شكراً لكم لأنكم غسلتموني من دماء شعبي. أعدكم أن أواصل سفك الدماء، وإزهاق الأرواح، وأن أستمر حتى نهاية ولايتي الرئاسية، فإذا لم يختارني الناس رئيساً، فسأفتتح عيادة في دمشق وأعود إلى ممارسة مهنتي في طب العيون!
… ويأتي الخبر العاجل على «العربية» منتصف يوم الجمعة: «سقوط 162 قتيلاً برصاص قوات الأسد». نطالع الخبر باعتياد، ونردد: «لا حول ولا قوة إلا بالله»، ثم نمضي إلى المول للتسوّق!
* كاتب وصحافي أردني
الحياة