“عقيدة أوباما”: من الاستثناء إلى تحصيل الحاصل/حسن منيمنة
لا تستحوذ ملفات السياسة الخارجية على الاهتمام الأول للرئيس الأميركي باراك أوباما، وهو الذي يسعى منذ انتخابه، وإن بمقدار متفاوت من النجاح، إلى تحقيق جملة متشعبة من التغييرات في الشأن الداخلي تصل بمجملها إلى تبديل عميق باتجاه الرؤية التقدمية لدور الدولة القائم على الرعاية والعناية، بعدما كان خصومه الجمهوريون، من وجهة نظر الفريق التقدمي، حبّذوا في الأعوام الماضية طبقة المتمولين على حساب الشرائح الأقل وفرة في البلاد. فالأثر الذي يتمنى أوباما أن يخلّفه في السجل التاريخي لرئاسته هو التأمين الصحي الشامل للجميع والإصلاح الضريبي الذي يلقي بالمزيد من المسؤولية والعبء على الأثرياء ويعفي الأقل ثراءً منها، والنظام التربوي الذي ينصف أبناء المناطق المحرومة فيساويهم من حيث الفرص التعليمية بأبناء المناطق الميسورة، وغيرها من الإصلاحات التي يعتبرها التقدميون شرطاً للعدالة الاجتماعية، فيما يرى فيها المحافظون شعارات شعبوية للتطفل على مجتمع قادر أن يحققها بذاته من دون الهدر والفساد المصاحبين حكماً لخوض الدولة في ما لا يعنيها.
ولكن، على رغم النية الصريحة لأوباما بالتركيز على المعترك الداخلي، وعلى رغم الأزمة الاقتصادية التي استقبلته مطلع عهده وضاعفت الحاجة إلى هذا التركيز، فإنه لاعتبار موضوعي هو كونه رأس الدولة العظمى الوحيدة، وآخر ذاتي كونه أول رئيس أميركي من أصل غير أوروبي أثار انتخابه اهتمام العالم وشغفه، كان لا بد له من إيلاء الشأن الخارجي مقداراً متواصلاً من الاهتمام، وكان لا بد له على مدى أعوامه الستة أو ما يقارب، من تطوير نهج أو «عقيدة» تكون المعيار لاهتمامه هذا بالمسائل المستجدة.
وإذا كان لا بد لأوباما من مبادلة دفء التلقف العالمي لرئاسته بمقدار من الإقرار المبادل، أقلّه من حيث الشكل، فإن تفضيله البديهي مبدئياً وعملياً كان ولا يزال باتجاه التقليل من احتمالات التورط الخارجي. ولا شك في أن هذا التفضيل ينسجم مع الرغبة السائدة في الولايات المتحدة، بغضّ النظر عن توافقه مع المصالح الوطنية في المدى البعيد. فأوباما ورث عن سلفه ملفي الحرب في العراق وأفغانستان، وهمّه الأول في شأنهما كان ولا يزال إغلاقهما بأسرع وقت ممكن. وفرصة إنهاء الحضور الأميركي في العراق كانت أكثر توافراً نتيجة المطالبة الرسمية العراقية بها، وإن لم تكن هذه المطالبة صادقة أو في محلّها من حيث عدم استعداد النظم السياسية والأمنية العراقية لتحمل أعباء الخروج الأميركي. هكذا، أجرى انسحاباً شبه مرتجل من العراق تتبدى عواقبه اليوم. أما في أفغانستان، فتوجب عليه بدلاً من الانسحاب تعزيز القوات استجابة لطلب القيادة العسكرية الأميركية هناك، وإن جاءت استجابته مشروطة عدداً وزماناً.
واستمرت التطورات في فرض نفسها على أوباما مع اندلاع انتفاضات الربيع العربي التي أربكته وفرضت عليه تدخلاً عسكرياً حاول أن يتجنبه في البدء، وهو المشاركة في ضرب الآلة القمعية لمعمر القذافي. والعملية العسكرية الأميركية في ليبيا شكلت إحراجاً لهذا الرئيس الذي أراد أن يكون إنهاء التورط العسكري الخارجي عنواناً لرئاسته. فكانت له بالتالي كلمة في آذار (مارس) ٢٠١١ استدراكية في واقعها، مبدئية في شكلها، يمكن اعتبارها الأولى في سلسلة ثلاث كلمات تشكلت من خلالها «عقيدة أوباما» حول التدخل العسكري الخارجي، في ما يشابه الاستدارة الكاملة.
ففي كلمته الأولى هذه لتفسير قبوله بالتدخل الخارجي، بما يتعارض مع تأكيداته السابقة، أثار أوباما بتوكيد واضح مسألة الاستثنائية الأميركية التي تقتضي من الولايات المتحدة أن توازن بين المصالح والقيم في صوغ قرارها للتدخل الخارجي، مشدداً على أن هذا ما يميز بلاده عن غيرها من الدول، والتي تتصرف بحكم المصلحة فقط. فالولايات المتحدة، وفق تشديده، لا تقبل أن تقف مكتوفة الأيدي عندما ترتكب المجازر والانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان. وإذا كان من شأن هذا الخطاب أن يبرر التدخل في ليبيا، فإنه شكّل في مرحلة لاحقة توريطاً كاد أن يكون محرجاً للرئيس، لو كانت المأساة السورية دخلت الوجدان الأميركي. إذ ما قاله أوباما في شأن ليبيا أمسى منطبقاً على المسألة السورية بامتياز، حيث أمعن النظام بالقتل والمجازر، فيما ثابر أوباما على إيجاد المبررات للامتناع عن أي تدخل، وسط تفاقم مروع للأزمة وتبعاتها، ثم جاء استعمال النظام السلاح الكيماوي في تحدٍّ واضح للخط الأحمر الذي رسمه الرئيس الأميركي.
وإذا كانت كلمة أوباما حول ليبيا عام ٢٠١١ موفقة خطابياً ومتماسكة منطقياً ومبدئياً، فإن كلمته حول سورية في أيلول (سبتمبر) ٢٠١٣ جاءت مفتتة من حيث المزاعم والحجج، إذ أشهرت الاستثنائية الأخلاقية الأميركية التي تفرض التدخل، لتراكم في أعقابها الحجج والمبررات لتأجيله والامتناع عنه.
فكان لا بد بالتالي من انتظار كلمة أوباما التي ألقاها الشهر الماضي في احتفال تخريج الكلية العسكرية في وست بوينت، للوصول إلى صيغة متجانسة تنهي التخبط بين مبدئية وهمية لا الرئيس قادر عليها، ولا هو في ما يبدو راغب فيها، وبين واقع حال عنوانه تجنب التدخل الخارجي إذا كان يعرّض جنوده للخطر (أما الضرب بالطائرات من دون طيار، فمسألة أخرى).
أوباما، وفي استدارة كاملة عن مواقفه السابقة أعلن في وست بوينت عقيدته، وهي تحصيل حاصل قائم في كل عاصمة من عواصم الأرض: حكومته تتدخل عسكرياً في حال تعرض مواطنيها ومصالحها للخطر المباشر، أما الحالات الإنسانية، فمرجعها الأسرة الدولية. والجبل إذاً قد تمخض.
ولكن، ما تعريف الخطر المباشر بالنسبة للرئيس الأميركي؟ ألا يشكل استفحال الأزمة السورية، مع غض النظر المطلق عن جانبها الإنساني الذي يرغب في إحالته على أسرته الدولية، خطراً مباشراً من خلال تأهيل الجيل المقبل من الذين يلقون تبعة مصابهم على بلاده؟ ما هو بعيد عن العين، بعيد عن القلب. وطوبى للاستثنائية.
الحياة