علميون ولكن… إرهابيون/ أحمد دياب
يشير الهجوم الإرهابي الذي نفذته تاشفين مالِك وزوجها في مقاطعة سان برناردينو، في ولاية كاليفورنيا الأميركية في 2 كانون الأول (ديسمبر) الجاري، وأدى إلى مقتل 14 شخصاً وإصابة 17 آخرين، إلى ظاهرة، لا تخلو من المفارقة والدهشة، وهي اعتناق ذوي التخصُّصات العلمية الرفيعة (مهندسون وأطباء وفيزيائيون ومختصون بالمعلوماتية والبرمجيات) للفكر الأصولي وممارسة العمل الإرهابي. فتاشفين مالِك، درست الصيدلة في جامعة بهاء الدين زكريا في باكستان بين عامي 2007 و2012، وبحسب أحد أساتذتها فإنها كانت «طالبة موهوبة» وكانت تتفوق في دراسة الصيدلة.
وتشير الخلفية التعليمية لما يقرب من 43 قيادة بارزة داخل جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، إلى أن 30 شخصاً منهم حاصلون على شهادات جامعية في العلوم الطبيعية، أبرزها الطب والهندسة والعلوم بنسبة تصل إلى 70 في المئة. والعديد من رموز وقيادات التيار السلفي في مصر من دارسي الهندسة والطب والعلوم، فالشيخ فوزي السيد ونبيل الصاوي ومحمد الدبيس ومصطفى العدوي، حاصلون على بكالوريوس الهندسة، ومحمد إسماعيل المقدم وأحمد فريد وسعيد عبدالعظيم وياسر برهامي وأسامة القوصي ومحمد سعيد رسلان وعمر عاشور وعماد عبدالغفور، حاصلون على بكالوريوس الطب، ومحمد نور ومحمد سالم حاصلان على بكالوريوس علوم. ومحمد عبدالمقصود وأشرف ثابت حاصلان على بكالوريوس الزراعة.
من ناحية ثانية، يبدو لافتاً أن كثيرين من قيادات الفكر السلفي الجهادي ذوي تخصصات علمية أيضاً، فزعيم تنظيم «القاعدة» الحالي أيمن الظواهري تخرج في كلية الطب جامعة القاهرة عام 1974، وخالد المساعد أحد مؤسسي العمل المسلح في سيناء هو طبيب أسنان، وقائد «جبهة النصرة» أبو محمد الجولاني هو طالب طب قطع دراسته للالتحاق بـ «القاعدة». وأبو أنس الليبي الذي كان ينتمي إلى «الجماعة الليبية المقاتلة»، ثم انضم إلى تنظيم «القاعدة» عام 1994، كان متخصصاً في مجال المعلوماتية وأنظمة الاتصالات. وأيضاً المغربي سعيد التسولي، الذي عمل في «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين» بقيادة أبو مصعب الزرقاوي، يعد من أخطر خبراء «القاعدة» في المعلوماتية.
كُتب الكثير حول هذه الظاهرة/المفارقة، لكن المفكرين والباحثين الذين تناولوها غالباً ما اكتفوا بوصفها وملاحظتها من دون تقديم تحليل كافٍ وافٍ شافٍ لها. فلا أحد توقف طويلاً عند المسلمات والمنطلقات الأيديولوجية والسوسيولوجية والسيكولوجية التي تقف خلفها:
1- من الطبيعي والمنطقي أن تلجأ الحركات والتنظيمات السياسية والدينية إلى محاولة توظيف العلم والعلماء بقوة لتحقيق أهدافها وغاياتها، لذا، فإن النخب العلمية تصبح هدفاً لمحاولات الاستقطاب والتجنيد لهذه التنظيمات والحركات، سواء لأسباب تتعلق بكون هؤلاء العلماء نخبة أو صفوة متميزة في مجالاتهم، أو لأنهم يمثلون «رأسمالاً اجتماعياً»، نظراً لما يحظون به من هيبة ومكانة، تتعلق بكونهم قدوة في التفوق والنبوغ، والتي تجعل منهم مصدر قوة في دعم «مظهر» و»مكانة» التنظيم أو الجماعة بين الناس، وأداة رئيسية في تعزيز نشر أيديولوجيتها بين الجماهير، وتأكيد وجودها المتميز و»نفاذيتها السياسية» في المجتمع.
2- في المقابل، وجدت دراسات سوسيولوجية وسيكولوجية أن انضمام العلميين إلى الحركات والتنظيمات المتطرفة، ينبع من تراكمات مشاعر «الإحباط». فكثير من هؤلاء غالباً ما يكونون من المتفوقين الذين لا يجدون فرصتهم المناسبة في المجتمع، بسبب شيوع ثقافة الواسطة والمحسوبية وتفشي الفساد وتقديم أهل الثقة على أهل الخبرة، فتتملكهم مشاعر الإحباط والسخط على المجتمع والسلطة السياسية القائمة عليه، لا سيما أن معظم المتفوقين لديهم إحساس عالٍ بالذاتية، ولا نقول النرجسية، التي تجعلهم يتصورون أن المجتمع سيــحملهم على أَكُف الراحة، يقدرهم وينزلهم منازلهم ويمنحهم أكاليل الغار والفخار. وعندما لا يجد هذا الشخص النابغ أو المتــفوق التقــدير المـلائم ولا الفرصة المناسبة، يصبح لقمة سائغة وهدفاً سهلاً لـ «الاستقطاب» و»الاختطاف» من جانب الحركات والتنظيمات الدينية والمتطرفة، والوقوع في براثنها وجرائمها، عبر تقديمها له مبررات ومسوغات شرعية ودينية يغلّف بها رغبة «الانتقام» و»الثأر» التي تعتمل في نفسه تجاه هذا المجتمع وسلطته السياسية.
3- على أن هذا لا ينفي أن هناك علماءً ومهندسين وأطباءً، حياتهم المعيشية مستقرة، لكن تتملكهم رغبة جارفة نحو المغامرة، وبعضهم يجد في الانضمام لحركات ومنظمات متطرفة وإرهابية، طريقاً لتأكيد ذاته، لنفسه وللآخرين، وقدرته على امتلاك مهارات، مثل صناعة القنابل، ومثل هؤلاء في الحقيقة مرضى، أو مهتزون نفسياً، وإن لم يظهر ذلك عليهم بالضرورة. وهم مختطفون – ذهنياً – من مجموعة قيادية، قد تكون أدنى منهم تعليماً وفهماً، استطاعت أن تبث في عقولهم، أفكاراً غلّفتها بتفسيرات دينية، مستغلة توجهاتهم الدينية، فتسلطت على عقولهم، واستطاعت التحكم في تصرفاتهم وتحركاتهم.
4- ثمة حقيقة أخرى تشير إلى أن العلماء والأطباء والمهندسين، بسبب ضيق وقتهم وطبيعة تخصصهم العلمي الضيق والبحت، لم يعد لديهم الوقت أبداً ليقرأوا القرآن أو كتب الحديث النبوي الكبرى في متونها الأصلية، ولا يخطر في بالهم أن يتساءلوا عن كيفية وظروف تشكل التركيبة الاجتماعية والتاريخية للشريعة الإسلامية. وهم أيضاً لا يعبأون بِعِلم تأويل النصوص الدينية، ولا بتفسيرها بطريقة عقلانية نقدية حديثة. كما لا يعبأون بعلم التاريخ، أي موضعة التراث الإسلامي داخل منظور تاريخي. ولا يخطر في بال هؤلاء أيضاً أن يقرأوا كتاباً في الفلسفة أو أن يلقوا على الأمور نظرة التأمُّلات الفلسفية العميقة.
5- حين يلتقي التطرف الديني مع التطرف العلمي في شخص واحد، يترتب على ذلك مزيج من التفكير ورؤى للعالم متعصبة في اعتمادها على الدين أكثر من ارتباطها بالعلم. فإن العلماء غالباً ما يكونون أفراداً ذوي «بعد واحد»، باستعارة تعبير الفيلسوف الأميركي، الألماني الأصل، هربرت ماركوزه، ينظرون إلى المواقف والظواهر والأشياء لا نظرة جزئية/ نسبية، بل نظرة شمولية/ كلية، تتوزع ألوانها ما بين الأبيض والأسود ولا ثالث لهما، وتتحدد مواقفها وآراؤها ما بين «مع» أو «ضد». وبلغة العلم والمنطق، فإن نظرتهم تختزل الظواهر والمواقف في قضايا منطقية ينبغي أن تأتي نتائجها مطابقة لمقدماتها، ومعادلات حسابية ينبغي أن يأتي برهانها مطابقاً لمعطياتها. ولا ننسى أن نظام التعليم القائم حالياً على التلقين، في معظم الدول العربية والإسلامية، لا يهيئ عقلية الطالب من البداية للحوار والنقاش وإعمال العقل. كما إن إعداد طلاب التخصصات العلمية لا يتضمن طيلة سنوات تعليمهم مقرراً دراسياً واحداً يتعلق بالمنطق أو الفلسفة أو تاريخ الفكر أو ما إلى ذلك من موضوعات تحمل شبهة تعليم المنهج العلمي أو الإشارة إلى نسبية الحقيقة.
* كاتب مصري
الحياة