صفحات سوريةفايز ساره

على أبواب العام الثالث للثورة.. الوضع السوري من الاختلاف الى الوحدة

 

فايز سارة

عند استعادة الشعارات الاولى للثورة السورية، فان قدرا طافحا من روح الوحدة السورية يظهر فيها، وهذا ما عبرت عنه شعارات التضامن بين ومع المدن والبلدات التي ترددت صداها من شمال سوريا الى جنوبها ومن الشرق الى غرب البلاد على ساحل المتوسط مروراً بالقلب السوري الممتد بين حمص ودمشق، وقد تناغمت نداءات التضامن مع هتاف ما زالت ترن كلماته في العميق من روح السوريين: واحد واحد واحد الشعب السوري واحد.

ولأن ترداد هذه الشعارات استمر بكل زخم خلال الاشهر الاولى للثورة، فان تردادها اخذ يخف وصار صوت اصحابها اقل زخماً، واضعف قوة، والسبب الرئيس في ذلك سياسات الدم والدمار التي تابعها النظام ضد الثورة وضد اصحاب تلك الشعارات، لأنها لا تتناقض مع رغبته المؤكدة في وقف التظاهر حيث تطلق الشعارات فقط، بل لأنها تتناقض مع سياسات كرسها العهد البعثي منذ الاستيلاء على السلطة عام 1963 في تقسيم السوريين، وتشتتهم الاثني والديني والطائفي والمناطقي خلافاً لكل الشعارات والمقولات الفارغة، التي رفعها النظام حول الوحدة الوطنية.

غير ان سياسات النظام في عمليات القتل والدمار وفي الحملات الدعائية والاعلام ضد الثورة، لم تكن كافية للتحول في شعارات التضامن والوحدة السورية، لو لم تكن لدى السوريين عوامل اخرى مساعدة لعبت دورها في دفع روح الثورة وشعاراتها شيئاً فشيئاً الى الاهتمامات الخلفية، او تقدم شعارات اخرى لتحل مكانها سواء في التظاهرات، او في السياسة، وفي هذا يمكن الاشارة الى ثلاثة من الاسباب المساعدة:

السبب الاول ضعف الاندماج الوطني في سوريا، وهو سبب يتعلق بمستوى التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد، حيث مازالت علاقات السوريين ببعضهم، ومعرفتهم عن بعضهم محدودة، بل هي لاتخلو من معلومات غير صحيحة وربما كاذبة في كثير من الاحيان، ولعل الاهم في مؤشرات ذلك ان كثيرا من السوريين يؤكدون فضل الثورة في تعرفهم على اسماء مدن وبلدات سورية كثيرة خلال الثورة ما كانوا يعرفونها قبل ذلك، كما ان كثير من السوريين، ليست لديهم معرفة كافية مثلا عن محافظات مثل السويداء والحسكة والرقة وربما ادلب ايضاً، ومعظم السوريين لديهم جهل بطوائف اسلامية ومسيحية تعيش في قلب الوطن السوري، بل كثيرون لديهم صور مشوهة عن عقائد وايمانات سوريين آخرين.

السبب الثاني ضعف مستوى قوة ونضوج النخبة السورية، والامر في هذا لا يتعلق بالنخبة السياسية فقط، وانما بالاقسام الاخرى من النخبة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ففي الاقتصاد وان وجدنا كثيراً من اصحاب رؤوس الاموال وارباب المشاريع والمستثمرين، فان هؤلاء معزولون عن بيئاتهم عزلاً يكاد يكون كاملاً، وروابطهم في الاغلب الاعم مع اركان في النظام وهي روابط تبعية ونفعية لاتتعدى ذلك، وهم يعيشون في عوالم اخرى مفصولة عن العوالم المحيطة بهم، بل هم غالباً ما يحيطون انفسهم واعمالهم وثرواتهم بنطاق سميك من السرية. حتي في الحالات التي يضطر بعضهم للظهور، فان اغلب ظهورهم يكون محدوداً، لا يجعلهم في دائرة الضوء.

ويتقارب وضع النخبة الثقافية في هامشيتها وضعفها مع وضع النخبة الاقتصادية. ليس فقط بسبب ضعف بنياتها الفكرية والابداعية، وهو امر مفهوم في بلد شمولي مغلق، بالاضافة الى اساليب الاخضاع والتدجين التي تمارس عليهم وعلى نتاجهم وحركتهم وعلاقاتهم، وكلها مرصودة عبرمنظومة رقابية تتمثل بوزارة الاعلام وادارية تتمثل باتحادي الكتاب والصحافيين وامنية تتصل بكل الاجهزة الامنية، وبالتأكيد فإن اي مسعى لتكوين شخصية ثقافية مستقلة وذات بعد اجتماعي، كان يقابل بحصار ونبذ ومحاربة بكل السبل بما في ذلك المنع والنفي والاعتقال.

ولا يقل الوضع سوءاً وتردياً عما سبق بالنسبة للنخبة الاجتماعية. ذلك وان اضطر النظام الى خلق واظهار ملامح لنخبة اقتصادية وثقافية، فقد منع ظهور نخبة اجتماعية، لانه صادر حق المجتمع بالتعبير عن نفسه وقضاياه، وسمح فقط بوجود تعبيرات ومؤسسات اجتماعية مثل الاتحادات والنقابات هدفها خدمة سياساته في القبض على المجتمع واخضاعه للنظام السياسي والامني، وفي النادر ما يتذكر السوريون اسماء القادة في منظمات سورية تضم مئات الآف الاشخاص مثل اتحادات العمال والفلاحين والنساء، ومثل ذلك في نقابات مهمة منها نقابات المحامين والاطباء والمهندسين وغيرهم، لان كل واحد من هؤلاء ليس اكثر من موظف تغيب شخصيته عندما ينتهي من وظيفته ومهمته.

والسبب الثالث، يمثله واقع المعارضة السورية. اذا هي معارضة ضعيفة ومنقسمة، ولديها كثير من المشكلات السياسية والتنظيمية والادارية، وكلها امور مفهومة في ظل خصوصيات حياة الجماعات السياسية في الداخل السوري، والتي قوبلت بسياسات واجراءات همشت الحياة السياسية في البلاد من خلال مقاومتها لفكر سياسي حر ومستقل يخرج عن اطار فكر النظام، كما منعت ظهور نخبة سياسية، بل انها همشت ودمرت شخصيات سياسية سورية، كانت حاضرة قبل مجيء البعث الى السلطة عام 1963، وحاصرت ولاحقت بالاعتقال والقتل احياناً زعماء وكادرات واعضاء جماعات سياسية، وهذا كله ادى الى ضعف موضوعي، ثم ذاتي في الجماعات السياسية السورية وانقسام في صفوفها نتيجة الحياة السرية التي عاشت فيها، وهو امر تكرس نمطاً في العمل السياسي في صفوف تلك الجماعات، لانه وبعد سنوات من امكانية العمل العلني كأمر واقع عند تلك الجماعات في العقد الماضي فانها اميل الى عمل سري، وهذا لم يسمح لها بتجديد بناها واساليب عملها وعلاقاتها الداخلية من جهة وعلاقاتها البينية من جهة اخرى، بل نقلها من شروط في ازمتها الى شروط اخرى دون تحقيق اي تقدم تستفيد من المتغيرات الجديدة. ويمكن القول، ان الامر لم يكن افضل بالنسبة للجماعات السياسية السورية، التي انتقلت الى المنفى في العهد البعثي المديد، او تلك التي اقامت لها تنظيمات جديدة او فروع لتنظيمات في الداخل، وكلها لديها نفس الامراض والمشاكل تقريباً والعجز عن القيام بمسؤولياتها والسير نحو تحقيق اهدافها.

ان المثال البارز في معضلة المعارضة وجماعاتها السياسية، يكشفه الى حد كبير واقع التحالفين الرئيسيين فيها، هيئة التنسيق الوطنية التي مقرها دمشق، والمجلس الوطني ومقره استانبول، وقد كشفت مسيرة عام ونصف من ممارستهما غرقهما في الصراعات والتناقضات الداخلية والبينية، واعتمادهما الشعارات خارج العمل المثمر، وعجزهما المشترك في وضع برامج سياسية واتخاذ خطوات اجرائية من شأنها اثبات وجودهما في الحياة السورية، وتقدمهما او احدهما لقيادة الثورة، التي علقت امالها عليهما ولو بقدر متفاوت من اجل الوصول بالثورة الى اهدافها في اسقاط النظام وبناء نظام ديمقراطي، يوفر الحرية والكرامة والعدالة والمساواة للسوريين.

لقد دفعت الاسباب السابقة، الى تراجع شعارات التضامن بين ومع المدن والبلدات السورية، ودفعت الى الخلف بشعارات عبرت عن وحدة السوريين، او خففت من ظهور تلك الشعارات، وحولت التظاهرات الى حضور رمزي بعد ان كانت وسيلة اساسية للاحتجاج ومقاومة النظام، بل ان تلك الاسباب ساهمت في الدفع نحو تحولات اعمق في واقع الثورة السورية ولاسيما في اتجاهين مكملين لمحدودية التظاهر ولتراجع شعارات التضامن والوحدة السورية، وهما انبعاث نزعات دينية طائفية وقومية في صفوف الثورة، ثم ظهور تشكيلات عسكرية مؤسسة على تلك النزعات، وهذه هي الاخطر.

غير انه ورغم التطورات الاخيرة بما فيها من مخاطر على الثورة ووحدة السوريين، فانه لايجوز المغالاة في تقدير تلك الاخطار، والاساسي في ذلك ان هذه التطورات جاءت في ظروف صعبة واستثنائية، وهي ظروف الدم والدمار السوريين، وفي ظل الاهمال الدولي لما يتواصل من فصول في كارثة مدمرة في وقت تدعم فيه قوى متعددة وحشية النظام، وتعجز فيه المعارضة عن تحقيق وحدتها وتقدمها نحو فتح ابواب امام حلول ومعالجات تساعد في انتصار الثورة، ولا شك ان تغيير تلك الظروف سوف يخفف من تلك المخاطر، بل انه سوف يجعل السوريين اقرب الى الوحدة واكثر قدرة على معالجة وتصفية كل السلبيات والدمارات التي لحقت بحياتهم ووطنهم.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى