صفحات العالم

على حدود عكار – سوريا: لا نسمع إلا أزيز الرصاص


كلير شكر

يدخل موكب العرس إلى قرية الدبابية العكارية، المحاذية للحدود اللبنانية – السورية، بخجل.

يخشى السائقون إطلاق العنان لـ”الزمامير” تعبيراً عن الفرح والبهجة، كما هي العادة، فالأخبار التي وصلتهم تنذر بالخوف من المجهول، لا بل بالأحرى من قذائف عابرة للحدود. قلّة هي السيارات التي تطوعت من جانب أهل العريس، كي تقصد بلدة العروس، لمرافقتها إلى الكنيسة حيث ستُصار الذبيحة الآلهية، كما تقتضي العادات اللبنانية القديمة، بسبب الكلام المتداول بين الأهالي حول الخطر الذي يحدق بالبلدة من الجانب السوري.

قبل الوصول إلى الدبابية، البلدة المسيحية، يعبُر الموكب الكثير من القرى العكارية المتداخلة جغرافياً، ومذهبياً. يكاد يكون هذا القضاء الشمالي، من أكثر المساحات اللبنانية اختلاطاً للسكان، وحرصاً على العيش المشترك، فعلاً لا قولاً. وحده وجود المسجد، أو الكنيسة، دليلك إلى هوية البلدة التي تعبرها، وإلا فإنك لن تعرف أبداً ما هو انتماء أهلها.

إنها ساعات بعد الظهر، الحركة طبيعية على الطريق التي تصل حلبا، مركز القضاء، بفروعها المتناثرة يمنة ويسرة، وكأنّ ما يصلك بالإعلام عن توتر في أجواء المنطقة، لا يشبه الواقع أبداً: لا سلاح بادياً في الأيدي، ولا مقاتلين على الطرقات، ولا حواجز عسكرية غريبة.

في القرى الحدودية، المتاخمة للنهر الكبير، لا يختلف الوضع: صبية يلعبون بين الأزقة، رجال يتسامرون على “السطيحة”، ونسوة يتولين الحياكة في الهواء الطلق.

إلى الدبابية تسبقك الرهبة. تلك البلدة الوادعة، الملاصقة للنهر الكبير، ليلها لا يشبه نهارها أبداً. قبل أيام، طالتها قذائف النظام السوري بشكل مباشر، لتصيب بعضاً من بيوتها، وتزرع الخوف في نفوس سكانها. بعد تلك الحادثة تغيّرت عادات الأهالي: ينزحون ليلاً عن بيوتهم ويتركون كل ما فيها من محتويات وذكريات لمصير صعب، ليعودوا نهاراً. وهناك منهم من غادرها كلياً خوفاً على حياته، وتركها للأشباح.

تقول إحدى النسوة التي تحمل طفلها على يديها، إنّ “أحوال الدبابية انقلبت رأساً على عقب، منذ صارت هدفاً للقصف السوري الكثيف ليلاً، متتبعاً آثار “الجيش السوري الحر” الذي تتنقل عناصره بين الأحراج”.

تؤكد السيدة أن “السكان لا يلمحون المقاتلين في أحيائهم، إنما يرصدون أقدامهم في السهول المحيطة وفي الطرقات البعيدة عن قلب البلدة، إلى جانب مظاريف الرصاص الفارغة “، مشيرةً  إلى أنّ القصف “يبدأ ليلاً وينتهي مع طلوع الفجر، ويستهدف عادة الحقول والأحراج، لكنه في بعض الحالات لا يوفر البيوت، ما اضطر أهلها إلى تركها ليلاً بحثاً عن ملجأ آمن”.

من تحمله أعصابه على الصمود في القرية، في إمكانه أن يسمع ليلاً صوت الرصاص ينطلق من الجانب اللبناني، والرد الصاروخي عليه من الجانب السوري.

تتدخل سيّدة أخرى، لتكمل ما بدأته جارتها، وتضيف أنّ “البلدة لم تشهد أبداً قتالاً في شوارعها، وبأنّ الخوف يكتنف أهلها من إمكانية تدخل عسكري مباشر قد يقدم عليه الجيش السوري النظامي إذا تفاقمت الأوضاع بشكل دراماتيكي. لكنّ إصرار الأهالي على الصمود يدفعهم إلى مواجهة الخطر والتوجه إلى حقولهم لقطف الثمار والانتاج الزراعي، لا سيما وأنّنا في عزّ الموسم، على الرغم من كل الصعاب”.

تشير السيّدة الأربعينية إلى أن “الحدود السورية على مسافة “أمتار” من البلدة حيث في إمكان الأهالي أن يصرخوا بصوت عالٍ، وأن يسمعهم مواطنون سوريون من الجانب الآخر… “ولكن راهناً لا نسمع إلا أزيز الرصاص”.

أما في منزل العروس، فالموسيقى تعيد الحياة إلى طبيعتها، تحملك إلى عالم آخر، لا رائحة الموت تخرقه ولا صوت القتال يتسلل إليه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى