على ماذا يراهن بشار الأسد؟
عيسى الشعيبي
ليس من قبيل الصدفة وحدها أن تستضيف أكثر من محطة إذاعية وقناة تلفزيونية، عربية وأجنبية، محللين في علم النفس، إلى جانب نظراء لهم في علوم الاقتصاد والأمن والسياسية، من أجل سبر غور شخصية الرئيس السوري، بعد انقطاعه لمدة مئة وسبعين يوماً عن الخطابة النمطية، وعودته إلى ذات القاعة المزخرفة بعد أن بلغ الوضع الداخلي مشارف حرب أهلية متدحرجة، حيث بدا الرجل كأنه خارج التغطية، إن لم نقل أنه قادم من عالم افتراضي بعيد.
فبعد أن سادت عشية إلقاء هذا الخطاب الطويل ترجيحات مفادها أن الرئيس الشاب بصدد الإعلان عن خطوة دراماتيكية كبيرة تحدث اختراقاً في جدار الأزمة المتفاقمة، حلت الصدمة دفعة واحدة جراء اتضاح حالة الإنكار التي يعيشها حاكم يقبض على كل السلطات بيده، وإظهاره كل هذا التعالي عن الواقع، وكل هذا التحلل من المسؤولية عن سفك الدماء، ناهيك عن الهجوم الضاري على العرب وعلى جامعتهم “المزرية”، إلى جانب تمسكه حتى النهاية بنظرية المؤامرة الخارجية، جنباً إلى جنب مع تمسكه بالسلطة مهما كان الثمن.لهذا، فقد بدا باب التحليل النفسي، من وجهة نظر سياسيين وإعلاميين بارعين في المهنة، أنجع المداخل المتاحة لفهم دواخل حاكم مطلق الصلاحيات، وكشف جوانب من عوالمه الغامضة وبنيته النفسية الهاذية، والتعرف على بواطن شخصيته الاستبدادية، وفوق ذلك كله الإجابة عن السؤال المركزي المحيّر لكل ذي بصيرة سياسية: على ماذا يراهن بشار الأسد بعد عشرة أشهر من المقامرة والعناد والإفراط في استخدام القوة بلا أي رادع؟
ولو تيسر لي الإسهام في أي من تلك الفقرات الإذاعية أو التلفزيونية التي تم بثها على عجل، لقلت من باب التحليل السياسي لا غيره، إن سليل أسرة الأسد، ذات التقاليد الأمنية الفظة، لا يراهن على استعادة شعبية ملفقة، ولا على الاعتصام بشرعية مطعون فيها، ولا على تحالفات ليست دائمة بطبيعتها، وإنما يعقد رهانه الأوحد على سارية إعادة إنتاج ثقافة الخوف التي تبددت منذ أن أسقط المنتفضون مبكراً تماثيل الأب وأحرقوا صور الابن، وكفوا عن تغطية وجوههم في المظاهرات.ذلك أن الخسارة التي كانت أشد فداحة على نظام أمني يرى أن من هم ليسوا معه هم بالضرورة ضده، هي تبدد الخوف في صدور أبناء شعبه، وسقوط نظرية الترهيب والترغيب المجربة تاريخياً، باعتبارها أكثر الأدوات نجاعة لبسط السيطرة التامة، وإحكام القبضة الحديدية على سائر مفاصل الحياة العامة، وبث الرعب الشديد سلفاً لدى كل من تسول له نفسه الخروج عن جوقة المنشدين بتعبيرات كورية شمالية مشابهة مثل “الأسد إلى الأبد”، و”الأسد أو لا أحد”.
وهكذا، فقد كان إعجاز الثورة الشعبية السورية الأعظم، على مدى ثلاثمائة يوم وأكثر، يتمثل في كسر حاجز الخوف من الخوف، وتحدي منظومة القمع بجسارة نادرة. وهو إعجاز دفعت ثمنه الباهظ آلاف مؤلفة من الضحايا والشهداء والجرحى والمعتقلين والمشردين، الأمر الذي ستبدو معه كل محاولة لترميم هذا الحاجز الذي تشظى كلوح زجاج هش، مجرد ضرب من ضروب الجنون السياسي المطبق، أو قل لوثة عقلية ستأخذ صاحبها إما إلى محكمة لاهاي، أو ستجره على الأغلب إلى مصير يحاكي نهاية معمر القذافي.ولعل الروح القتالية اليائسة التي بدا عليها الرئيس في ساحة الأمويين لاحقاً، وإظهاره ثقة عجيبة بحتمية الانتصار التام على شعبه، تقدم دليلاً إضافياً على أن وارث الجمهورية عن أبيه، يتلبسه منطق انتحاري مغرق في التعويل على منطق القوة المفرطة، لاستعادة حاجز الخوف من جديد، واسترداد تلك الرهبة التي بنى مداميكها التحتية في سابقة حماة، من دون أن يعي أن الذاكرة السورية قد شفيت من آثار تلك الأمثولة الدامية، وأن الزمن قد تغير بالفعل، وأن الشعوب هي التي تنتصر دائماً وأبداً.