على ماذا يلتقي السوريون؟: غازي دحمان
غازي دحمان
أين صار موقع الحرية والكرامة في ثورة السوريين، بعد عامين ونصف من الصراع الدامي على تحقيقها، وهل ثمة ما لا يزال يؤكد إمكانية تحقيق مثل هذه الشعارات، أم أن الأمور تطورت إلى مكان آخر، وصارت هذه القضية من المنسيات؟
الجواب الطبيعي، هو أن الأمور في سوريا انحرفت إلى اتجاهات أخرى، وسياقات لم تكن تخطر ببال. بعيداً عن تحليلاتنا المواربة ورؤيتنا الرومانسية، المجتمع السوري كرس اصطفافه نهائياً، ولا يمكن العودة عن هذه الاصطفافات. لم يعد ينفع معها استمرار الدوران في الحلقة المفرغة، مثلما لم يعد ينفع وضع اللوم على عاتق طرف بعينه. هذه القضية باتت من مغذيات الصراع وعناصره المستفزة.
دع عنك ما يشيعه بعض السياسيين وما يحلم به المثقفون، هذه الشرائح تعمل وفق مبدأ التقية، همّها فقط ألا يتهمها أحد بالانسياق إلى الحضن الطائفي، وتماهيها معه، باعتبار أن ذلك عار على الثقافة والمثقفين، في حين أن الكتل الأساسية، من البيئات الحاضنة للطرفين، باتت في اتجاهات متباعدة، ولم يعد ممكناً اللقاء. وكذا توجهات السياسيين. في سوريا، يمكن القول إن كل البيئات انغلقت على نفسها وهي تعيش حالة استنفار دائم، همها الوحيد كيف تؤمن المدد للجيوش المدافعة، وكيف تصد الخطر عنها وتبعد شبحه.
هل ثمة دواع للاستغراب والاستنكار؟ بالأصل لم نكن، في هذا الوطن المنكوب، نجتمع على كثير من الذكريات والمشتركات. لم تكن الوطنية كافية لكي نتحصن خلفها، وهي لن تصلح للعودة إلى اجتماعنا الوطني. ظلت هذه العصبيات عصية على الاختلاط، وظل الاندماج ضمن نسيج وطني آخر همها. ولا يحتاج الأمر إلى كثير عناء لاكتشاف ذلك. لا يحتوي التراث الثقافي والتاريخ السياسي للبلد على أي جهد للعمل في هذا الاتجاه. وساهم النظام السياسي في تكريس هذه الظاهرة، وكان يعمل على إنجازها، حيث وضعها ضمن حساباته في المهارة السياسية والقدرة على الحكم والتحكم. كان اللعب داخل الأنسجة الاجتماعية الوطنية وتمزيقها يشكل خط الدفاع الأول لنظام حكم ديكتاتوري، يهمه استمرار حكمه أكثر من أي شيء آخر. وكان يعتبر أن اجتماع السوريين على قضية جامعة من شأنه تهديد استقراره في الحكم.
مقابل ذلك، لم تبذل المكونات السورية ما يكفي من جهد لتحقيق الوحدة الوطنية. تمترس الجميع خلف معتقداتهم وعاداتهم وقيمهم، ولم يطوروا أي مشتركات تجمعهم. كل ما فعلوه في المرحلة السابقة، تمثل بتطوير الصور السلبية عن الآخر، واعتماد هذه النمطية في التعاطي. لم يكلف أحد نفسه الخروج من هذه الأقفاص. وحتى التكوينات السياسية، ذات الطابع المتجاوز للطائفية والعرقية، لم تكن سوى تجمعات غير فاعلة وذات تأثير سطحي. ولعل ما يفضح هذا الواقع، ذلك الحجم الكبير من الكره الذي طفا على السطح، ومنذ الأشهر الأولى للثورة، اكتشف العلوييون أنهم كانوا مضطهدين تاريخياً، وسيقاتلون حتى الموت، كي لا يعودوا إلى تلك الوضعية. واكتشف السنة، أو بعض منهم، أن العلويين أعداؤهم التاريخيون الذين يجب أن ينتهي عصر دولتهم عند هذا الحد. ما يثبت أن الطرفين كانا يمارسان لعبة غالب ومغلوب، لا عملية شراكة وبناء أوطان. وربما هذا ما يفسر سبب تأخر التنمية والتطور في سوريا، حتى لدى مقارنتها بدول الجوار. ربما كان المقصود تأجيلها إلى حين الانتهاء من هذه الوضعية النشاز.
بماذا تختلف سوريا عن يوغسلافيا، أو عن الاتحاد السوفياتي السابق؟ هذه نماذج لتجمعات شعوب لم تستطع أن توجد فضاءً مشتركاً تعيش فيه، الجغرافيا وحدها غير كافية لخلق وطنيات وإنجاز عمليات اندماج وطنية. دعونا من هذه الرومانسية المصطنعة. نحن لم يعد بيننا من ذكريات غير الدم. وجودنا أمام بعضنا البعض لوحده مستفز.
صار الكثير من السوريين يكرهون العلم الذي يمثلهم. فبعد كل عملية ذبح، يغرس هذا العلم على جثثهم. صاروا يكرهون سلاح بلدهم، الذي لا يكون صوته عالياً إلا في قمعهم. باتوا يكرهون الوطن الذي قذفهم لذل مخيمات اللجوء. وقائمة حزمة مكروهات السوريين باتت طويلة بطول أيام عذاباتهم.
باتوا يكرهون الوطن، الذي ترتجف قلوبهم رعباً على حواجزه الكثيرة، وينشف الدم في عروق أبنائهم. كل الأماكن صارت سيئة، هنا قتل صديق وهناك رفيق وعند المنعطف شقيق، هنا تم ضرب فلان، واعتقل الآخر. صار الوطن كابوساً يأتيهم حتى في الليل.
لماذا كل ذلك؟ لأنهم اعترضوا على فساد يعرفه الآخرون، وظلم يشهدون له، وقهر لا ينكره أحد فيهم… لأن صبرهم نفد منهم بعد أن قتل أولادهم، بعدما جعلوهم متأمرين وصهاينة وعملاء وتكفيريين وحاقدين. استحلوا قتلهم وانتهاكهم واغتصابهم واستباحتهم بكل الطرق. جلبوا كل آفّاقي الأرض للمساعدة في قتلهم، حتى كوريا الشمالية كان لها حصة في المشاركة.
على ماذا وأين يلتقي السوريون بعد عامين ونصف على مسلسل الذبح الدائر في بلادهم؟ على الحرابة والغلبة. إن كان ذلك هو الأمر فلتكن الحرابة على التخوم، ما عاد الوطن يحتمل أن تجري كل هذه الموبقات تحت سقفه.
المستقبل