على محمل الهدوء/ روجيه عوطة
المرة الأخيرة التي عدت فيها إلى “فايسبوك”، منشطاً حسابي الأزرق من جديد، عرفت أن المسافة الفاصلة بيني وبين “كتاب الوجه”، قد استحالت عائقاً أو جداراً افتراضيين. ذاك أنني لم يعد لديّ القدرة على العيش في الموقع الإلكتروني، ولا استخدام أدواته على أكمل وجه تفاعلي. فلأن “فايسبوك” متبدل على المستوى التقني، كما أنه سريع على صعيد النشر داخله، فقد بدا لي في لحظة عودتي إليه كأنه قد تغير كثيراً، ولم يتغير البتة في الوقت عينه.
لهذا السبب، جلست وراء شاشتي أعاين ما نشره وينشره الأصدقاء، وقلت أنني في أوقات سابقة، يوم كنت استأنف حياتي الإفتراضية، كنت أعلن عن عودتي بـ”بوست”، ولكن، هذه المرة، اخترت إحدى صوري الشخصية، مقتحماً بها الموقع الأزرق، وملقياً تحية فوتوغرافية على “الأصدقاء” الماكثين في قائمتهم.
والحق أن اللجوء إلى الرجوع الصوري، قد كان مسبوقاً بتجربة طويلة على “فايسبوك”، امتدت لسنوات ست، من الملاحظ خلالها أن للصورة وطأة أكبر من الكتابة في العالم الإفتراضي. لا سيما أن هذا العالم قد انطلق على أساس صوري خالص، وعندما انتشرت مواقع التواصل الإجتماعي في أرجائه كانت تعبّر عن حقيقته الأولية، نتيجة قيامها على آلية الصورة. فحتى المكتوب، الذي يُستخدم كآلية تواصلية في الكثير من الأحيان، عنده رغبة في التحول إلى مُصوَّر، وبذلك، سيصبح علامة إفتراضية، لا غبار واقعيا عليها. إذ أن الصورة لا تترك داخلها أي أثر من أثار الواقع، وهذا لا ينفي أنها تتظاهر به، وبحضور عناصره فيها، على الدوام.
تُمارس الكتابة “الفايسبوكية” كما لو أنها إلتقاط فوتوغرافي لفكرة أو فكرتين، يجري إدراجهما في إطار واحد، هو خانة “البوست”. فيتفرج “الأصدقاء” على هذه الصورة الكتابية، ويتفاعلون معهم بوصفهم صوراً ويريدون التحول إلى صور منتجة. ذاك، أننا على “فايسبوك” فئتان ربما، الصور والصور المنتجة، وسُبل الإرتقاء من الفئة الأولى إلى الثانية، تتطلب نوعاً من الثقة في الخفة، بمعناها السلبي، التي إن حضرت، يتبعها احتمال التكرار، والإفراط في التعليق، ومن ثم أخذ “كتاب الوجه” على محملٍ من محامل الواقع. بعد ذلك، نقيم في “فايسبوك” كأن لا مكان غيره، وداخله، يتعطل الوقت اليومي أو ينفجر.
لم أصمد كثيراً في حسابي، نظرت من حولي، كل شيء تغير، ولم يتغير أي شيء. كتبت “بوست”، علّقت، نقرت “لايك”، تبادلت الرسائل مع بعض “الأصدقاء”. وقد أخبرتهم أن الواقع أفضل من “فايسبوك”، وغالباً ما يكون الرد على هذه العبارة بعبارة أخرى “أكيد”. ورغم ذلك، لا أحد يغادر “كتاب الوجه” من دون أن يعتريه نوع من النقصان، ومن الإنحدار إلى الواقع، الذي نقرظه كثيراً، ونحياه قليلاً. ونحن عندما نصطدم بمعرقلاته، نرغب في الفرار من وجوهه إلى وجه واحد. صحيح أن هذا الوجه مرتبط بكتاب أزرق، لكن، رغبته تتجه صوب الإستقرار في ألبوم. “فايسبوك” هو “ألبوم الوجه”، ألبوم على شكل كتاب لا دفات له.
ليس في مقدوري أن أكون صورة من لحم ودم. هذا مرده أسباب كثيرة، لا حاجة إلى مناقشتها. كما لا أضع “فايسبوك” في وجه الواقع، رغم اللجوء الدائم إلى المقارنة بينهما، لأن الأول قد تظاهر بأنه هو الثاني، وقد طغى عليه أكثر من مرة. ثمة حاجة إلى نوع وشكل من الهدوء، يتيح لي أن أكمل يومي محققاً غاياته، التي من البديهي القول أن الإفتراض ليس واحدا منها. وعلى هذا الأساس، أقفلت حسابي من جديد، قلت أنني سأولد “فايسبوكياً” مرة أخرى، وسيجري ذلك بحساب آخر، محصوراً بأناس واقعيين، هم من لحم ودم، قبل أن يستحيلوا صوراً لا صور لهم. لقد تغير كل شيء في المرة الأخيرة، ولم يتغير أي شيء البتة.