علي جعفر العلاق: أتوجس من شعراء القفزات المفاجئة
عدنان الهلالي
سقف الستينيات لم تبلغه الأجيال التي تلته
شاعر لا تجمعه مع بيئته سوى أواصر قائمة على الإبداع، ممّا يجعله مثقفًا يبتعد عن الإشكالات الشخصيّة التي يفرزها الواقع الثقافي، فهو المتأمل المنغمس في قصيدته. لكنه، يخفي في هدوئه أسئلة وقلقًا ينمو بهما على مهل شعري، لا بقفزات مفاجئة. علي جعفر العلّاق شاعر من الجيل الستيني في العراق كما يُصرح، يُعلن عن نفسه في نصه، أو في قراءته النقدية، ليبحث عبرهما عن الجديد. جَمع ابن ناحية (الشيخ سعد) إحدى النواحي التابعة لمحافظة واسط الواقعة على نهر دجلة، بين الشعر والأكاديمية على غرار الشعراء العرب الذين ينتمون إلى هذه الثنائية: أدونيس، وعبد العزيز المقالح، وعز الدين المناصرة، وغيرهم. حصل على شهادة الدكتوراه في النقد والأدب الحديث من جامعة إكستر في بريطانيا عام 1984، وكان موضوع اطروحته: (المشكلات الفنيّة في شعر البياتي: دراسة نقدية مقارنة). عمل محاضرًا في جامعتي بغداد والمستنصرية، ورئيسًا لتحرير مجلة الأقلام العراقيّة. غادر العراق للتدريس في جامعة صنعاء، لتستقر به الغربة في جامعة الإمارات العربية منذ عام 1997.
له من المجموعات الشعريّة: لا شيء يحدث.. لا أحد يجيء 1973، وطن لطيور الماء، 1975، وشجر العائلة 1979، وفاكهة الماضي، 1985، وأيام آدم 1993، وممالك ضائعة 1999، وسـيـد الـوحشـتـين 2006، وعشـبة الـوهـم: قصائد مختارة 2010. وله في النقد الأدبي: مملكة الغجر 1981، ودماء القصيدة الحديثة 1988، وفي حداثة النص 1990، والشعـر والتـلـقي 2002، والـدلالـة المـرئيّـة 2002، وهـا هي الغـابـة فـأين الأشـجـار ؟ 2007، وقبيلـة من الأنهـار: الذات، الآخـر، النص، 2007، ومن نصّ الأسطورة الى أسطورة النصّ 2010. اقتربنا من تجربته فكان الحوار التالي:
÷ لو بدأت معك بسؤال، هو في الأصل جوابك، تعتقد أنّ الشعر بناء وتشييد. عراقيًا، هل يستطيع الثقافي/ الشعريّ ترميم ما أفسده السياسي عبر سنوات طويلة؟
} يبدو أنني قلت ذلك في سياق آخر، أقصد به بناء الذائقة الجمالية وتنمية الحس الحضاريّ، إذ يمكن للفعل الجماليّ أن يؤدي دوراً مهماً على هذا الصعيد. هذا في الأحوال الطبيعية في تطور المجتمعات، أما ما حدث في العراق فهو اختلالٌ شمل الكثير من مستويات الحياة وتفاصيلها، فلم يعد في مقدور الجماليّ إصلاح هذه الاختلالات. إنها، أحياناً، تتجاوز قدرة اللغة على الاحتمال، وليس في قدرة الفنون مجاراتها إلا على مستوى المحاكاة، أو الهجاء أو التمجيد الكاذب. فما حدث يكاد أن يكون عرقلةً خطيرةً لحركة الحياة، أو انحرافاً عن تنوعها الانسانيّ والجماليّ والثقافيّ والروحيّ.
÷ أنت شاعر ستيني كما تُصنف، ماذا بقي من وعي تلك الحقبة في تجربتك: الشعرية والنقدية؟ وكيف تجد الأجيال الثقافية التي جاءت بعدكم؟
} بالنسبة لي، وهذا ما أكرره دائماً، كنت من جيل الستينات ولم أكن منه تماما. كنت، وفي غمرة ذلك الضجيج الستينيّ، أعمل على إنضاج مناخاتي الشعرية، وعيٌ خاصّ لحداثة القصيدة، لا ينسى حيوية جيل الستينات وانضباط الرواد ونصاعة القصيدة العربية القديمة. أنا، إن شئتَ، أسعى الى انجاز قصيدتي الخاصة التي لا تجعلني مرتهناً لجيل بــذاتـه، أو صوت شــعريّ بعينه، وما أزال مخلصاً لهذه المهمة. إنها مكابدة شاقة، في زمن تتشابه فيه الأصوات، أو ينضوي فيه البعض تحت عباءة هذا الشاعر أو ذاك. وكان أهم ما رافقني في مسيرتي الشعرية، ومازج هذه المسيرة: وعياً وذائقةً، حرصي على أن يكون لي صوتي الخاصّ الذي يميزني عن سواي، ويطبع قصيدتي بملامحها التي باتت معروفة لدى المتابعين لتجربتي نقاداً وقراء عنايتي بجملتي الشعرية، وابتعادي عن الثرثرة التي تفيض عن حاجة النص، وتعرقل حركته.
ربما كنت ستينياً، من نوع خاصّ، متاخماً لجيل لستينات، مشوباً بأفضل ما لديه من رؤىً، لكنني كنت عصيّاً على بعض هذياناتـه الشعرية. في الأجيال التالية، هناك أصوات متميزة، ومواهب كبيرة، غير أنني لا أظن أن هذه الأجيال قد حققت كلاً شعرياً يميز جيلاً بأكمله، أو مشهداً فنياً متجانساً. إن الأعمدة الشعرية الستينية خلقت سقفاً شعرياً رفيعاً وذا كثافة فنية عالية، الأمر الذي لم يتحقق في الأجيال التي تلته كما أعتقــد.
÷ ثمة قراءة ترى: أنّ هناك تحوّلًا ملحوظًا في تجربتك، بدأت مغادرة الطبيعة وتفاصيلها إلى فضاء أسئلة كونية؟ هل تتفق مع ذلك؟ وما هي السياقات التي دعت لولادة التحوّل؟
} أنا مع هذا الرأي الى حد، لكنني لا أقبله على إطلاقه؛ لأنه لا يدل على قراءة منصفة لتجربتي الشعريـة. فلم تكن الطبيعة في شعري، مقصودة لذاتها، أي أنها لم تكن فائضة عن مطلب النص أو معرقلة لنمـوّه حتى في مراحلي المبكرة. ومنذ مجموعتي الأولى: لا شيء يحدث.. لا أحد يجيء، وأنا أسعى الى قصيدة مختلفة عن السائد الشعريّ. قصيدة تستقطر فتنتها من حيوية الحوار المبكر مع التراث الدينيّ والشعريّ والأغنية والمثل والسرديات القديمة. وكان ذلك كله يتجلّى من خلال عناية فائقة بخصوصية اللغة، ونصاعتها، ومن خـلال اللعبة النصيّة، المخلصـة لرهافــة البناء، والخاليــة من فضول القول وشبهة المباشرة.
ولم يكن هذا التطور مفاجئاً، فقد كنت في مراجعة دائمة لتجربتي الشعرية، إن النضج، وعياً وممارسةً، جزءٌ داخليّ وحتميّ من تجربة الكتابة وليس طارئاً عليها؛ لأن الكتابة اشتباكٌ حميمٌ ومقلق لخصال عدة : رهافة الروح، وقسوة الـوعـي، وخبرة الجسد، ونضح المخيلة.
÷ ظاهرة الجمع بين: الشعر والاكاديمية، تكرّرت مع شخصيات: أدونيس، عبد العزيز المقالح، عبد الله الغذّامي وغيرهم؟ كيف تفسر لنا الأمر، وهل من دراسة تناولت هذه الظاهرة في الوطن العربي؟
} هذه الظاهرة عرفتها آداب العالم كلها وليس الشعر العربيّ وحده، بل يمكنني القول إنها تمثل طاقة كامنة ثنائية الفاعلية والاتجاه يعيشها كل شاعر حقيقيّ يسهر على ما يكتب وله موقفٌ من ذاته، ومن العالم، ومما تكتبه الذوات الأخرى. وكان أكثر تجليّات هذه الظاهرة لدى شعراء النقد الأميركيّ الجديد، واليوت، وشعراء مدرسة الديوان، ونازك الملائكة، وأدونيس، وسلمى الخضراء الجيوسي، وعبد العزيز المقالح، وآخــرين.. وتمثل كتابات إليوت، وألن تيت، ورينه ولك أمثلةً باهرةً في هذا المجال. والطريفُ في الأمر أنني، خلال عملي في مجلة الأقلام وضعتُ تصوراً لملفّ مهمّ أصدرناه في أواخر الثمانينات بعنوان: الشاعـر العربيّ الحديث ناقداً ساهم فيه عددٌ كبيرٌ من النقاد المتميزين عـربــاً وعـــراقــــيين..
وقـد نوقشت رسالة دكتوراه بعنوان مقارب قبل ثلاث سنوات أنجزها، في جامعة بغداد، الناقد والشاعر العراقيّ علي صليبي. كان عنوانها: الشاعــر العــربيّ ناقدا: أدونيس، والمناصرة، والعـــلّاق نموذجــاً. كما صدر في العراق كتاب للدكتور خليل شيرزاد، عن الشعراء النقاد العراقيين. إضافة الى ذلك، صدر عدد من الكتب التي تناولت ظاهرة الشعراء النقــاد في العصر الجاهليّ والعباسيّ.
÷ يلجأ الشاعر أحيانًا لاستدعاء قناع أو فضاء كالسياب وأدونيس، ما هو قناع علي جعفر العلاّق الشعري: الواقع أم التاريخ أم ماذا؟
} القناع في الشعر يمثل، دائماً، نقطة تماسّ بالغة العمق بين الماضي والحاضر، بين الـواقع والتاريخ، وبين الذات والموضوع. وهو تقنيةٌ تستـدعيهـا ضغــوطٌ عـدة: فنيةٌ حين يُستدعى بدوافع درامية أو بنائية، ووجدانيةٌ حين يَـضبط انفـعال الذات، وفكرية حين يُـعيد ربط الراهن بالماضي. كما أنّ القناع ليس ثابتاً أو نهائياً، بل هو سلسلةٌ من التحولات التي تقترن بتحولات الشاعر الانسانية والفنية والفكرية وتنبثق عنهـا. لقد استـعنتُ، للتعبير عن تجربتي، بأقنعة كثيرة، شعرية ودينية وتاريخية وشعبية، كان ابن زريق البغدادي، وعبد الله الفاضل أوّل قناعين وظفتهما في ديواني الأول الصادر في بيروت عام 1973. ثم توالت الأقنعة في مجموعاتي اللاحقة: امرؤ القـيس، مجنـون ليلى، مالك ابن الـريب، ابن زريق الواسـطي، ديـك الجــنّ..
على مهل
÷ تصرح بأن الشاعر الحقيقي هو مَنْ ينمو على مهل، هل نضجتَ على مهل؟ وما هي اشتراطات هذا الـ(مهل) الشعري إنّ جاز لنا التعبير؟
} أتوجس ريبةً من شـعراء القفزات المفاجئة في هواء شعريّ عام لا ملامح له. إن خفّة الحركة، أو براعة التحليق من قصيدة الى أخرى، أو من ديوان الى آخر، لا تعمق من ملامح الشاعر ولا تبني شخصيته الشعرية، بل تعمل على العكس من ذلك، إذ سرعان ما تعود بــــه الى موضعه الشـعريّ الأول. المهمّ أن لا يكون تطوّر الشاعر محكوماً بالمصادفة، أو مماشاة الأصوات الأخاذة، أو تقصد الإثارات، ولفت الانتباه. وهذا ما يحدث كثيراً. بل أن ينبثق تطوره عن نمو داخليّ، وعن تفاعل حيّ بين وعي اللعبة الكتابية ومكنونات الروح. وبذلك يكون هذا التطور كلاً شعرياً متنامياً، يصعد بطيئاً متناغماً من الجذور البعيدة للتجربة، ثـمّ يمـرّ مخترقاً جسدها الكليّ، لغوياً وجمالياً ونفسياً، حتى ضواحيها المفتوحة على الآتي من ضغوطات الحلم والوعي والحياة..
÷ خاضت الثقافة العربية بعامّة، والعراقية بخاصة صراع ثنائيات: القديم والحديث، الشرق والغرب، الشعر والنثر، الثقافي والسياسي؟ برأيك هل هذه الثنائيات قادرة على إنتاج رؤية جديدة؟
} أميل الى القول إن الوعي الفرديّ أو الجمعيّ، عربياً أو عراقياً، مخترقٌ الى أقصاه بهذه الثنائيات. هذا أمرٌ محتومٌ ولا جدال فيه. غير أن المشكلة لا تكمن في هذا الاختراق في حدّ ذاته، بل في مداه، وطبيعته، وكيفية التعاطي معه. إن مستوى الوعي بهذه الثنائيات أمرٌ ضروريّ. لكن ذلك يختلف، بطبيعة الحال، من بيئة الى أخرى ومن فرد الى آخر.
وبناء على ذلك، لم تكن المحصلة واحدة، إنْ على صعيد المجتمعات أو على صعيد فرديّ. لقد نتج عن ذلك الكثير من التصورات الجديدة في الأدب والفن والحياة، في الشعر والرواية والنقد والفنون التشكيلية والموسيقى. لا شك في ذلك. غير أن الذائقة التقليدية ما تزال حاضرة بطريقة محزنة. وهذا الحضور يشغل مساحات واسعة من فضاء الكتابة، والتلقي، والنقد، ومناهج التدريس الجامعي.
هناك شعرٌ كثير يكتب بحس تقليديّ، وهناك نقدٌ ما يزال يكتب بهذه الطريقة، أيضاً. هناك نقدٌ يعاني من برود جماليّ مهلك. كما أننا نجد متسعاً لنقد جاهل ونقد ســطحيّ ونقــد يشــوبه اللــؤم أحياناً. إضافة الى ذلك لا تزال بعض جامعاتنا العربية يعج بالرؤى المتخلفة في فهم الأدب وتدريسه. ويبدو لي أحياناً أن عهد العقول الأكاديمية الكبيرة قد ولى أو يكاد. وجاء عهدُ آخر، عهدُ المعلمين من حملة الدكتوراه، لا عهد الأساتذة الكبار.
أولى ضحايا النظام
÷ كيف تجد وضع الثقافة العراقيّة من قبل، وبعد 2003؟ هل يرتبط تبدلّ البنى الثقافية بتبدلّ النظام السياسي؟ بالأحرى لماذا يقبل الثقافي أنّ يصبح رد فعل؟
} في بلدان العالم الثالث تكون الثقافة، حتى في ظروف الاستقرار، أولى ضحايا النظام السياسيّ وما ينتـج عنه، عادةً، من اختلالات متلاحقـة، تحتّـمها طبيعــة النظــام ومنطــق أولويـاتـــه. وفي العراق، باعتباره واحداً من بلدان هذا العالم، لم تكن الثقافة بمنأى عن هذه التحولات وإكراهاتها بسبب الحروب والحصارات وكثرة الممنوعات، ومن الطبيعيّ أن ينعكس ذلك كله على الثقافة وتجلياتها المختلفة باعتبارها تجلياً للروح في رفاهها أو عذاباتها.
ولا بد لهذه المعاناة، كما في وضعنا الراهن، أن ترقى الى مستوى الكارثة وانعكاساتها الطاحنة على الثقافــة. وهذا لا يحدث، بكثافة، إلاّ في العالم الثالث. لأن ثقافته، في الغالب، لا ترتبط بالجوهريّ والخالد من طبيعة النفس البشرية، بل بالطارئ والظرفيّ والنافع والمتقلب من مستويات الحياة، التي يحركها النظام السياسيّ، ويحرك معها المنتفعين ونهّازي الفرص من المشتغلين في الثقافة بمعناها العام والمبتذل. وبذلك يندفع المثقف، بدافع من هشاشته، أو خـوفـه أو نفعيته، الى المـزيد من الهـوان والهــامشيــة، الأمر الذي يربطه بالسياسيّ، بطريقة مذلة، ارتباط الصوت بالصدى، والفعل بردة الفعل.
السفير