صفحات الناس

عمالة أبناء المناطق الشرقية السورية في لبنان، ظروف وتحولات/ خليفة الخضر

 

 

كان السفر المؤقت أو الهجرة الدائمة «مشروعاً» أساسياً في حياة كثيرٍ من السوريين خلال العقود الأخيرة، منهم من كان يسافر بغية الدراسة، وهذه الشريحة تنحدر من طبقة اجتماعية ميسورة الحال في الغالب، يسافر أبناؤها نظراً لتردي الوضع التعليمي في البلاد، والمعدلات العالية المطلوبة لدخول تخصصات معينة. ومنهم من يسافر بهدف العمل، إما إلى الدول الحدودية مع سوريا، كالعراق والأردن ولبنان وتركيا، أو إلى دول الخليج العربي، أو إلى بلدان بعيدة كفنزويلا وغيرها من بلدان أمريكا الجنوبية.

من جملة هذه الهجرات والتنقلات، كان سفر أبناء المناطق الشرقية السورية إلى لبنان من أجل العمل، والمقصود بالمناطق الشرقية هنا: محافظات دير الزور والرقة والحسكة وريف حلب الشرقي. وكان لبنان وجهةً أساسية لكثيرين منهم، على الرغم من بعد لبنان عن تلك المناطق مقارنةً بتركيا. يقول جمعة حميدي/34 عاماً، وهو سوريٌ من ريف حلب الشرقي: «تركيا كانت دولة فقيرة نسبياً، ولا يوجد فيها عملٌ مناسبٌ لنا، كما كانت اللغة عائقاً بيننا وبينهم».

‎سهولة الدخول إلى لبنان بالهوية السورية فقط، وعدم الحاجة لإصدار تأشيرة دخول أو حتى جواز سفر، شجع كثيرين من أبناء المناطق الشرقية على السفر إلى هناك، والعمل بكافة أنواع المهن والحرف اليدوية، وفي شتى أنواع الصناعات. وكان اختيار لبنان دون دولٍ عربيةٍ أخرى راجعاً أيضاً إلى الإجراءات التي تفرضها هذه الدول على المواطنين السوريين. «كانت لبنان بلد الحريات، والوجه الآخر والقريب من العالم الواسع، الذي يمكننا رؤيته دون عناء السفر بعيداً لاكتشاف العالم»، كما يقول أبو علي/34 عاماً، وهو من أبناء جرابلس في ريف حلب الشرقي، وكان قد عمل في مجال المعجنات في منطقة برج حمود في بيروت مدة أكثر من خمسة عشر عاماً.

دوافع السفر لدى أبناء المناطق الشرقية السورية

المناطق الشرقية في سورية ذات موارد خصبة، فيها الثروات الحيوانية والزراعية وأيضاً الثروة النفطية، لكن نظام الأسدين في سوريا كان يتبع سياسة تهميشٍ لأبنائها، تمثلت في عدم الجدية في بناء المدارس وتأهيل وتطوير المشاريع الحيوانية والزراعية فيها. وحتى في مجال الوظائف العامة، كانت هناك سياسة تمييزية لصالح أبناء مناطق أخرى، وخاصة أبناء الساحل السوري، الذين تم توظيف كثيرين منهم في المناطق الشرقية رغم وجود الكثافة السكانية والموارد البشرية فيها.

كانت الدراسة العليا تعتبر من الترف المعيشي آنذاك، إذ أن كلفة التعليم الجامعي كانت عالية بالنسبة لأبناء الأرياف في سوريا، ومن ضمنهم أبناء المناطق الشرقية. ورغم أن التعليم الجامعي كان مجانياً تقريباً من حيث الرسوم المدفوعة في سوريا، إلا أن رفع معدلات القبول الجامعي وتمركز الجامعات في مراكز عدد من المحافظات الرئيسية البعيدة عن أرياف المنطقة الشرقية، أدى إلى استفادة فئات معينة من السوريين من التعليم الجامعي، وأدى إلى تقليص مجالات الوظائف والحد من عدد العاملين في المهن الصناعية والعلمية من تلك الأرياف، وحصرهم في مهن ووظائف بالكاد تسدّ الحد الأدنى من المعيشة.

كانت لبنان الملاذ المعيشي لأبناء المناطق الشرقية، على الرغم من صعوبة الوضع الأمني والحرب الأهلية هناك في سبعينات وثمانينات القرن الماضي: «راتب عامل البناء الشهري في لبنان، يعادل راتب أكبر موظف حكومي في سورية»، يقول جمعة حميدي، الذي ظل يعمل في لبنان منذ نعومة أظافره حتى منتصف عام 2012.

تداعيات الحروب والتحولات السياسية على العمال السوريين في لبنان

لم تكن اللغة أو اللهجة عائقاً في وجه أبناء المناطق الشرقية في لبنان، ولا حتى العادات والتقاليد رغم اختلافها، كما أن العمال السوريين صبروا مع اللبنانيين في مواجهة الوضع الأمني المتردي أيام الحرب الأهلية (13 أبريل 1975/ 13 أكتوبر 1990). لم تكن المعارك بين الفرقاء اللبنانيين، ولا حروب إسرائيل وقصفها لمدن ومناطق لبنانية، أسباباً دفعت العمال السوريين إلى ترك لبنان والعودة إلى سورية التي كانت آمنة.

ولعل من بين أسباب بقاء العمال السوريين في لبنان رغم كل الظروف، وجود الجيش السوري هناك منذ العام 1976، وهو الأمر الذي كان له تداعيات أخرى كبيرة على العمالة السورية في أوقات لاحقة أيضاً.

تحت جسر خلدة في بيروت، كانت المخابرات السورية تنصب حاجزاً على عقدة مواصلات هامة بين المناطق اللبنانية، يجلس عنصر تابع للمخابرات السورية على كرسي، ويتخذ من قدمه اليسرى شارة مرور تسمح لسائقي السيارات بالمرور أو تأمرهم بالوقوف بحركة منها. ما سبق مشهدٌ بسيطٌ من مشاهد تعامل القوات السورية مع المواطنين اللبنانيين.

ولّدَ هذا النمط من السلوك حقداً مكبوتاً طيلة فترة تواجد الجيش السوري الذي استمر حتى عام 2005، لينفجر تجاه العمال السوريين مع خروج آخر شاحنة عسكرية للجيش السوري من لبنان. هرب كثيرٌ من العمال السوريين تاركين أعمالهم جراء الاعتداءات والتعامل السيء من قبل كثيرٍ من اللبنانيين، وأنصار حزب القوات اللبنانية والتيار العوني على وجه الخصوص، في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وما تلاه من أحداثٍ أدت إلى انسحاب الجيش السوري.

عاد كثيرون إلى سورية، فيما اتجه كثيرون آخرون إلى العمل في المناطق ذات الغالبية الشيعية بحماية حزب الله اللبناني الحليف للنظام السوري، وإلى الجنوب اللبناني على وجه الخصوص بعد حرب تموز عام 2006، التي تسببت بدمار واسع في المناطق ذات الغالبية الشيعية، إذ دُمِّرَ أكثر من 15 ألف منزل، بما في ذلك شققٌ في المباني السكنية، ونحو 900 مبنى ومحل تجاري، بما في ذلك المزارع والمصانع.

بعد انتهاء الحرب عمل السوريين في مجال البناء وتوابعه، نظراً لسهولة تعلم هذه المهن بالنسبة للشباب اليافعين، وأجورها المغرية قياساً بغيرها، وكذلك نظام الأجور اليومي. هكذا ساهم السوريون في إعادة إعمار تلك المناطق، وأصبح تواجدهم في المناطق ذات الغالبية الشيعية أعلى بكثيرٍ منه في المناطق ذات الغالبية المسيحية أو السنيّة.

تحولاتٌ في زمن الثورة السورية

‎بعد بداية الثورة السورية بدأت المشاكل تطفو إلى السطح من جديد بعد ركودٍ لم يدم طويلاً، وترجع أسبابها هذه المرة إلى ما بدأ يتحول إلى صراعٍ مذهبيٍ سنيٍّ-شيعي، وهو الصراع الذي كان بعيداً عن أذهان أبناء المناطق الشرقية السورية، إذ لم يكن في ذاكرتهم موروثٌ يجعلهم يعتقدون أنهم يمكن أن يكونوا مركز ثقلٍ سنيٍ في مناطق شيعية، لكن يبدو أن حزب الله قد يكون تعامل معهم على هذا الأساس.

يقول عمر القاسم/26 عاماً، وهو من أبناء بلدة المنصورة بريف الرقة الغربي، وعمل في لبنان منذ صغره حتى تصاعد النزاع المذهبي بعد قيام الثورة: «تعرضتُ للاعتقال على يد عناصر حزب الله اللبناني أكثر من مرة بسبب اسمي».

هكذا عادت نسبةٌ كبيرةٌ من العمال السوريين إلى العمل في المناطق اللبنانية الأخرى، هرباً من سوء تعامل عناصر حزب الله اللبناني معهم. يقول جمعة حميدي عن المشاكل التي واجهته كعامل سوري في لبنان في الفترة الممتدة بين اغتيال الحريري عام 2005 وخروج الجيش السوري من لبنان، وحتى العام 2012: «جماعة عون وجنبلاط طرودنا ونصبوا علينا أجور العمل، بحجة أننا سوريون ومع الجيش السوري. وبعدها جماعة حزب الله طرودنا من مناطقهم ونصبوا علينا أجورنا وتعبنا، بحجة تأييدنا للجيش الحر. حزب الله حمانا من جماعة عون وجنبلاط بعد مقتل الحريري، وجماعة جنبلاط وعون حمونا من جماعة حزب الله بعد بداية الثورة السورية، صرنا «مَلَخّة» للرايح والجاي».

مع بداية تضييق حزب الله، رجع إلى سورية من استطاع من أبناء المناطق الشرقية، منهم من التحق بالجيش السوري الحر، ومنهم من عاد إلى عمله وفتح محلاً بالمهنة التي تعلمها في قريته. لكن نسبة من أبناء المناطق الشرقية علقوا في لبنان ولم يستطيعوا العودة، خاصة مع ازدياد صعوة ذلك بسبب تعميم النظام السوري لأسماء المطلوبين للخدمة العسكرية الإلزامية، ومع مشاركة حزب الله العلنية والواسعة في الحرب السورية، إذ بات عناصر حواجز الحزب يعرفون أسماء بعض المناطق التي ارتبطت في أذهانهم بالمعارك التي قتل فيها الجيش السوري الحر والفصائل الإسلامية عدداً كبيراً من مقاتليه.

«خلي عاصفة الشمال تجي تحميكون»

في شهر أيار من عام 2012 خطفَ لواء عاصفة الشمال بقيادة عمار الداديخي قافلةً تقلّ عدداً من اللبنانيين الشيعة في مدينة إعزاز بريف حلب الشمالي، بغية إخراج معتقلات سوريات في سجون النظام السوري كما جاء على لسان الداديخي. كان هذا بداية فصلٍ جديدٍ من فصول المأساة التي يمر بها العمال السوريين في لبنان عامةً، ومن ضمنهم أبناء المناطق الشرقية، إذ انفتح الباب بعدها واسعاً على عمليات الخطف والتشليح والابتزاز.

علي خضر/ 28 عاماً، وهو من أبناء مدينة مسكنة في ريف حلب الشرقي، وكان قد عمل في لبنان خمس سنوات، لكنه هاجر إلى ألمانيا خوفاً من التهديدات والمضايقات التي تعرض لها من قبل حواجز حزب الله اللبناني. يقول علي: «بعد خطف الشيعة اللبنانيين في إعزاز، وتبني لواء عاصفة الشمال عملية الخطف، لم نعد نستطع الخروج من منازلنا إلى العمل إلا في سيارات خاصة وعلى شكل مجموعات. قمنا بإنشاء مجموعات واتس آب وترك رسالة عليها مع كل مشوار نذهب إليه، حتى إذا ذهبنا إلى البقالية. كنا نقوم بتحويل رواتبنا إلى أهلنا فور استلامها، ومع كل رأس شهر كان شبانٌ شيعة ينتظروننا على الحواجز وعلى مفارق الطرق، ويسرقون الرواتب ممن يتمكنون منه. أمام عيني ذات مرة، قتلَ رجلٌ لبنانيٌ رجلاً سورياً مساء يوم أحد أثناء تبضعنا من السوق، قتله ورمى أكياس الخضار على الأرض قائلاً: خلي عاصفة الشمال تجي تحميكون».

توارى كثيرٌ من الشبان المطلوبين إلى الخدمة العسكرية الإلزامية وأبناء المناطق التي شهدت المعارك عن الأنظار، ولجأ بعضهم إلى تعليق صورٍ للأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله في منازلهم بغية اتقاء شرّ عناصر الحزب، وقام بعضهم بتغيير أسماء مناطقهم واستبدال هوياتهم بأخرى مزورة فيها أسماء مستعارة. ومنهم من جازف بنفسه ودفع مبالغ كبيرة كي يستطيع الهرب عن طريق ميناء طرابلس في بواخر البضائع إلى ميناء مرسين في تركيا، خوفاً من عناصر حزب الله اللبناني: «دفعتُ مبلغ 400 دولار لسمسار، جلستُ في غرفة محرك الباخرة طيلة الطريق من ميناء طرابلس في لبنان إلى ميناء مدينة مرسين التركية، لم أستطع وقتها الحجز للسفر إلى مدينة اسطنبول بالطائرة لأنني لا أملك جواز سفر»، قالَ محمد الخلف/22 عاماً، من محافظة الرقة، وكان قد عملَ في الضاحية الجنوبية في مجال البناء حتى عام 2015، وهو الآن مقاتلٌ في صفوف الجيش السوري الحر في الشمال السوري.

تأثرَ أبناء المناطق الشرقية بالمجتمع اللبناني، وتطبّع كثيرون منهم بأطباع اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والعرقية والمذهبية. تماهوا بالمجتمع اللبناني رغم المأساة التي عاشوها، وتعلموا منه بعض المهن التي عادوا بها إلى مدنهم وقراهم، ليفتحوا محلات تحمل أسماء مناطق من لبنان، مثل محل معجنات بيروت في مدينة جرابلس بريف حلب الشرقي، ولا يزالون يحتفظون بذكريات وانطباعات عن العالم، ما كانوا ليعرفوها أو يعلموا بوجودها لولا عملهم في لبنان.

موقع الجمهورية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى