عمى التعذيب في سجون الأسد… قصة حقيقية لا صُوَر/ عـروة مقـداد
دمشق – الصعقات الكهربائية أفرغت جسدي الهزيل من الهواء، وتلوّيت على الأرض مثل أي مشهد سينمائي درامي. لم يكن عرضاً سينمائياً عندما انغرزت الإبرة المدبّبة لكابلات الكهرباء الجلدَ النحيل عند الكليتين، والجلدَ الرقيق بين الإبهام والخنصر، لأُترك بعدها مشلول الجسد، نازف الدماء، تتعاقب عليّ الرفسات لترمي فيّ بعمى قسري للروح، مازال يعاني منه مئات آلاف منالسوريين. لم تكن صور المعتقلين التي سُرِّبت غريبةً عني، إنما دبَّ الاحساس المخيف للسجّان نفسه الذي يتحكم بمصائرنا، وعادت القصة طازجة كثيفة برائحة الدماء التي عجنت بها صباحاتنا المتخمة برائحة البول والصراخ والألم.
أُمعنُ بالصور؛ تعود بي الذاكرة إلى مطار المزّة العسكري ـ فرع التحقيق، الزنزانة الثانية، حيث تتطابق إلى حد بعيد الملامحُ الهزيلة والمتكوّرة على نفسها مع ملامح الأصدقاء الذين مازال بعضهم مختفياً هناك، والبعض الآخر استطاع النجاة. أبحث في الصور وأنا أخشى التعرّف على أحدهم. أحاول الوصول إلى الزنزانة الثانية في مطار المزّة لأعيد بعث القصة. فصدفةً نجونا من الموت، وقد مورست علينا كل أنواع التعذيب الممنهج التي كانت تهدف إلى النيل منإنسانيتنا واحتقارنا بالدرجة الأولى.
استطعت الوصول إلى صديق الزنزانة الثانية في مطار المزّة، كمال. ف. المقيم حالياً في ألمانيا. خرج كمال من مطار المزّة ليقاتل في صفوف الجيش الحر ويصاب مرتين في قدمه ليسافر بعدها إلى ألمانيا لتلقي العلاج. التجربةالمشتركة للألم تترك أحاسيس غربة. وحدة المصير وانتظار الموت يجعلان الأحاسيس تتقاطع مع بعضها البعض. لم أنصت لكمال وهو يتحدث عن التجربة المريرة التي عايشها، إذ كنت شريكه، ولكن بعد مضي سنوات ثلاث، سمعتها بطريقة أخرى. اعتقل كمال في تظاهرة 25 /3 / 2011 في ساحة المرجة، الاعتصام الأول الذي شهدته مدينة دمشق والذي لم يلبث إلا بضع دقائق. كان كمال من أوائل المعتقلين الذين دخلوا مطار المزّة. خلال الفترة التي أمضاها في الجوية تعرّض لمختلف أنواع التعذيب، وكان من الدفعة الأولى التي دخلت إلى هناك، وكان حقل تجارب لأنواع التحقيق والتعذيب المختلفة: “جُرِّب معي الكثير من وسائل التعذيب. كنا 50 شخصاً فقط في كل مطار المزّة. وكان من الواضح أن الضباط والمحققين لم يكونوا مستعدين، ولم يكونوا قد ركنوا إلى طريقة تعذيب وتحقيق واضحة. فمنذ فترة طويلة لم يتلقوا مثل هذه التهم، وبهذه الأعداد. الأمر الذي أتذكره بوضوح هو أحد الضباط الذي كان شاهداً علىإحدى جلسات التعذيب. كنت أسمع صوت المحقق وهو يقول له: اضربه. لكنه لم يستطع أن يضربني،وعندما بدأ بضربي أفرغ ما في معدته وقد أصابه عيٌّ. طُرقُ الموت كانت شنيعة وكثيرة. صُفِّي العديد من الثوار أمام أعيننا. أتذكر صوت ذلك الحمصي الذي كان صراخه يملأ كل فرع التحقيق من الألم،ويعول وينوح مثل غراب يدبّ في نفوسنا الرعب. والطبيب الذي تُرك مشلوحاً لأربعة أيام مندون طعام أو شراب وهو يقول: “منشان الله طعموني”، فيردّون عليه: “خلّي الله يطعميك”.
أتذكر كمال جيداً وهو محموم يرتجف بين أيدينا مندون أن نستطيع فعل شيء، وقد اصفرّ وجهه وهزل إلى درجة مخيفة. الجوع كان يفتك بنا، الجوع الذي كان أقسى أنواع التعذيب الذي مورس علينا طيلة فترة اعتقالنا. “كان من الممكن أن تكون أنت موجوداًفي الصورة؟”، “نعم، وكان من الممكن أن تكون أنت”يجيبني.. تختفي أصواتنا ونحن نحدّق بالصور التي تبدو وكأنها قادمة من كوكب آخر. الصمت الذي يبتلعنا في دوامة مرعبة من الذكريات.
المأساة معقّدة. أن تكون ناجياً من فرع أمني بهذه الوحشية، هو شيء لا يمكن أن يمرّ بحياتك بطريقة عابرة، هنالك نوع من الامتنان الذي كنا نشعر به جميعاً. امتنان وغضب على هذا العالم المتوحش الذي يعرف بوجود مثل هذه الأفرع. أدقّق بالصور، أحاول أن أتعرف على أحد من الجثث المتكلّسة، تمرّبرأسي صور سريعة لأجساد هزيلة كنا نراها. عظام ناتئة من الوجنتين البارزتين ومن الخصر النحيل، وبشرة صفراء شاحبة، تحوّلت بالصور إلى بياض حليبي يشبه العمى الذي وصفه ساراجموا فيالرواية التي تحمل الاسم ذاته. العمى الذي يصيب البشرية ببياض حليبي فاتح يغشى أبصارهم دون خلل بالرؤية.
في الحصار، المعتقل الآخر، استطعت الوصول إلى أسامة نصار، الذي كان معنا في مطار المزة؛ أسامة من مدينة داريا ومن الشباب الناشطين فيها بفعالية طيلة السنوات الثلاث الماضية. يحدثني من مدينة دوما عن إحساسه عندما رأى الصور: لم أستطع منع نفسي من التفكير بالأصدقاء الذين مازالوا معتقلين حتى هذه اللحظة. الأفرع الأمنية والمعتقلات تكاد تكون احد أكبر الخزانات البشرية التي تخرّج القتلة، إذ الجميع في الأفرع الأمنية يمكن أن يعذب. الفرع الأمني هو جزء من اختبار القدرة الانسانية على القتل والتمثيل، وإذا لم يكن مشاركاً باليد، فالصراخ والألم والدم المنتشر في كل مكان هو جزء من قتل الذات البشرية.
نتحدث عن الصور وكيفية تصويرها. كنا قد صُوِّرنا مراراً كجزء من روتين في الافرع الأمنية. وثمة وجود كاميرات تصوير، هذا يعني أن ثمة مقاطع مصورة على شكل فيديو لا سيما وأن العديد من الاعترافات كانت تسجل وكان جزء منها يبث على الاعلام. والسماح للجنود بالتصوير وتسريب هذه المقاطع بشكل ممنهج. التعامل مع الجثث وتكويمها وتخزينها ومن ثم استعراضها وتصويرها، ذلك الجزء العصي على الفهم” هؤلاء الوحوش كيف صُنعوا.
توثيق الجريمة مسألة معقدة، لا أستطيع فهمها. أحاول أن أفكر في المصوّر الذي قام بالتقاط الصورة، كيف مرّ على الجثث المتفسخة من آثار الضرب؟ هل اهتزت يده؟ هل راودته رغبة بالتقيؤ أم كان يضحك منتشياً؟
في جنوب سوريا وفي إحدى قرى مدينة درعا يخبرنيسار المقداد، المنشقّ عن أحد الأفرع الأمنية، عن أحد الأسباب التي يقوم بها الفرع الأمني بالتصوير. يقول لي بدايةً إن الصور مهربة من الشرطة العسكرية والأمن العسكري ومن المخابرات الجوية، ويضيف أن هذه الصور تستخدم في الأفرع لتوثيق الوفيات وحصر مسؤولية كلفرع، وإيجاد مخرج قانوني للأمر من خلال القضاءالعسكري لأن الشرطة العسكرية هي ذراع القضاءالعسكري، ويكون دور الشرطة العسكرية دور الرقيبعلى الأفرع الأخرى. فالنظام يستخدم أسلوب رقابة كل جهة أمنية على الأخرى. ويضيف أن هذه الصور تصبّ في جهة وحدة هي الطب الجنائي العسكري، وترفع إلى المسؤول الأمني الذي يشرف على هذا الملف.
نقلب الكثير من الصور ونستعيد لحظات كثيرة متعلقة بالتعذيب. يصمت قليلاً في ختام حديثنا ويضيف: قتلُ هؤلاء المعتقلين عن طريق التجويع ينمّ عن منهج معتمدومتوافق عليه، وينمّ عن عقيدة. يصمت مرة أخرى ومن ثم يضيف: تقبّلهم الله.. لم أكن أتوقع أن يصل الأمر إلى هذه المرحلة، فالقتل عن طريق التصفية أو التعذيب أمر كنا نعرف به، ولكن القتل عن طريق التجويع أمر رهيب.
لم أستطع الوصول إلى بقية الأصدقاء في الزنزانة المشتركة، بعضهم اختفى، وبعضهم لم يخرج حتى هذه اللحظة، والبعض الأخر مازال يقاتل على الجبهات. الشيء الناقص في الصور هو تتمة المشهد، فهذا مجتزأ من حياة كانت أشد قسوة من مشهد لجثة متكلّسة. الأجساد المتكوّمة فوق بعضها،المعجونة بنَتَنِها وبَوْلها وخرائها. إنه عمى كامل يضيع فيه المنطق، ووحده السجّان يستطيع أن يراقب ذلك المشهد لناس عميان يتكوّرون على بعضهم،يتلمّسون الحياة بأنفاسهم التي تحاول أن تتمسك بأمل الخروج والاستفاقة من هذا العمى. عمى واسع النطاق يصيب البشرية جمعاء.
موقع لبنان ناو