عمّار عبد ربه: حلب التي نحب/ عمر الأسعد
في إحدى الصور، تطل القلعة الشهيرة من فتحة حفرها قناص في جدار. في صور أخرى، نشاهد الحياة في المدينة وهي تسير بجانب الخراب الذي حلّ بها. إنها حلب التي تشكّل موضوع معرض المصوّر السوري عمار عبد ربه في “غاليري أوروبيا” في باريس. 15 عملاً تُعرض تحت عنوان “لهن، لهم السلام”، ويبدو الهاجس الأساسي فيها تقديم صورة المكان وأهله، في ظل استمرار مسلسل القتل اليومي الذي تعيشه المدينة.
في إحدى الصور، نشاهد شراشف منسدلة بين صفّين من الأبنية المتقابلة لحماية الناس الذين يعيشون خلفها من طلقات القناص وعبثه بالأرواح على خط النار، كما يشير التعريف المرفق بالعمل. لكن المشاهدات الإنسانية التي عايشها عبد ربه خلال رحلاته المتتالية إلى حلب تحتل المساحة الأبرز في المعرض، إذ يتجاوز المعاناة اليومية التي يختبرها السكان ليقدّمهم بصور تضجّ بالحياة: “بعد عدة أيام من الحياة مع أهالي حلب والضحك والسخرية معهم، لا يعود هناك مجال للحزن أو الأسى. نلمس في المدينة مقاومة سكانها العدوان الذي يطالهم، والطمأنينة والأمل بغد أفضل، والثقة بالانتصار”.
لا تغري صور المقاتلين وأشلاء الجثث عدسة عبد ربه، الذي يحاول في أعماله كسر النمطية التي باتت تسود الحدث السوري عبر وسائل الإعلام. بدلاً من ذلك، يقدّم في إحدى صوره مقاتلاً يضع زهرة حمراء في فوهة بندقيته، وفي عمل آخر صورةً لوجه مقاتلة كردية بعينين دامعتين، أو صورة فتى صغير يبيع الخوخ وخلفه باص حلب الشهير الذي بات يقسم المدينة إلى قسمين: قسم يسيطر عليه مقاتلو النظام، وآخر في يد المعارضة. وبالتالي، تبدو ملامح البشر ومشاعرهم وإنسانيتهم، التي تغيّبها صور القتل والدمار السائدة، الغاية التي يسعى عبد ربه إلى إدراكها في المدينة المنكوبة.
يقول المصوّر: “أختار هذه الصور لأنها ما يشدّني في هذه الأماكن. تشدّني الإنسانية، والمقاتل الذي يضع وردة في بندقيته، كأنه ما يزال يردد هتافات الثورة السلمية في أشهرها الأولى، ويقول: لقد أُرغمنا على حمل السلاح، لكننا مسالمون، والوردة في فوهة بندقيتي تدل على ذلك”. ويضيف المصوّر: “أعتبر أن في هذا المشهد تعبيراً عن الوضع أكثر بكثير من أي صورة لمحارب في وضعية قتالية أو لحظة الهجوم”.
تذهب صور عبد ربه في بحث عميق عن المدينة وتفاصيلها، ليس من خلال الناس فقط، بل عبر تفاصيل أخرى أيضاً تشي بالمكان وهويته وطبيعة الحياة فيه وخلفياتها. يتجلى ذلك بقوة في صورتين، الأولى لعربة عليها “ثوم للبيع”، وموسم الثوم الجديد يقول كثيراً للمتلقّي عن ناس ما زالوا يعيشون في المدينة، يأكلون ويطبخون ويستعملون الثوم في موائد طالما اشتهرت بها حلب، صاحبة المطبخ الأهم بين مدن سورية، وربما في المشرق العربي.
الصورة الثانية لقطع صابون الغار المصفوفة وكأنها تريد التذكير، وسط هذا الخراب، أن حلب ما زالت المدينة التي تحمل ميزة هذه الصناعة اليدوية في العالم: “حلب لا يمكن تلخيصها أو اختصارها بالقتال والمقاتلين. إنها مدينة تاريخية عريقة، والصابون والقلعة والثوم أشياء تروي قصتها كما يرويها المقاتلون الذين يدافعون عنها”.
توفّر صور عبد ربه عن المدينة مساحةً للتأمّل. ففيها يذهب أطفال إلى المدرسة رغم الدمار الظاهر على جانبي الطريق، ويقطع رجل الشارع على دراجته الهوائية حاملاً أغراض بيته اليومية. باختصار، كمٌّ من المشاهد التي تدفع المتلقّي إلى استنتاج أن أهل المدينة يعيشون ويحلمون فيها، رغم العنف والموت الذي يحاصرهم.
وبالتالي، لا تسعى الصور خلف عنصر الإثارة الصحافية، عبر تصوير المعارك والمقاتلين وأشكالهم وانتماءاتهم المختلفة، بقدر ما تضع المتلقي في حالة تماس مباشر مع وضع الناس اليومي في المدينة. وحول هذه النقطة، يوضح عبد ربه: “يهمني في مناطق النزاع أن أرى العديد من جوانبها، التي قد يمثلها المقاتل والمدرّس والخبّاز والأب والممرضة والطبيبة. هؤلاء وجوه للحالة نفسها. جميعهم يتحدث معك ويطلعك على وضعه ومدينته وصراعه وآلامه”.
من خلال الأعمال المعروضة، تحضر حلب بتفاصيلها المحفوظة في الذاكرة. يقول عبد ربه إن بعض زوار معرضه أكدوا له أنهم اشتموا رائحة الصابون عند وقوفهم أمام إحدى الصور. أما هو فينشغل بقصص المدينة وأوضاع أهلها الذين عايشهم، مصوّراً مشاهد غير متوقّعة من حياتهم اليومية؛ مشاهد يظهرون فيها وهم يضحكون وينشدون الأغاني، أو يتابعون مسلسلاً كوميدياً يسخر من الواقع، وسط مرارة الحرب.
وعن الفرق بين ما اختاره موضوعاً لأعماله، أي مدينة حلب بمختلف جوانبها ووجوهها، وبين ما يختاره مصوّرون آخرون موضوعاً لصورهم، يقول: “ثمة فرق كبير بين من يأتي ليغطي حالة حرب فيختصرها بمشاهد العنف والقتال وبالمحاربين على الجبهات، وبين من يأخذ هذه العناصر بعين الاعتبار من دون إهمال الجانب الإنساني وحياة الناس العُزَّل الذين يتابعون حياتهم اليومية قدر المستطاع رغم محاصرة الحرب لهم. إنه خيار شخصي ومهني تحكمه تجربة المصوّر وثقافته وتربيته وبيئته”.
ويضيف عبد ربه: “الفخ الذي يقع فيه العديد من الزملاء هو تلخيص كل هذا الوضع المعقّد بتحركات الجنود والمقاتلين، وما يجري في غرف العمليات العسكرية. هذه الأشياء تشكّل جانباً من الحدث لكنها ليست كل الحدث”.
العربي الجديد