صفحات العالم

عندما تتحول الدولة السورية إلى مجرد عصابة


د. بشير موسى نافع

مستنداً إلى رواية للأمريكي من أصول إيطالية، ماريو بوزو (1920 1999)، وبالتعاون معه، صنع فرانسيس فورد كوبولا، الذي يعود هو أيضاً إلى أصول إيطالية، واحداً من أهم الأفلام وأكثرها تأثيراً في تاريخ السينما: العراب. كان بوزو نشر روايته في 1969، مصحوبة باهتمام وترحيب محدودين من النقاد، ولكن إطلاق الجزء الأول من فيلم العراب في 1972، جعل منها نصاً شعبياً رائجاً إلى حد كبير. في 1974، أطلق كوبولا الجزء الثاني من الفيلم، وبعد امتناع دام لخمسة عشر عاماً، أطلق الجزء الثالث والأخير في 1990.

يستعرض هذا الشريط السينمائي الملحمي حياة ثلاثة أجيال من أسرة أميركية إيطالية، تبدأ بوصول مؤسس الأسرة الشاب من قرية بجزيرة صقلية إلى مدينة نيويورك في العقد الثاني من القرن العشرين، أثناء موجة الهجرة الإيطالية الكبيرة للعالم الجديد. ولد ماريو بوزو ونشأ في الجانب الغربي من نيويورك العشرينات، واستخدم معرفته الحميمة بالمجتمع الإيطالي النيويوركي في حقبة ما بين الحربين، ليصف صراع المهاجر الإيطالي من أجل البقاء في بيئة تتخلها الجريمة وصراع المافيات الناشئة، وهي تضع جذورها الأولى في المجتمع الامريكي.

كما يصف صعود الوافد الشاب الحثيث، والانقلابي، من عالم الجريمة الصغيرة إلى عالم الجريمة المنظمة، التي تستند إلى شبكة معقدة من المحامين ورجال العصابات والقتلة وكبار ضباط الشرطة والقضاة المرتشين. مع نهاية العشرينات، سيكون الشاب الإيطالي الذي غادر صقلية فقيراً معدماً، بعد مقتل والده على يد المافيا المحلية، قد أصبح دون فيتو كورليون، رباً لعائلة مترامية الأطراف، سواء بالمعنى الأسري البحت، أو بالمعنى المافيوزي. ولكن دون كورليون هو زعيم عصابة من طراز تقليدي، أقام عائلته على قيم الولاء والرعاية والترابط المتوسطية، وقادها بقدر ملموس من الحكمة والحرص. لا تقتل عائلة دون كورليون إلا للضرورة، وبدوافع ومسوغات يمكن تبريرها بالمقاييس المتفق عليها بين عائلات المافيا المختلفة، ولا تعتدي على الفقراء، وتمد يد العون لمن يطلب مساعدتها، ولا تنشط في المجالات التي تهدد قيم المجتمع الأولية، مثل المخدرات.

مع نهاية الحرب العالمية الثانية، سيواجه دون فيتو كورليون مشكلتين في وقت واحد: الأولى داخل أسرته الصغيرة، عندما يعلن ابنه الأصغر، الخريج الجامعي والعائد حديثاً من ساحة الحرب، رغبته من الابتعاد عن أعمال والده ونشاط شركاته؛ والثانية، اندفاع عائلات مافيا منافسة إلى سوق المخدرات وضغطها من أجل أن تشارك عائلة كورليون نفوذها الواسع في دوائر البوليس والقضاء والدولة. في الصراع الدموي الذي سيندلع من أجل النفوذ والموقع، يقتل الابن الأكبر لدون فيتو كورليون، المرشح الطبيعي لقيادة العائلة بعد والده، ويتعرض الأب لمحاولة اغتيال، تتركه في حالة صحية حرجة. هنا، وفي لحظة مصيرية، يتقدم الابن الآخر، مايكل، الجامعي، الأكثر اندماجاً في المجتمع والثقافة الامريكية، والذي كان والده يطمح في أن يصل يوماً إلى مجلس الشيوخ، ليتولى شؤون العائلة. أدار مايكل كورليون أعمال العائلة في البداية تحت إشراف والده، المثقل بأعباء السن والمرض وآثار محاولة اغتياله، وما أن يتوفى الوالد، حتى يبدأ مايكل كورليون مشروعه لقيادة العائلة إلى الذروة. خلال ساعات من وفاة الوالد، يضع مايكل نهاية لسياسة الهدنة بين عائلات المافيا المتنافسة، التي اتبعها والده وحرص عليها، ويأمر باغتيال رؤساء العائلات الأخرى جميعاً، وفي وقت واحد. وفاة الوالد وخلو موقعه كرئيس، فعلي وروحي، للعائلة بمعناها الصغير ومعناها المافيوزي الأوسع، وقرار الحرب الشعواء الذي أعلن فيه مايكل نهج قيادته، سيكرسه أباً روحياً جديداً، عراباً: دون مايكل كورليون.

لم يكن دون مايكل كورليون المرشح الأول لقيادة العائلة وخلافة الأب، بل لم يكن حتى المرشح المحتمل. وقد تقدم لقيادة العائلة مسكوناً بشعور دفين بالنقص، شعور الابن الأصغر الذي اختار من البداية مساراً مختلفاً لحياته عن المسار الذي اختاره شقيقاه الأكبر والأوسط؛ وكان عليه بالتالي أن يثبت لأبناء عائلتيه الصغرى والكبرى، لأعوان والده ومساعديه، ولقادة العائلات الأخرى، أنه أهل للمسؤولية. وفي سخرية بالغة للأقدار، أشبه بمصائر أبطال الملاحم اليونانية منها بأمريكا ما بعد الحرب، سيضفي التعقيد المستبطن في نمط الحياة والتعليم الجامعي، والثقافة الامريكية العالية، والزواج من أمريكية غير إيطالية وغير كاثوليكية، هالة خاصة على عراب العائلة المافيوزية الجديد. خلال سنوات الخمسينات والستينات، وفي الطريق إلى تطبيع أوضاع عائلته، وتحريرها من أثقال ميراث الجريمة، وشرعنة نشاطاتها، يخوض دون مايكل كورليون حرباً قاسية، لا هوادة فيها، ضد نفسه وضد الجميع من حوله. يقتل كل من يقف في طريقه من قادة عائلات المافيا الأخرى؛ يصدر أمراً بقتل زوج شقيقته، وأمراً آخر بقتل شقيقه الوحيد المتبقي؛ وعندما تختار زوجته الطلاق، يخرجها كلية وبصورة بالغة القسوة والحسم من دائرة الأسرة، ويعمل على قطع صلتها بطفليها.

ليست هذه حكاية عائلة وحسب، ولكنها تأريخ روائي وسينمائي لأحد وجوه أمريكا القرن العشرين؛ تتداخل وتتقاطع فيها سرديات إنسانية واجتماعية وسياسية، في آن واحد. العراب، هي قصة الخير والشر، الخيار الإنساني والقدر، الجريمة والولاء، العنف والقوة، والموت الرخيص والحياة باهظة التكاليف؛ وهي التجسيد الأكثر دلالة لنموذج الحياة كعصابة. في النهاية، وبعد مواجهة عاصفة مع لجنة تحقيق واستماع في الكونغرس، وانتقال العصابة المافيوزية إلى التيار العام لعالم الأعمال الامريكي، بما فيه من رعاية للفنون والأنشطة الخيرية، وبنائها لعلاقات مع أهم مراكز القوة والشرعية في العالم، بما في ذلك الفاتيكان، يعيش دون كورليون ليشهد عجزه عن وضع حد لعلاقة غير شرعية وغير مقبولة كاثوليكياً بين ابنته وخليفته المكرس، ابن شقيقه الأكبر، ويشهد عجزه عن الاستمرار في إدارة شؤون العائلة، وانتقال الراية لخليفته؛ كما يشهد مقتل ابنته الأقرب إلى روحه، ويموت على مقعده وحيداً في حديقة منزله المتهالك، في يوم خريفي بارد.

إن كان ثمة من معادل عربي لسيرة حياة دون كورليون، الأب والابن، والعائلة التي قاداها من اللاشيء إلى الذروة، ومن الذروة إلى الهاوية، فأسرة الأسد هي هذا المعادل. كما دون فيتو كورليون، أقام الأسد الأب، خطوة خطوة، وانقلاباً خلف الآخر، بصبر وأناة وحصافة تقليدية، كما بقسوة دموية لا ترحم، عائلة من الولاء والطاعة والشعور بالمسؤولية والواجب. عندما كان يرى أن التفاوض كاف لتحقيق الأهداف الضرورية، فاوض بلا تردد؛ وبمرونة فريدة، قاد عائلته بقدر كبير من المساومة والجريمة، والسياسة والقتل الجماعي. ولكنه استطاع، على أية حال، أن يحتفظ بحكم سورية كما لم يحتفظ بها أي زعيم سبقه منذ الاستقلال، وأن يفرض على عائلته، بمعناها الصغير ومعناها الأوسع، الأبناء والأشقاء، والمساعدون والأعوان والأتباع، انضباطاً ووحدة هدف قلما شهدتهما سورية من قبل. كما فيتو كورليون، لم يكن الأسد الأب يخطط لتولية الابن الأصغر خلافته؛ ولكن سخرية الأقدار، ومقتل الأبن الأكبر في حادث طريق، دفعت العائلة إلى اللجوء للابن الثاني، الذي بدا وكأنه اختار مسار حياة مختلف، بعيداً عن طريق العائلة ونهجها. وكما دون مايكل كورليون، جاء الأسد الابن إلى مقعد الحكم مسلحاً بمعرفة وخبرة، تختلفان عن خبرات ومعارف أعضاء العائلة الآخرين، وهالة خاصة، أضفتها عليه سنوات العيش والدراسة في جامعة دمشق وفي بريطانيا. ولأنه هو الآخر وجد نفسه في موضع المقارنة بالشقيق الأسطوري الغائب، ولم يؤخذ في البداية مأخذ الجد، كان عليه أن يثبت لنفسه وللآخرين جدارته بموقع الرئاسة وخلافة الأب المؤسس.

بيد أن هذه في النهاية عصابة أيضاً، ومن الصعب عليها التخلي عن قيم العصابة وأخلاقها. ربيع دمشق القصير، سرعان ما انفض وتكشف عن محاكم لأمن الدولة وزج فج لكبار شخصيات سورية ومثقفيها في السجون. وعندما اشتدت وطأة هجوم الخصوم، لم يكن من مفر من إطلاق حملة من الاغتيالات والموت في لبنان الشقيق. بين وقت وآخر، حاولت العائلة سلوك نهج الدولة وتقديم نفسها باعتبارها القائد الشرعي لسورية، والممثل الشرعي لمصالحها الوطنية، سيما وأن الرئيس الابن يدرك أن ليس في تاريخ الجمهوريات ما يبرر خلافته لوالده في قيادة البلاد. وقفت سورية، بقيادة الرئيس الابن، في مواجهة الغزو الامريكي للعراق، وحرست مصالحها بغض النظر عن نشاطات المقاومة العراقية ضد الاحتلال؛ ولم تخضع سورية للضغوط التي طالبتها بالتخلي عن قوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية؛ وعندما اشتعلت الحرب الإسرائيلية ضد لبنان، وقفت سورية، كما ينبغي لها أن تقف، إلى جانب المقاومة اللبنانية. ولكن العصابات، ومهما بلغت من شأو في إخفاء طبيعتها وطبائعها، ومكوناتها الموروثة من عهد التأسيس، تعود في النهاية إلى أصولها. وقد حلت لحظة الامتحان عندما انتفضت جموع الشعب السوري، مطالبة بالحرية والكرامة والعدل.

خلال أيام فقط من انطلاق الانتفاضة الشعبية السورية، تخلت العائلة عن مظهر الدولة وعادت مجرد عصابة. تتهم أجهزة العائلة المتظاهرين السوريين، من الأيام الأولى لحركة الشعب، بالإرهاب وحمل السلاح، وتبادر قوات العائلة إلى قتل الشعب السوري بلا تمييز، قصفاً بالمدفعية أو الطائرات. وكما إن للعصابة مظاهرها الشرعية، مؤسساتها وشركاتها ومحاموها وموظفوها، ولها أدواتها الخفية، أو غير الشرعية، من شبكات التهريب والابتزاز وأدوات القتل والاختطاف والتعذيب، فإن للعائلة السورية القائدة مؤسسات معروفة، توحي بوجود دولة، ولها ميليشيات من القتلة والمجرمين واللصوص، وأجهزة تقوم بكل ما تتعهده العصابات من عمل. هل يمكن لدولة أن تهاجم مدنها كما تهاجم قوات النظام السوري مدن وطنها، هل يمكن لجيش أو أجهزة دولة أن تعيث فساداً وتدميراً ببيوت المواطنين، بدور العبادة، بالمدارس والمستشفيات، كما تعيث قوات وأجهزة العائلة السورية الحاكمة بمنازل السوريين ومساجدهم ومدارسهم ومستشفياتهم؟ ليست هذه دولة بأي حال من الأحوال؛ هذه مجرد عصابة تحكم باسم الدولة؛ وللعصابات، في النهاية، ومهما طال الزمن، مصير واحد.

‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى